( وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ )
ولا جناح كذلك على القادرين على الحرب ، ولكنهم لا يجدون الرواحل التي تحملهم إلى أرض المعركة . فإذا حرموا المشاركة فيها لهذا السبب ، ألمت نفوسهم حتى لتفيض أعينهم دموعاً ، لأنهم لا يجدون ما ينفقون .
وإنها لصورة مؤثرة للرغبة الصحيحة في الجهاد ، والألم الصادق للحرمان من نعمة أدائه . وإنها لصورة واقعة حفظتها الروايات عن جماعة من المسلمين في عهد الرسول - [ ص ] - تختلف الروايات في تعيين أسمائهم ، ولكنها تتفق على الواقعة الصحيحة .
روى العوفي عن ابن عباس : " وذلك أن رسول اللّه - [ ص ] - أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه ، فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبد اللّه بن مغفل بن مقوى المازني ، فقالوا : يا رسول اللّه احملنا ، فقال لهم : " واللّه لا أجد ما أحملكم عليه "
فتولوا وهم يبكون ، وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملاً : فلما رأى اللّه حرصهم على محبته ومحبة رسوله أنزل عذرهم في كتابه .
وقال مجاهد : نزلت في بني مقرن من مزينة .
وقال محمد بن كعب كانوا سبعة نفر من بني عمرو بن عوف : سالم بن عوف ، ومن بني واقف : حرمي بن عمر ، ومن بني مازن بن النجار : عبد الرحمن بن كعب ويكنى أبا ليلى ، ومن بني المعلى : فضل اللّه ، ومن بني سلمة : عمرو بن عتمة وعبداللّه بن عمرو والمزني .
وقال ابن إسحاق في سياق غزوة تبوك : ثم إن رجالاً من المسلمين أتوا رسول اللّه - [ ص ] - وهم الباكون وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف : سالم بن عمير ، وعلية بن زيد أخو بني حارثة ، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة ، وعبد الله بن المغفل المزني ، وبعض الناس يقول : بل هو عبد الله بن عمرو المزني وحرمي بن عبد اللّه أخو بني واقف وعياض بن سارية الفزاري ، فاستحملوا رسول اللّه - [ ص ] - وكانوا أهل حاجة : فقال : " لا أجد ما أحملكم عليه " تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون .
بمثل هذه الروح انتصر الإسلام ، وبمثل هذه الروح عزت كلمته . فلننظر أين نحن من هؤلاء . ولننظر أين روحنا من تلك العصبة . ثم لنطلب النصر والعزة إن استشعرنا من أنفسنا بعض هذه المشاعر . وإلا فلنسدد ولنقارب واللّه المستعان .
القول في تأويل قوله تعالى ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون .
يقول تعالى ذكره ولا سبيل أيضا على النفر الذين إذا ما جاءوك لتحملهم يسألونك الحُمْلان ليبلغوا إلى مغزاهم لجهاد أعداء الله معك يا محمد ، قلت لهم : لا أجد حمولة أحملكم عليها تَوَلّوْا يقول : أدبروا عنك ، وأعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ حَزَنا وهم يبكون من حزن على أنهم لا يجدون ما ينفقون ويتحملون به للجهاد في سبيل الله .
وذكر بعضهم أن هذه الآية نزلت في نفر من مُزينة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلا على الّذِينَ إذَا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أجدُ ما أحْمِلكُمْ عَلَيْهِ قال : هم من مُزَينة .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وَلا على الّذِينَ إذَا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قال : هم بنو مقرّن من مزينة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، قراءة عن مجاهد في قوله : وَلا على الّذِينَ إذَا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ . . . إلى قوله : حزَنَا أن لا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ قال : هم بنو مقرن من مزينة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلا على الّذِينَ إذَا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قال : هم بنو مُقَرّن من مزينة .
قال : حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن عروة ، عن ابن مغفل المزني ، وكان أحد النفر الذين أنزلت فيهم : وَلا على الّذِينَ إذَا أتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ . . . الآية .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، عن ابن جريج عن مجاهد ، في قوله : تَوَلّوْا وأعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ حَزَنا قال : منهم ابن مُقَرّن . وقال سفيان : قال الناس : منهم عِرْباض بن سارية .
وقال آخرون : بل نزلت في عِرْباض بن سارية . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن ثور بن يزيد ، عن خالد بن مَعْدان ، عن عبد الرحمن بن عمرو والسّلَمِي ، وحُجْر بن حُجْر الكَلاعي ، قالا : دخلنا على عِرْباض بن سارية ، وهو الذي أنزل فيه : وَلا على الّذِينَ إذَا أتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ . . . الآية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سليمان بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا الوليد ، قال : حدثنا ثور ، عن خالد ، عن عبد الرحمن بن عمرو ، وحجر بن حجر بنحوه .
وقال آخرون : بل نزلت في نفر سبعة من قبائل شتى . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب وغيره ، قال جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحملونه ، فقال : «لا أجِدُ ما أحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ » فأنزل الله : وَلا على الّذِينَ إذَا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ . . . الآية ، قال : هم سبعة نفر من بني عمرو بن عوف سالم بن عمير ، ومن بنى واقف : حِرْميّ بن عمرو ، ومن بني مازن بن النجار : عبد الرحمن بن كعب ، يكنى أبا ليلى ، ومن بني المُعلّى : سَلْمان بن صخر ، ومن بني حارثة : عبد الرحمن بن يزيد أبو عبلة ، وهو الذي تصدّق بعرضه فقبله الله منه ، ومن بني سَلِمة : عمرو بن غنمة ، وعبد الله بن عمرو المزني .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قوله : وَلا على الّذِينَ إذَا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ إلى قوله : حَزَنا وهم البكاءون كانوا سبعة ، والله أعلم .
عطف على { الضعفاء والمرضى } [ التوبة : 91 ] وإعادة حرف النفي بعد العاطف للنكتة المتقدّمة هنالك .
والحَمل يطلق على إعطاء ما يُحمل عليه ، أي إذا أتوك لتعطيهم الحُمولة ، أي ما يركبونه ويحملون عليه سلاحهم ومُؤَنهم من الإبل .
وجملة : { فلت لا أجد } إلخ إمّا حال من ضمير المخاطب في { أتوك } وإمّا بدل اشتمال من فعل { أتوك } لأن إتيانهم لأجل الحمل يشتمل على إجابة ، وعلى منع .
وجملة { تولوا } جواب { إذا } والمجموع صلة الذين .
والتولّي الرجوع . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { ما ولاهم عن قبلتهم } [ البقرة : 142 ] وقوله : { وإذا تولى سعى في الأرض } في سورة البقرة ( 205 ) .
والفيض والفيضان : خروج الماء ونحوه من قراره ووعائه ، ويسند إلى المائع حقيقة . وكثيراً ما يسند إلى وعاء المائع ، فيقال : فاض الوادي ، وفاض الإناء . ومنه فاضت العين دمعاً وهو أبلغ من فاض دمعها ، لأنّ العين جعلت كأنّها كلّها دمع فائض ، فقوله : تفيض من الدمع } جرى على هذا الأسلوب .
و { من } لبيان ما منه الفيض . والمجرور بها في معنى التمييز . وقد تقدّم في قوله تعالى : { ترى أعينهم تفيض من الدمع } في سورة المائدة ( 83 ) .
و{ حَزَناً } نصب على المفعول لأجله ، و { أن لا يجدوا ما يُنفقون } مجرور بلام جرّ محذوف أي حزنوا لأنهم لا يجدون ما ينفقون .
والآية نزلت في نفر من الأنصار سبعة وقيل : فيهم من غير الأنصار واختلف أيضاً في أسمائهم بما لا حاجة إلى ذكره ولُقّبوا بالبكّائين لأنّهم بكَوا لمّا لم يجدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الحُملان حزناً على حرمانهم من الجهاد . وقيل : نزلت في أبي موسى الأشعري ورهط من الأشعريين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك يستحملونه فلم يجد لهم حمولة وصادفوا ساعة غضب من النبي صلى الله عليه وسلم فحلف أن لا يحملهم ثم جاءه نهب إبل فدعاهم وحملهم وقالوا : استغفلْنا رسولَ الله يمينَه لا نفلح أبداً ، فرجعوا وأخبروه فقال : « ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم وإنّي والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلاّ كفَّرت عن يميني وفعلتُ الذي هو خير » والظاهر أنّ هؤلاء غير المعنيين في هذه الآية لأنّ الأشعريين قد حملهم النبي عليه الصلاة والسلام وعن مجاهد أنّهم بنو مقرّن من مزينة ، وهم الذين قيل : إنّه نزل فيهم قوله تعالى : { ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر } [ التوبة : 99 ] الآية .