في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلَّـٰٓـِٔي يَئِسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَٰثَةُ أَشۡهُرٖ وَٱلَّـٰٓـِٔي لَمۡ يَحِضۡنَۚ وَأُوْلَٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا} (4)

( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم - إن ارتبتم - فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن . وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن . ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا . ذلك أمر الله أنزله إليكم ، ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا ) .

وهذا تحديد لمدة العدة لغير ذوات الحيض والحمل . يشمل اللواتي انقطع حيضهن ، واللاتي لم يحضن بعد لصغر أو لعلة . ذلك أن المدة التي بينت من قبل في سورة البقرة كانت تنطبق على ذوات الحيض - وهي ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار من الحيضات . حسب الخلاف الفقهي في المسألة - فأما التي انقطع حيضها والتي لم تحض أصلا فكان حكمها موضع لبس : كيف تحسب عدتها ? فجاءت هذه الآية تبين وتنفي اللبس والشك ، وتحدد ثلاثة أشهر لهؤلاء وهؤلاء ، لاشتراكهن في عدم الحيض الذي تحسب به عدة أولئك . أما الحوامل فجعل عدتهن هي الوضع . طال الزمن بعد الطلاق أم قصر . ولو كان أربعين ليلة فترة الطهر من النفاس . لأن براءة الرحم بعد الوضع مؤكدة ، فلا حاجة إلى الانتظار . والمطلقة تبين من مطلقها بمجرد الوضع ، فلا حكمة في انتظارها بعد ذلك ، وهي غير قابلة للرجعة إليه إلا بعقد جديد على كل حال . وقد جعل الله لكل شيء قدرا . فليس هناك حكم إلا ووراءه حكمة .

هذا هو الحكم ثم تجيء اللمسات والتعقيبات :

( ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ) . .

واليسر في الأمر غاية ما يرجوه إنسان . وإنها لنعمة كبرى أن يجعل الله الأمور ميسرة لعبد من عباده . فلا عنت ولا مشقة ولا عسر ولا ضيقة . يأخذ الأمور بيسر في شعوره وتقديره . وينالها بيسر في حركته وعمله . ويرضاها بيسر في حصيلتها ونتيجتها . ويعيش من هذا في يسر رخي ندي ، حتى يلقى الله . . ألا إنه لإغراء باليسر في قضية الطلاق مقابل اليسر في سائر الحياة !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَٱلَّـٰٓـِٔي يَئِسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَٰثَةُ أَشۡهُرٖ وَٱلَّـٰٓـِٔي لَمۡ يَحِضۡنَۚ وَأُوْلَٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا} (4)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نّسَآئِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدّتُهُنّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاّتِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاَتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ وَمَن يَتّقِ اللّهَ يَجْعَل لّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } .

يقول تعالى ذكره : والنساء اللاتي قد ارتفع طمعهنّ عن المحيض ، فلا يرجون أن يحضن من نسائكم إنِ ارتبتم .

واختلف أهل التأويل في معنى قوله : إنِ ارْتَبْتُمْ فقال بعضهم : معنى ذلك : إن ارتبتم بالدم الذي يظهر منها لكبرها ، أمن الحيض هو ، أم من الاستحاضة ، فعِدّتهنّ ثلاثة أشهر . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إنِ ارْتَبْتُمْ إن لم تعلموا التي قعدت عن الحيضة ، والتي لم تحض ، فعدتهنّ ثلاثة أشهر .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ إنِ ارْتَبْتُمْ قال : في كبرها أن يكون ذلك من الكبر ، فإنها تعتدّ حين ترتاب ثلاثة أشهر فأما إذا ارتفعت حيضة المرأة وهي شابة ، فإنه يتأنى بها حتى ينظر حامل هي أم غير حامل ؟ فإن استبان حملها ، فأجلها أن تضع حملها ، فإن لم يستبن حملها ، فحتى يستبين بها ، وأقصى ذلك سنة .

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَاللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدّتُهُنّ ثَلاثَةُ أشْهُرٍ قال : إن ارتبت أنها لا تحيض وقد ارتفعت حيضتها ، أو ارتاب الرجال ، أو قالت هي : تركتني الحيضة ، فعدتهنّ ثلاثة أشهر إن ارتاب ، فلو كان الحمل انَتَظر الحملَ حتى تنقضي تسعة أشهر ، فخاف وارتاب هو ، وهي أن تكون الحيضة قد انقطعت ، فلا ينبغي لمسلمة أن تحبَس ، فاعتدت ثلاثة أشهر ، وجعل الله جلّ ثناؤه أيضا للتي لم تحض الصغيرة ثلاثة أشهر .

حدثنا ابن عبد الرحيم البَرْقيّ ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : أخبرنا أبو معبد ، قال : سُئل سليمان عن المرتابة ، قال : هي المرتابة التي قد قعدت من الولد تطلق ، فتحيض حيضة ، فيأتي إبّان حيضتها الثانية فلا تحيض قال : تعتدّ حين ترتاب ثلاثة أشهر مستقبلة قال : فإن حاضت حيضتين ثم جاء إبان الثالثة فلم تحض اعتدّت حين ترتاب ثلاثة أشهر مستقبلة ، ولم يعتدّ بما مضى .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : إن ارتبتم بحكمهنّ فلم تدروا ما الحكم في عدتهنّ ، فإن عدتهنّ ثلاثة أشهر . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا مطرف ، عن عمرو بن سالم ، قال : قال أبيّ بن كعب : يا رسول الله إن عِددا من عِدد النساء لم تذكر في الكتاب الصغار والكبار ، وأولات الأحمال ، فأنزل الله : وَاللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدّتُهُنّ ثَلاثَةُ أشْهُرٍ واللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ .

وقال آخرون : معنى ذلك : إن ارتبتم مما يظهر منهنّ من الدم ، فلم تدروا أدم حيض ، أم دم مستحاضة من كبر كان ذلك أو علة ؟ ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عكرِمة ، قال : إن من الريبة : المرأة المستحاضة ، والتي لا يستقيم لها الحيض ، تحيض في الشهر مرارا ، وفي الأشهر مرّة ، فعدتها ثلاثة أشهر ، وهو قول قتادة .

وأولى الأقوال في ذلك بالصحة قول من قال : عُنِي بذلك : إن ارتبتم فلم تدروا ما الحكم فيهنّ ، وذلك أن معنى ذلك لو كان كما قاله من قال : إن ارتبتم بدمائهنّ فلم تدروا أدم حيض ، أو استحاضة ؟ لقيل : إن ارتبتنّ لأنهنّ إذا أشكل الدم عليهنّ فهنّ المرتابات بدماء أنفسهنّ لا غيرهنّ ، وفي قوله : إن ارْتَبْتُمْ وخطابه الرجال بذلك دون النساء الدليل الواضح على صحة ما قلنا من أن معناه : إن ارتبتم أيها الرجال بالحكم فيهنّ وأخرى وهو أنه جلّ ثناؤه قال : وَاللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إنِ ارْتَبْتُمْ واليائسة من المحيض هي التي لا ترجو محيضا للكبر ، ومحال أن يقال : واللائي يئسن ، ثم يقال : ارتبتم بيأسهنّ ، لأن اليأس : هو انقطاع الرجاء والمرتاب بيأسها مرجوّ لها ، وغير جائز ارتفاع الرجاء ووجوده في وقت واحد ، فإذا كان الصواب من القول في ذلك ما قلنا ، فبين أن تأويل الاَية : واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم بالحكم فيهنّ ، وفي عِددهنّ ، فلم تدروا ما هنّ ، فإن حكم عددهنّ إذا طلقن ، وهنّ ممن دخل بهنّ أزواجهنّ ، فعدتهنّ ثلاثة أشهر وَاللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ يقول : وكذلك عدد اللائي لم يحضن من الجواري لصغر إذا طلقهنّ أزواجهنّ بعد الدخول . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في قوله : وَاللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحيضِ مِنْ نِسائِكُمْ يقول : التي قد ارتفع حيضها ، فعدتها ثلاثة أشهر واللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ قال : الجواري .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَاللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحيضِ مِنْ نِسائِكُمْ وهنّ اللواتي قعدن من المحيض فلا يحضن ، واللائي لم يحضن هنّ الأبكار التي لم يحضن ، فعدتهنّ ثلاثة أشهر .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَاللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ . . . الاَية ، قال : القواعد من النساء واللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ : لم يبلغن المحيض ، وقد مُسِسْن ، عدتهنّ ثلاثة .

وقوله : وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ في انقضاء عدتهنّ أن يضعن حملهنّ ، وذلك إجماع من جميع أهل العلم في المطلقة الحامل ، فأما في المتوفي عنها ففيها اختلاف بين أهل العلم .

وقد ذكرنا اختلافهم فيما مضى من كتابنا هذا ، وسنذكر في هذا الموضع ما لم نذكره هنالك .

ذكر من قال : حكم قوله وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ عام في المطلّقات والمتوفي عنهنّ .

حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصريّ ، قال : حدثنا سعيد ابن أبي مريم ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : ثني ابن شبرمة الكوفي ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن قيس أن ابن مسعود قال : من شاء لاعنته ، ما نزلت : وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ إلا بعد آية المتوفي عنها زوجها ، وإذا وضعت المتوفي عنها فقد حلت يريد بآية المتوفي عنها : وَالّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أزْوَاجا يَترَبّصْنَ بأنْفُسِهِنّ أرْبَعَةَ أشْهِرٍ وعَشْرا .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا مالك ، يعني ابن إسماعيل ، عن ابن عيينة ، عن أيوب ، عن ابن سيرين عن أبي عطية قال : سمعت ابن مسعود يقول : من شاء قاسمته نزلت سورة النساء القُصْرَى بعدها ، يعني بعد أربعة أشهر وعشرا .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن محمد ، قال : لقيت أبا عطية مالك بن عامر ، فسألته عن ذلك ، يعني عن المتوفي عنها زوجها إذا وضعت قبل الأربعة الأشهر والعشر ، فأخذ يحدثني بحديث سُبيعة ، قلت : لا ، هل سمعت من عبد الله في ذلك شيئا ؟ قال : نعم ، ذكرت ذات يوم أو ذات ليلة عند عبد الله ، فقال : أرأيت إن مضت الأربعة الأشهر والعشر ولم تضع أقد أحلّت ؟ قالوا : لا ، قال : أفتجعلون عليها التغليظ ، ولا تجعلون لها الرخصة ، فوالله لأنزلت النساء القُصْرَى بعد الطّولى .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، قال : قال الشعبيّ : من شاء حالفته لأنزلت النساء القُصْرَى بعد الأربعة الأشهر والعشر التي في سورة البقرة .

حدثني أحمد بن منيع ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبيّ ، قال : ذكر عبد الله بن مسعود آخر الأجلين ، فقال : من شاء قاسمته بالله أن هذه الاَية التي أنزلت في النساء القُصْرَى نزلت بعد الأربعة الأشهر ، ثم قال : أجل الحامل أن تضع ما في بطنها .

/ حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مُغيرة ، قال : قلت للشعبي : ما أصدّق أن عليا رضي الله عنه كان يقول : آخر الأجلين أن لا تتزوّج المتوفي عنها زوجها حتى يمضي آخر الأجلين قال الشعبيّ : بلى وصدق أشدّ ما صدّقت بشيء قط وقال عليّ رضي الله عنه : إنما قوله وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ المطلقات ، ثم قال : إن عليا رضي الله عنه وعبد الله كانا يقولان في الطلاق بحلول أجلها إذا وضعت حملها .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا موسى بن داود ، عن ابن لهيعة ، عن عمرو بن شعيب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أُبيّ بن كعب ، قال : لما نزلت هذه الاَية : وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ قال : قلت : يا رسول الله ، المتوفي عنها زوجها والمطلقة ، قال : «نَعَمْ » .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا مالك بن إسماعيل ، عن ابن عيينة ، عن عبد الكريم بن أبي المخارق ، يحدّث عن أُبيّ بن كعب ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ قال : «أجَلُ كُلّ حامِل أنْ تَضَعَ ما في بَطْنِها » .

حدثني محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، قوله وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ قال : للمرأة الُحْبَلى التي يطلقها زوجها وهي حامل ، فعدتها أن تضع حملها .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ فإذا وضعت ما في رحمها فقد انقضت عدتها ، ليس المحيض من أمرها في شيء إذا كانت حاملاً .

وقال آخرون : ذلك خاصّ في المطلقات ، وأما المتوفي عنها فإن عدتها آخر الأجلين ، وذلك قول مرويّ عن عليّ وابن عباس رضي الله عنهما .

وقد ذكرنا الرواية بذلك عنهما فيما مضى قبل .

والصواب من القول في ذلك أنه عامّ في المطلقات والمتوفي عنهنّ ، لأن الله جلّ وعزّ ، عمّ بقوله بذلك فقال : وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ ولم يخصص بذلك الخبر عن مطلقة دون متوفي عنها ، بل عمّ الخبر به عن جميع أولات الأحمال . إن ظنّ ظانّ أن قوله وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ في سياق الخبر عن أحكام المطلقات دون المتوفي عنهنّ ، فهو بالخبر عن حكم المطلقة أولى بالخبر عنهنّ ، وعن المتوفي عنهنّ ، فإن الأمر بخلاف ما ظنّ ، وذلك أن ذلك وإن كان في سياق الخبر عن أحكام المطلقات ، فإنه منقطع عن الخبر عن أحكام المطلقات ، بل هو خبر مبتدأ عن أحكام عدد جميع أولات الأحمال المطلقات منهنّ وغير المطلقات ، ولا دلالة على أنه مراد به بعض الحوامل دون بعض من خبر ولا عقل ، فهو على عمومه لما بيّنا .

وقوله : وَمَنْ يَتّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَه مِنْ أمْرِهِ يُسْرا يقول جلّ ثناؤه : ومن يخَفِ الله فرهِبَهُ ، فاجتنب معاصيه ، وأدّى فرائضه ، ولم يخالف إذنه في طلاق امرأته ، فإنه يجعل الله له من طلاقه ذلك يسرا ، وهو أن يسهل عليه إن أراد الرخصة لاتباع نفسه إياها الرجعة ما دامت في عدتها وإن انقضت عدتها ، ثم دعته نفسه إليها قدر على خطبتها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلَّـٰٓـِٔي يَئِسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَٰثَةُ أَشۡهُرٖ وَٱلَّـٰٓـِٔي لَمۡ يَحِضۡنَۚ وَأُوْلَٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا} (4)

{ اللائي } : هو جمع ذات في ما حكى أبو عبيدة وهو ضعيف ، والذي عليه الناس أنه : جمع التي ، وقد يجيء جمعاً للذي ، واليائسات من المحيض على مراتب ، فيائسة هو أول يأسها ، فهذه ترفع إلى السنة ، ويبقيها الاحتياط على حكم من ليست بيائسة ، لأنَّا لا ندري لعل الدم يعود ، ويائسة قد انقطع عنها الدم لأنها طعنت في السن ثم طلقت ، وقد مرت عادتها بانقطاع الدم ، إلا أنها مما يخاف أن تحمل نادراً فهذه التي في الآية على أحد التأولين في قوله : { إن ارتبتم } وهو قول من يجعل الارتياب بأمر الحمل وهو الأظهر ، ويائسة قد هرمت حتى تتيقن أنها لا تحمل ، فهذه ليست في الآية ، لأنها لا يرتاب بحملها ، لكنها في حكم الأشهر الثلاثة إجماعاً فيما علمت ، وهي في الآية على تأويل من يرى قوله : { إن ارتبتم } ، في حكم اليائسات ، وذلك أنه روى إسماعيل بن أبي خالد أن قوماً منهم أبي بن كعب وخلاد بن النعمان{[11164]} لما سمعوا قول الله عز وجل : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء }{[11165]} [ البقرة : 228 ] قالوا يا رسول الله : فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر ؟ فنزلت الآية ، فقال قائل منهم : فما عدة الحامل ؟ فنزلت : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن }{[11166]} ، وقد تقدم ذكر الخلاف في تأويل : { إن ارتبتم } ، { وأولات } جمع ذات ، وأكثر أهل العلم على أن هذه الآية تعم الحوامل المطلقات والمعتدات من الوفاة والحجة حديث سبيعة الأسلمية قالت : كنت تحت سعد بن خولة فتوفي في حجة الوداع ، ووضعت حملها قبل أربعة أشهر ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : «قد حللت » وأمرها أن تتزوج{[11167]} ، وقال ابن مسعود : نزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى ، يعني أن قوله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } نزلت بعد قوله تعالى { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً }{[11168]} [ البقرة : 234 ] ، وقال ابن عباس وعلي بن أبي طالب : إنما هذه في المطلقات ، وأما في الوفاة فعدة الحامل آخر الأجلين إن وضعت قبل أربعة أشهر وعشر تمادت إلى آخرها ، والقول الأول أشهر ، وعليه الفقهاء ، وقرأ الضحاك : «أحمالهن » على الجمع ، وأمر الله تعالى بإسكان المطلقات ولا خلاف في ذلك في التي لم تبت . وأما المبتوتة ، فمالك رحمه الله يرى لها السكنى لمكان حفظ النسب ، ولا يرى لها نفقة ، لأن النفقة بإزاء الاستمتاع ، وهو قول الأوزاعي والشافعي وابن أبي ليلى وابن عبيد وابن المسيب والحسن وعطاء والشعبي وسليمان بن يسار ، وقال أصحاب الرأي والثوري : لها السكنى والنفقة ، وقال جماعة من العلماء : ليس لها السكنى ولا نفقة .


[11164]:جاء في الإصابة أنه خلاد بن النعمان الأنصاري، وأن مقاتل أبو سليمان ذكر في تفسيره أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن عدة التي لا تحيض، فنزلت{واللائي يئسن من المحيض} الآية.
[11165]:من الآية (228) من سورة (البقرة).
[11166]:أخرجه عبد الرزاق، وابن المنذر، من طريق الثوري، عن إسماعيل، هكذا قال السيوطي في "الدر المنثور"، وليس في النص الذي أورده ذكر لمن سأل الرسول صلى الله عليه وسلم.
[11167]:أخرجه ابن أبي شيبة، وابن مردويه، عن سبيعة الأسلمية، وفيه أنها وضعت بعد وفات زوجها بخمس وعشرين ليلة، وأخرج مثله ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن مردويه، عن أبي السنابل بن بعكك، وفيه أن سُبيعة وضعت بعد وفاة زوجها بثلاث وعشرين ليلة، وفي رواية لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن المسور بن مخرمة أنها لم تمكث إلا ليالي يسيرة.(الدر المنثور).
[11168]:من الآية (234) من سورة (البقرة).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱلَّـٰٓـِٔي يَئِسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَٰثَةُ أَشۡهُرٖ وَٱلَّـٰٓـِٔي لَمۡ يَحِضۡنَۚ وَأُوْلَٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا} (4)

{ واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ واللائي لَمْ يَحِضْنَ } .

عطف على قوله : { فطلقوهن لعدتهن } [ الطلاق : 1 ] فإن العدة هنالك أريد بها الأقراء فأشعر ذلك أن تلك المعتدة ممن لها أقراء ، فبقي بيان اعتداد المرأة التي تجاوزت سن المحيض أو التي لم تبلغ سن من تحيض وهي الصغيرة . وكلتاهما يصدق عليها أنها آيسة من المحيض ، أي في ذلك الوقت .

والوقف على قوله : { واللائي لم يحضن } ، أي هن معطوفات على الآيسين .

واليأس : عدم الأمل . والمأيوس منه في الآية يعلم من السياق من قوله : { فطلقوهن لعدتهن } [ الطلاق : 1 ] ، أي يئسن من المحيض سواء كان اليأس منه بعد تعدده أو كان بعدم ظهوره ، أي لم يكن انقطاعه لمرض أو إرضاع . وهذا السنّ يختلف تحديده باختلاف الذوات والأقطار كما يختلف سن ابتداء الحيض كذلك . وقد اختُلف في تحديد هذا السنّ بعدد السنين فقيل : ستون سنة ، وقيل : خمس وخمسون ، وترك الضبط بالسنين أولى وإنما هذا تقريب لإبّان اليأس .

والمقصود من الآية بيِّن وهي مخصصة لعموم قوله : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } من سورة [ البقرة : 228 ] . وقد نزلت سورة الطلاق بعد سورة البقرة .

وقد خفي مفاد الشرط من قوله : { إن ارتبتم } وما هو متصل به . وجمهور أهل التفسير جعلوا هذا الشرط متصلاً بالكلام الذي وقع هو في أثنائه ، وإنه ليس متصلاً بقوله : { لا تخرجوهن من بيوتهن } [ الطلاق : 1 ] في أول هذه السورة خلافاً لشذوذ تأويل بعيد وتشتيت لشمل الكلام ، ثم خفيَ المراد من هذا الشرط بقوله : { إن ارتبتم } .

وللعلماء فيه طريقتان :

الطريقة الأولى : مشَى أصحابها إلى أن مرجع اليأس غير مرجع الارتياب باختلاف المتعلق ، فروى أشهب عن مالك أن الله تعالى لما بين عدة ذوات القُروء وذوات الحمل ، أي في سورة البقرة ، وبقيت اليائسة والتي لم تحض ارتاب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في أمرهما فنزلت هذه الآية ، ومثله مروي عن مجاهد ، وروى الطبري خبراً عن أبيّ بن كعب أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اعتداد هاتين اللتين لم تذكرا في سورة البقرة ، فنزلت هذه الآية . فجعلوا حرف { إنْ } بمعنى ( إذْ ) وأن الارتياب وقع في حكم العدة قبل نزول الآية ، أي إذ ارتبتم في حكم ذلك فبيّنّاه بهذه الآية قال ابن العربي : حديث أُبّي غير صحيح . وأنا أقول : رواه البيهقي في « سننه » والحاكم في « المستدرك » وصَحّحه . والطبراني بسنده عن عَمرو بن سالم أن أبَيَّا قال : وليس في رواية الطبري ما يدل على إسناد الحديث .

وهو في رواية البيهقي بسنده إلى أبي عثمان عُمر بن سالم الأنصاري{[427]} عن أُبي بن كعب وهو منقطع ، لأن أبا عثمان لم يلق أُبي بن كعب وأحسب أنه في « مستدرك الحاكم » كذلك لأن البيهقي رواه عن الحاكم فلا وجه لقول ابن العربي : هو غير صحيح .

فإن رجال سنده ثقات .

وفي « أسباب النزول » للواحدي عن قتادة أن خلاد بن النعمان وأبيَّا سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت هذه الآية . وقيل : إن السائل معاذ بن جبل سأل عن عدة الآيسة .

فالريبة على هذه الطريقة تكون مراداً بها ما حصل من التردد في حكم هؤلاء المطلقات فتكون جملة الشرط معترضة بين المبتدأ وهو الموصول وبين خبره وهو جملة { فعدتهن ثلاثة أشهر } .

والفاء في { فعدتهن } داخلة على جملة الخبر لما في الموصول من معنى الشرط مثل قوله تعالى : { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما } [ النساء : 16 ] ومثله كثير في الكلام .

والارتياب على هذا قد وقع فيما مضى فتكون { إنْ } مستعملة في معنى اليقين بلا نكتة .

والطريقة الثانية : مشى أصحابها إلى أن مرجع اليأس ومرجع الارتياب واحد ، وهو حالة المطلقة من المحيض ، وهو عن عكرمة وقتادة وابن زيد وبه فسر يحيى بن بكير وإسماعيل بن هاد مِن المالكية ونسبه ابن لبابة من المالكية إلى داود الظاهري .

وهذا التفسير يمحض أن يكون المراد من الارتياب حصول الريب في حال المرأة .

وعلى هذا فجملة الشرط وجوابه خَبر عن { اللاء يئسن } ، أي إن ارتبن هُن وارتبتُم أنتم لأجل ارتيابهن ، فيكون ضمير جمع الذكور المخاطبين تغليباً ويبقى الشرط على شرطيته . والارتياب مستقبل والفاء رابطة للجواب .

وهذا التفسير يقتضي أن يكون الاعتداد بثلاثة أشهر مشروطاً بأن تحصل الريبة في يأسها من المحيض فاصطَدم أصحابُه بمفهوم الشرط الذي يقتضي أنه إن لم تحصل الريبة في يأسهن أنهن لا يعتددن بذلك أو لا يعتددن أصلاً فنسب ابنُ لبابة ( من فقهاء المالكية ) إلى داود الظاهري أنه ذهب إلى سقوط العدة عن المرأة التي يُوقَن أنها يائسة .

قلت ولا تُعرف نسبة هذا إلى داود . فإن ابن حزم لم يحكه عنه ولا حكاه أحد ممن تعرضوا لاختلاف الفقهاء ، قال ابن لبابة : وهو شذوذ ، وقال ابن لبابة : وأمّا ابن بكير وإسماعيلُ بن حمَّاد ، أي من فقهاء المالكية فجعلا المرأة المتيقّن يأسها ملحقةً بالمرتابة في العدة بطريق القياس يريد أن العدة لها حكمتان براءة الرحم ، وانتظار المراجعة ، وأما الذين لا يعتبرون مفهوم المخالفة فهم في سعة مما لزم الذين يعتبرونه .

وأصحاب هذا الطريق مختلفون في الوجهة وفي محمل الآية بحسبها : فقال عكرمة وابن زيد وقتادة : ليس على المرأة المرتاب في معاودة الحيض إليها عدّة أكثر من ثلاثة أشهر تعلقاً بظاهر الآية ( ولعل علة ذلك عندهم أن ثلاثة الأشهر يتبيّن فيها أمر الحمل فإن لم يظهر حمل بعد انقضائها تمت عدة المرأة ) ، لأن الحمل بعد سنّ اليأس نادر فإذا اعترتها ريبة الحمل انتَقل النظر إلى حكم الشك في الحمل وتلك مسألة غير التي نزلت في شأنها الآية .

وقال الأكثرون من أهل العلم : إن المرتاب في يأسها تمكث تسعة أشهر ( أي أمدَ الحملِ المعتادِ ) فإن لم يظهر بها حمل ابتْدأت الاعتداد بثلاثة أشهر فتكمل لها سنةٌ كاملة . وأصل ذلك ما رواه سعيد بن المسيب من قضاء عمر بن الخطاب ولم يخالفه أحد من الصحابة ، وأخذ به مالك . وعن مالك في « المدونة » : تسعة أشهر للريبة والثلاثة الأشهر هي العدة . ولعلهم رأوا أن العدة بعد مضي التسعة الأشهر تعبُّد لأن ذلك هو الذي في القرآن وأما التسعة الأشهر فأوجبها عمر بن الخطاب لعله بالاجتهاد ، وهو تقييد للإِطلاق الذي في الآية .

وقال النخعي وسفيان الثوري وأبو حنيفة والشافعي : تعتد المرتاب في يأسها بالأقراء ( أي تنتظر الدم إلى أن تبلغ سن من لا يشبه أن تحيض ولو زادت مدة انتظارها على تسعة أشهر ) . فإذا بلغت سن اليأس دون ريبة اعتدّت بثلاثة أشهر من يومئذٍ . ونحن نتأول له بأن تقدير الكلام : فعدتهن ثلاثة أشهر ، أي بعد زوال الارتياب كما سنذكره ، وهو مع ذلك يقتضي أن هذه الثلاثة الأشهر بعد مضي تسعة أشهر أو بعد مضي مدة تبلغ بها سن من لا يشبه أن تحيض تعبدٌ ، لأن انتفاء الحمل قد اتضح وانتظار المراجعة قد امتدّ . إلا أن نعتذر لهم بأن مدة الانتظار لا يتحفز في خِلالها المطلِّق للرأي في أمر المراجعة لأنه في سعة الانتظار فيُزاد في المدة لأجل ذلك ، وفي « تفسير القرطبي » : « قال عكرمة وقتادة : من الريبة المرأة المستحاضة التي لا يستقيم لها الحيض تحيض في أول الشهر مراراً ، وفي الأشهر مرة ( أي بدون انضباط ) » اه . ونقل الطبري مثل هذا الكلام عن الزهري وابن زيد ، فيجب أن يصار إلى هذا الوجه في تفسير الآية . والمرأة إذا قاربت وقت اليأس لا ينقطع عنها المحيض دفعة واحدة بل تبقى عدة أشهر ينتابها الحيض غِبًّا بدون انتظام ثم ينقطع تماماً .

وقوله تعالى : { واللائي لم يحضن } عطف على { واللائي يئسن } والتقدير : عدتهن ثلاثة أشهر . ويحسن الوقف على قوله : { فعدتهن ثلاثة أشهر } .

{ وأولات الاحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حملهن } .

معطوفة على جملة { واللائي لم يحضن } فهي إتمام لأحوال العدة المجمل في قوله تعالى : { وأحصوا العدة } [ الطلاق : 1 ] وتقدير الكلام : وأولات الأحمال منهن ، أي من المطلقات أجلهن أن يضعن حملهن .

فحصل بهذه الآية مع التي قبلها تفصيل لأحوال المطلقات وحصل أيضاً منها بيان لإِجمال الآية التي في سورة البقرة .

{ وأولات } اسم جَمع لذاتتٍ بمعنى : صاحبة . وذات : مؤنث ذو ، بمعنى : صاحب . ولا مفرد ل { أولات } من لفظه كما لا مفرد للفظ ( أولو ) و { أولات } مثل ذوات كما أن أولو مثل ذَوُو . ويكتب { أولات } بواو بعد الهمزة في الرسم تبعاً لكتابة لفظ ( أولو ) بواو بعد الهمزة لقصد التفرقة في الرسم بين أولي في حالة النصب والجر وبين حرف ( إلى ) .

وليتهم قصروا كتابته بواو بعد الهمزة على لفظ أولي المذكر المنصوب أو المجرور وتركوا التكلف في غيرهما .

وجعلت عدة المطلقة الحامل منهَّاة بوضع الحمل لأنه لا أدل على براءة الرحم منه ، إذ الغرض الأول من العدة تحقق براءة الرحم من ولدٍ للمطلِّق أو ظهور اشتغال الرحم بجنين له . وضمّ إلى ذلك غرض آخر هو ترقب ندم المطلق وتمكينه من تدارك أمره بالمراجعة ، فلما حصل الأهم أُلغي ما عداه رعْياً لحق المرأة في الانطلاق من حرج الانتظار ، على أن وضع الحمل قد يحصل بالقرب من الطلاق فألغي قصد الانتظار تعليلاً بالغالب دون النادر ، خلافاً لمن قال في المتوفى عنها : عليها أقصى الأجلين وهو منسوب إلى علي بن أبي طالب وابن عباس .

وبهذا التفسير لا تتعارض هذه الآية مع آية عدة المتوفى عنها التي في سورة [ البقرة : 234 ] { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً } لأن تلك في وادٍ وهذه في وادٍ ، تلك في شأن المتوفى عنهن وهذه في شأن المطلقات .

ولكن لما كان أجل أربعة أشهر وعشر للمتوفى عنها منحصرةً حكمتُه في تحقق براءة رحم امرأة المتوفى من ولدٍ له إذ له فائدة فيه غيرَ ذلك ( ولا يتوهم أن الشريعة جعلت ذلك لغرض الحزن على الزوج المتوفى للقطع بأن هذا مقصد جاهلي ) ، وقد دلت الشريعة في مواضع على إبطاله والنهي عنه في تصاريف كثيرة كما بينّاه في تفسير قوله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن } الخ في سورة [ البقرة : 234 ] .

وقد علمنا أن وضع الحمل غاية لحصول هذا المقصد نجم من جهة المعنى أن المتوفى عنها الحاملَ إذا وضعت حملها تخرج من عدة وفاة زوجها ولا تقضي أربعة أشهر وعشراً كما أنها لو كان أمد حملها أكثر من أربعة أشهر وعشر لا تقتصر على الأربعة الأشهر وعشر إذ لا حكمة في ذلك .

من أجْل ذلك كانت الآية دالة على أن عدة الحامل وضع حملها سواء كانت معتدة من طلاق أم كانت معتدة من وفاة .

ومن أجل ذلك قال جمهور أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم : إن عدة الحامل المتوفّى عنها كعدتها من الطلاق وضع حملها غير أن أقوالهم تدل على أن بينهم من كانوا يرون في تعارض العمومين أن العامّ المتأخر منهما ينسخ العامّ الآخر وهي طريقة المتقدمين .

روى أهل الصحيح أن عبد الله بن مسعود لما بلغه أن عليّ بن أبي طالب قال في عدة الحامل المتوفّي عنها : إن عليها أقصَى الأجلين أي أجل وضع الحمل وأجل الأربعة الأشهر والعشر قال ابن مسعود : لَنَزَلَتْ سورة النساء القُصرى أي سورة الطلاق بعد الطولى أي بعد طولى السور وهي البقرة ، أي ليست آية سورة البقرة بناسخة لما في آية سورة الطلاق .

ويعضدهم خبر سبيعة بنت الحارث الأسلمية توفي زوجها سعدُ بن خولة في حجة الوداع بمكة وتركها حاملاً فوضعت بعد وفاته بخمس عشرة ليلة وقيل بأربعين ليلة . فاستأذنت رسولَ الله في التزوج فقال لها : قد حَلَلْتتِ فانكحي إن شئتِ . روته أم سلمة أم المؤمنين وقبله معظم الصحابة الذين بلغهم . وتلقاه الفقهاء بعدهم بالقبول ويشهد له بالمعنى والحكمة كما تقدم آنفاً .

واختلف المتأخرون من أهل الأصول في وجه العمل في تعارض عمومين كل واحد منهما عام من وجه مثل هاتين الآيتين فالجمهور درجوا على ترجيح أحدهما بمُرجح والحنفية جعلوا المتأخِر من العمومين ناسخاً للمتقدم . فقوله : وأولات الأحمال } لأن الموصول من صيغ العموم فيعم كل حامل معتدة سواء كانت في عدة طلاق أو في عدة وفاة ، وقوله : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً } [ البقرة : 234 ] تَعمّ كلّ امرأة تركها الميت سواء كانت حاملاً أو غير حامل ، لأن { أزواجاً } نكرة وقعت مفعولَ الصلة وهي { يَذرون } المشتملة على ضمير المَوصول الذي هو عام فمفعوله تبع له في عمومه فيشمل المتوفى عنهن الحوامل وهن ممن شملهن عموم { أولات الأحمال } فتعارض العمومان كل من وجه ، فآية { وأولات الأحمال } اقتضت أن الحوامل كلهن تنتهي عدتهن بالوضع وقد يكون الوضع قبل الأربعة الأشهر والعشر ، وآية البقرة يقتضي عمومها أن المتوفّى عنهن يتربصن أربعة أشهر وعشراً . وقد يتأخر هذا الأجل عن وضع الحمل .

فذهب الجمهور إلى ترجيح عموم { وأولات الأحمال } على عموم { ويذرون أزواجاً } [ البقرة : 234 ] من وجوه .

أحدها : أن عموم { وأولات الأحمال } حاصل بذات اللفظ لأن الموصول مع صلته من صيغ العموم ، وأما قوله : { ويذرون أزواجاً } فإن { أزواجاً } نكرة في سياق الإِثبات فلا عموم لها في لفظها وإنما عرض لها العموم تبعاً لعموم الموصول العامل فيها وما كان عمومه بالذات أرجح مما كان عمومه بالعرض .

وثانيها : أن الحكم في عموم { وأولات الأحمال } علق بمدلول صلة الموصول وهي مشتق ، وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بتعليل ما اشتق منه بخلاف العموم الذي في سورة البقرة ، فما كان عمومه معلَّلاً بالوصف أرجح في العمل مما عمومه غير معلل .

وثالثها : قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدّة سُبَيْعة الأسلمية .

وذهب الحنفية إلى أن عموم { وأولات الأحمال } ناسخ لعموم قوله : { ويذرون أزواجاً } [ البقرة : 234 ] في مقدار ما تعارضا فيه .

ومآل الرأيين واحد هو أن عدة الحامل وضعُ حملها سواء كانت معتدة من طلاق أم من وفاة زوجها .

والصحيح أن آية البقرة لم يرتفع حكمها وشذ القائلون بأن المتوفّى عنها إن لم تكن حاملاً ووضعت حملها يجب عليها عدة أربعة أشهر وعشر .

وقال قليل من أهل العلم بالجمع بين الآيتين بما يحقق العمل بهما معاً فأوجبوا على الحامل المتوفّى عنها زوجها الاعتداد بالأقصى من الأجلين أجل الأربعة الأشهر والعشر .

وأجل وضع الحمل ، وهو قول علي بن أبي طالب وابن عباس . وقصدهم من ذلك الاحتياط لأنه قد تأتَّى لهم هنا إذ كان التعارض في مقدار زمنين فأمكن العمل بأوسعهما الذي يتحقق فيه الآخَر وزيادة فيصير معنى هذه الآية { أولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } ما لم تكن عدة وفاة ويكون معنى آية سورة البقرة وأزواج المتوفَّيْن يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً ما لم تكنَّ حوامل فيزدْن تربّصاً إلى وضع الحمل . ولا يجوز تخصيص عموم { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً } [ البقرة : 234 ] بما في آية { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } من خصوص بالنظر إلى الحوامل المتوفَّى عنهن ، إذ لا يجوز أن تنتهي عدة الحامل المتوفّى عنها التي مضت عليها أربعة أشهر وعشر قبل وضع حملها من عِدة زوجها ، وهي في حالة حمل لأن ذلك مقرر بطلانه من عدة أدلة في الشريعة لا خلاف فيها وإلى هذا ذهب ابن أبي ليلى .

وفي « صحيح البخاري » « عن محمد بن سيرين قال : كنت في حلقة فيها عُظْم من الأنصار ( أي بالكوفة ) وفيهم عبد الرحمان بن أبي ليلى وكان أصحابه يعظمونه فذَكَر آخرَ الأجلين ، فحدثتُ حديث عبد الله بن عتبة في شأن سُبيعة بنت الحارث فقال عبد الرحمان لكن عمه ( أي عم عتبة وهو عبد الله بن مسعود ) كان لا يقول ذلك ( أي لم يحدثنا به ) فقلت : إني إذن لجَرِيء إن كذبتُ على رجل في جانب الكوفة ( وكان عبد الله بن عتبة ساكناً بظاهر الكوفة ) فخرجتُ فلقيت عامراً أو مالك بن عوف فقلت : كيف كان قول ابن مسعود في المتوفّى عنها زوجها وهي حامل ، فقال : قال ابن مسعود : أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون لها الرخصة لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى ( أي البقرة ) .

وفي « البخاري » عن أبي سلمة جاء رجل إلى ابن عباس وأبو هريرة جالس عنده فقال : أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة فقال ابن عباس : آخرُ الأجلين : فقلتُ أنا { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } . قال أبو هريرة : أنا مع ابن أخي ( أي مع أبي سلمة ) فأرسل ابن عباس كريباً إلى أمّ سلمة يسألها فقالت : قُتل ( كذا والتحقيق أنه مات في حجة الوداع ) زَوج سُبيعة الأسلمية وهي حبلى فوضعت بعد موته بأربعين ليلة فخُطِبت فأنكحها رسول الله . وقد قال بعضهم : إن ابن عباس رجع عن قوله . ولم يذكر رجوعه في حديث أبي سلمة .

{ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } .

تكرير للموعظة وهو اعتراض . والقول فيه كالقول في قوله تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب } [ الطلاق : 2 ، 3 ] . والمقصود موعظة الرجال والنساء على الأخذ بما في هذه الأحكام مما عسى أن يكون فيه مشقة على أحد بأن على كل أن يصبر لذلك امتثالاً لأمر الله فإن الممتثل وهو مسمى المتقي يجعل الله له يسراً فيما لحقه من عسر .

والأمر : الشأن والحال . والمقصود : يجعل له من أمره العسير في نظره يسراً بقرينة جعل اليسر لأمره .

و { مِن } للابتداء المجازي المراد به المقارنةُ والملابسة .

واليسر : انتفاء الصعوبة ، أي انتفاء المشاقّ والمكروهات .

والمقصود من هذا تحقيق الوعد باليسر فيما شأنه العسر لحث الأزواج على امتثال ما أمر الله به الزوج من الإِنفاق في مدة العدة ومن المراجعة وترك منزلِه لأجل سكناها إذا كان لا يسعهما وما أمر به المرأة من تربص أمد العدة وعدم الخروج ونحو ذلك .


[427]:- هو قاضي مرو، وروى عن القاسم بن محمد.