تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَٱلَّـٰٓـِٔي يَئِسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَٰثَةُ أَشۡهُرٖ وَٱلَّـٰٓـِٔي لَمۡ يَحِضۡنَۚ وَأُوْلَٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا} (4)

الآية 4 وقوله تعالى : { واللاّئي يئسن من المحيض من نسائكم } هذا يدل على أن المراد من الأقراء الحيض ؛ وذلك لأن الأصل عندنا في الأصول أن الشيء متى ذكر باسم مشترك ، ثم جرى البيان له عند ذكر البدل باسم خاص دل على أن المراد من الاسم المشترك هذا الاسم الخاص المذكور عند البدل .

ألا ترى إلى قوله تعالى : { فاغسلوا وجوهكم وأيديكم } ؟ [ المائدة : 6 ] وكان اسم الغسل مشتركا يتناول الماء وكل مائع . فلما قال عند ذكر البدل : { فلم تجدوا ماء } [ المائدة : 6 ] تبيّن أن المراد من ذلك الاسم المشترك هو هذا الاسم الخاص المذكور عند البدل ، فكذلك الأول ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر } اختلفوا في قوله : { إن ارتبتم } أنه أريد به إن ارتبتم في حيضهن أو في عدتهن .

وعندنا الارتياب في عدتهن لأنه لو كان المراد منه الارتياب في حيضهن لكان من حق الكلام أن يقول : إن ارتبن ، أو يقول : واللاّئي ارتبن ليكون منسوقا على قوله : { واللاّئي يئسن } فلما قال : { إن ارتبتم } ثبت أن المراد إن ارتبتم في عدة{[21467]} الآيسات والصغيرات ، فهي ثلاثة أشهر ، والله أعلم .

ولأن المرتابة إذا رأت الحيض ارتفع ريبها ، وصارت عدتها بالحيض ، وخرجت من العدة بالشهور .

وأما الآيسة والصغيرة فإنه لا يتوهم[ عليهما ارتفاع الريب ]{[21468]} فتكون عدتهما بالأشهر .

فلذلك قلنا إن هذا الارتياب في عدة الآيسات والصغيرات .

ثم قول أصحابنا : إن الرجل إذا طلق امرأته الآيسة أو الصغيرة أو الحامل للسنة يطلقها متى شاء ، وليس له وقت معين في طلاقها للسنة ، وإنما كان كذلك لأنّا قد وصفنا في قوله : { فطلقوهن لعدتهن } أن المراد منه لقبل عدتهن .

ومعلوم أن عدة التي ترى الحيض أحد شيئين : إما الدم ولم تعتبر ما يقابلها ، وهو الطّهر ، من العدة [ وإما الأطهار ، ولم ]{[21469]} تعتبر ما يقابلها ، وهو الحيض ، من العدة .

وإذا كان كذلك لم يكن بد من أن يكون ههنا شيء ، يقابل عدتها ، فثبت فيه معنى قبل عدتها ، فيجعل ذلك الطّهر .

وأما الآيسة والصغيرة والحامل فجميع أيامها من عدتها ، وهو ثلاثة/576-أ/أشهر ، وليس في أيامها شيء[ من ]{[21470]} عدتها ، فلذلك قلنا : إن له أن يطلقها في أي وقت شاء ، وكذا له أن يطلق الحامل التي من ذوات الأقراء ، وذلك لأنه إنما نهي عندنا عن الطلاق على إثر الجماع في التي تحيض لتوهم أن يكون الجماع أحبها ، فإذا طلقها ، ثم أراد نفي الحبل في العدة لم يتهيأ له ذلك .

وأما الآيسة والصغيرة والحامل فليس فيهن هذا التوهم ، والله أعلم .

ثم هذه العدة ، وإن ذكرت في هذه السورة على إثر الطلاق الواحد ، فكأنها في التطليقات الثلاث ، لأن هذه العدة التي ذكر الله تعالى في سورة البقرة من قوله : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [ الآية : 228 ] ولأنه ذكرها ههنا { وأحصوا العدة } [ الآية : 1 ] على الإجمال ، وذكرها ثم على التفسير . فإذا ألحق{[21471]} التفسير بالمجمل يصير في المعنى والحكم كأنه واحد .

ومعلوم أن تلك في الواحدة والثلاث ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } [ البقرة : 229 ] وقوله : { أو تسريح بإحسان } هي التطليقة الثالثة ؟ وإذا كان الأمر على ما وصفنا ثبت أن للمرء أن يطلق امرأته الحامل للسنة ثلاثا .

قال ، رحمه الله ، ثم قوله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن } [ فيه ]{[21472]} أوجه من الفقه :

أحدها : أنه لما قال : { من بيوتهن } دل أنه ألزمهن السكون في بيوتهن التي كن فيها في حال قيام النكاح ، فيكون دليلا في قول أصحابنا : إنه ليس للزوج أن يسكنها معه في بيته الذي هو فيه ، بل يتركها في ذلك المسكن ، وينتقل هو بنفسه ، إن كان يريد الانتقال . يصحح هذا قوله : { أسكنوهن من حيث سكنتم } [ الطلاق : 6 } فلما دخل حرف { من } هذه الآية دل أن الواجب على الزوج أن يسكنها في بيت من بيوته ، ولا يدخل عليها في ذلك البيت إلى أن تنقضي العدة ، والله أعلم .

[ والثاني : أن ]{[21473]} المعنى عندنا في قوله : { لا تخرجوهن من بيوتهن } لتحصين مائكم ، ولا يخرجن خوفا من وطء غير الأزواج واشتباه النسب لو حبلن . وإذا كان نهى عن إخراجها وخروجها من البيت لهذا المعنى لم يكن بد من إيجاب النفقة عليها لأنها إنما تكتسب نفقتها بالخروج [ فإذا نهيت عن الخروج ]{[21474]} لتحصين مائه لم يحتمل أن تكون النفقة على غيره ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : من شاء باهلته ؛ إن قوله : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } نزل بعد قوله في سورة البقرة : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا }[ الآية : 234 ] وجعل عدة الحامل بوضع الحمل ، ولا يعتبر أبعد الأجلين .

لكن إن كان ابن مسعود رضي الله عنه لا يباهل ، ويقول إن قوله : { والذين يتوفون منكم } لا يجوز أن يدخل في قوله : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } وذلك لأن قوله : { وأولات الأحمال } إنما ذكره في عدة الطلاق ، وعدة الطلاق لا تتضمن عدة الوفاة ، إذا كانت في الحيض لم تدخل عدة الطلاق في عدة الوفاة .

ألا ترى أن من طلق امرأته ، وهي حامل ممن تحيض ، ثم مات عنها زوجها قبل انقضاء عدتها لم تدخل عدة الوفاة في الحيض الثلاث ، بل الحيض [ هي ]{[21475]} التي تدخل في عدة الوفاة ، وتؤمر بأن تعتد بأبعد الأجلين ؟ فكذلك أمر الحامل .

وإذا اشتبه{[21476]} الحال أمرت فه بالاحتياط أن تعتد بأبعد الأجلين ولأن عدة الوفاء لم تلزم لوطء متقدم . ألا ترى أنها قد تلزم من لم يكن زوجها من أهل الوطء ؟ وأما عدة الحبل والحيض إنما لزمت لوطء متقدم . وإذا [ لم ]{[21477]} تكن عدة الوفاء من جنس العدة بالحبل ، لم تدخل عدة الحبل ، فلا يوجب فيه الاحتياط ؛ وذلك في الاعتداد بأبعد الأجلين .

ثم التخصيص بذكر الإنفاق على الحوامل يحتمل أن يكون بمعنى أنها في الحقيقة لا تدخل في قوله : { لا تخرجوهن من بيوتهن } لأنا قد وصفنا أنها نهيت[ عن الخروج ]{[21478]} لتحصين ماء الزوج ، وإذا مضت تسعة أشهر فقد خرجت عن التحصين ، فكان الوجه أن تسقط النفقة بعد التسعة .

لكن الله تعالى حثّ على الإنفاق في جميع المدة لأنها ، لا محالة ، إنما أبقيت في هذه المدة لوطئه المتقدم . فلذلك حث الله تعالى على الإنفاق على الحوامل في ما يقع عندنا ، والله أعلم .

وأما ابن مسعود رضي الله عنه فإنه يجوّز أن يكون قوله : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن }عنده مبتدأ خطاب ، ليس بمعطوف على قوله : { واللاّئي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم } لأنا نعلم أنه لا يجوز أن يقع الارتياب في من تحتمل القروء ، وذلك لأن الأشهر في الآيسات إنما أقيمت مقام الأقراء في ذات الحيض ، وإذا كانت الحامل ممن تحتمل القرء لم يجز أن يقع لهم شك في عدتها ليسألوا عن عدتها . وإذا كان كذلك ثبت أنه خطاب مبتدأ ، وإذا كان خطابا مبتدأ تناول العدة كلها .

ومما يدل على أنه مبتدأ خطاب ما روي في خبر سبيعة بنت الحارث الأسلمية : أنها وضعت بعد وفاة زوجها بخمسة وعشرين ليلة ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتزوج . فدلت إباحته النكاح قبل مضيّ أربعة أشهر وعشرة على أن عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل في جميع الأحوال .

وقال الحسن : إن الحامل إذا وضعت أحد الولدين انقضت عدتها ، واحتج بقوله : { أجلهن أن يضعن حملهن } ولم يقل أحمالهن . ولكن لا يستقيم ما قاله لوجهين :

أحدهما : أنه قرئ في بعض القراءات أن يضعن أحمالهن{[21479]} .

والثاني : أنه قال : { أجلهن أن يضعن حملهن } ولم يقل : يلدن ، بل علّق بوضع حملهن ، والحمل اسم لجميع ما في بطنهن ، ولو كان كما قال لكانت عدتهن بوضع حملهن ، والله تعالى جعل أجلهن ، أن يضعن حملهن ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا } فقد وصفنا أن التقوى إذا ذكر مطلقا مفردا يتناول الأوامر والنواهي ، فكأنه قال : { ومن يتق الله } في أوامره [ خوفا من ]{[21480]} أن يضيّعها أو في نواهيه أن يرتكبها { يجعل له من أمره يسرا } .

ثم قوله تعالى : { يجعل له من أمره يسرا } له وجهان :

أحدهما : { يجعل له من أمره يسرا } في نفس التقوى أن ييسره عليه كما قال في قوله : { فأما من أعطى واتقى } { وصدق بالحسنى } { فسنيسّره لليسرى }[ الليل : 5و6و7 ]يعني نيسر عليه فعل التقوى والطاعة . فكذلك الأول .

[ والثاني ]{[21481]} : يحتمل أن يكون في جميع الأمور : في المكاسب والتجارات وغيرها : أن من اتقى الله من الحرام يسر الله عليه الحلال ، ومن اتقى الله في الشبه يسّر عليه في المباح ، ومن اتقى الله في تجارته[ رزقه ]{[21482]} ما يرجو من الربح ، ويأمله ، وكذلك جميع الأمور على هذا السبيل ، والله أعلم .


[21467]:في الأصل و م: هذه.
[21468]:في الأصل و م: عليها ارتفاع الإياس والصغيرة فإنه لا يتوهم عليها.
[21469]:في الأصل و م: وكذلك من جعل عدتها بالإظهار لم.
[21470]:ساقطة من الأصل و م.
[21471]:من م، في الأصل : التحقق
[21472]:ساقطة من الأصل وم
[21473]:في الأصل وم: ثم
[21474]:من م، ساقطة من الأصل.
[21475]:ساقطة من الأصل و م.
[21476]:من م، في الأصل: أثبت
[21477]:ساقطة من الأصل و م.
[21478]:ساقطة من الأصل و م.
[21479]:انظر المعجم القراءات القرآنية ج 7/167.
[21480]:ساقطة من الأصل و م.
[21481]:في الأصل و م: و.
[21482]:ساقطة من الأصل و م.