وأبو عمرو يقرأ{[57050]} هنا : «واللاّئي يئسن » بالإظهار .
وقاعدته في [ مثله ]{[57051]} الإدغام ، إلا أن الياء لما كانت عنده عارضة لكونها بدلاً من همزة ، فكأنه لم يجتمع مثلان ، وأيضاً فإن سكونها عارض ، فكأن ياء «اللائي » متحركة ، والحرف ما دام متحركاً لا يدغم في غيره ، وقرئ{[57052]} : «يَئِسْنَ » فعلاً ماضياً .
وقرئ : «يَيْئَسْنَ »{[57053]} مضارع .
و { مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ } .
«من » الأولى لابتداء الغاية ، وهي متعلقة بالفعل قبلها ، والثانية للبيان متعلقة بمحذوف{[57054]} .
و «اللاَّئِي » مبتدأ ، و «فَعدَّتُهُنَّ » مبتدأ ثانٍ ، و «ثَلاثةُ أشْهُرٍ » خبره ، والجملة خبر الأول ، والشرط معترض ، وجوابه محذوف .
ويجوز أن يكون «إن ارْتَبْتُمْ » جوابه { فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ } ، والجملة الشرطية خبر المبتدأ ، ومتعلق الارتياب محذوف ، تقديره : إن ارتبتم في أنها يئست أم لا لإمكان ظهور حمل وإن كان انقطع دمها .
وقيل : إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس أهو دم حيض ، أو استحاضة ، وإذا كان هذا عدة المرتاب فيها فغير المُرتَاب فيها أولى .
وأغرب ما قيل : إن «إنِ ارتَبْتُمْ » بمعنى : تَيَقَّنْتُمْ ، فهو من الأضداد .
قوله : { واللاتي لَمْ يَحِضْنَ } .
مبتدأ ، خبره محذوف ، فقدره جملة كالأولى ، أي : فعدتهن ثلاثة أشهر أيضاً ، والأولى أن يقدر مفرداً ، أي : فكذلك أو مثلهن .
ولو قيل : بأنه معطوف على «اللاَّئِي يَئِسْنَ » عطف المفردات ، وأخبر عن الجمع بقوله : «فعدَّتُهُنَّ » لكان وجهاً حسناً ، وأكثر ما فيه توسُّطُ الخبر بين المبتدأ وما عطف عليه . وهذا ظاهر قول أبي حيان{[57055]} : و { واللائي لَمْ يَحِضْنَ } معطوف على قوله «واللاَّئِي يَئِسْنَ » ، فإعرابه مبتدأ كإعراب «واللائي » .
قوله : { وَأُوْلاَتُ الأحمال } مبتدأ ، و «أجَلُهُنَّ » مبتدأ ثانٍ ، و «أن يَضَعْنَ » خبر المبتدأ الثاني وهو وخبره خبر الأول .
والعامَّة : على إفراد «حَمْلَهُنَّ » .
والضحاك{[57056]} : «أحْمَالهُنَّ » .
فصل في عدة التي لا ترى الدم{[57057]}
لما بين أمر الطلاق والرجعة في التي تحيض ، وكانوا قد عرفوا عدة ذوات الأقراء عرفهم في هذه السورة عدة التي لا ترى الدم .
قال أبو عثمان عمير بن سليمان : لما نزل عدة النِّساء في سورة البقرة في المطلقة والمتوفى عنها زوجها ، قال أبيُّ بن كعب : يا رسول الله ، إن ناساً يقولون : قد بقي من النساء من لم يذكر فيهن شيء ، الصغار والكبار وذوات الحَمْل ، فنزلت : { واللائي يَئِسْنَ } الآية{[57058]} .
وقال مقاتل : لما ذكر قوله تعالى : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قروء } قال خلاّد بن النعمان : يا رسول الله ، فما عدّة التي لم تَحِضْ ، وعدة التي انقطع حيضها وعدة الحُبْلى ؟ فنزلت : { واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ } ، يعني : قعدن عن الحيض{[57059]} .
وقيل : إن معاذ بن جبل سأل عن عدّة الكبيرة التي يئست ، فنزلت الآية .
وقال مجاهد : الآية واردة في المستحاضة لا تدري دم حيض هو أو دم علة ؟ .
قال المفسرون : { واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ } ، فلا يرجون أن يحضن «إن ارتبْتُمْ » أي : شككتم .
وقيل : تيقنتم ، وهو من الأضداد ، يكون شكًّا ويقيناً كالظَّن .
واختيار الطَّبري{[57060]} : أن يكون المعنى إن شككتم ، فلم تدروا ما الحكم فيهن .
وقال الزجاج{[57061]} : إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممن يحيض مثلها .
قال القشيري : وفي هذا نظر ، لأنا إذا شككنا ، هل بلغت سن اليأس لم نقل : عدتها ثلاثة أشهر .
والمعتبر في سن اليأس أقصى عادة امرأة في العالم .
وقيل : غالب نساء عشيرة المرأة .
وقال مجاهد : قوله : «إن ارْتَبْتُمْ » للمخاطبين ، يعني إن لم تعلموا كم عدة الآيسة ، والتي لم تحضْ فالعدّة هذه{[57062]} .
وقيل : المعنى إن ارتبتم أن الدم الذي يظهر منها من أجل كبر أو من الحيض المعهود أو من الاستحاضة فالعدة ثلاثة أشهر .
وقال عكرمة وقتادة : من الريبة المرأة المستحاضة التي لا يستقيم لها الحيض تحيض في أول الشهر مراراً ، وفي الأشهر مرة{[57063]} .
وقيل : إنه متصل بأول السورة ، والمعنى لا تخرجوهن من بيوتهن إن ارتبتم في انقضاء العدة .
قال القرطبي{[57064]} : «وهو أصح ما قيل فيه » .
المرتابة في عدتها لم تنكح حتى تستبرىء نفسها من ريبتها ، ولا تخرج من العدة إلا بارتفاع الرِّيبة ، وقد قيل في المرتابة التي ارتفع حيضها ، لا تدري ما رفعه إنها تنتظر سنة من يوم طلَّقها زوجها ، منها تسعة أشهر استبراء ، وثلاثة عدة ، فإن طلقها فحاضت حيضة ، أو حيضتين ، ثم ارتفع حيضها بغير يأس منها انتظرت تسعة أشهر ثم ثلاثة من يوم طهرت من حيضها ثم حلت [ للأزواج ]{[57065]} . وهذا قول الشافعي بالعراق .
فعلى قياس هذا القول تقيم الحرة المتوفى عنها زوجها المستبرأة بعد التسعة أشهر [ أربعة أشهر وعشراً ، والأمة شهرين وخمس ليال بعد التسعة أشهر ]{[57066]} .
وروي عن الشافعي أيضاً : أن أقراءها على ما كانت حتى تبلغ سنَّ اليائسات .
وهو قول النخعي والثوري وغيرهما ، وحكاه أبو عبيدة عن أهل العراق .
إذا ارتابت المرأة الشابة هل هي حامل أم لا ؟ .
فإن استبان حملها فأجلها وضعه ، وإن لم يستبن ، فقال مالك : عدة التي ارتفع حيضها وهي شابة سنة ، وبه قال أحمد وإسحاق وروي عن عمر بن الخطَّاب وغيره .
وأهل «العراق » يرون أن عدتها ثلاث حيض بعد ما كانت حاضت مرة واحدة في عمرها وإن مكثت عشرين سنةً ، إلا أن تبلغ من الكبر سنًّا تيأس فيه من الحيضِ فتكون عدتها بعد الإياس ثلاثة أشهر .
قال الثعلبي : وهذا الأصح من مذهب الشافعي وعليه جمهور العلماء ، وروي ذلك عن ابن مسعود وأصحابه .
قال إلكيا{[57067]} : وهو الحق ، لأن الله تعالى جعل عدة الآيسة ثلاثة أشهر . والمرتابة ليست آيسة .
فأما من تأخر حيضها لمرض ، فقال مالك وبعض أصحابه : تعتد تسعة أشهر ثم ثلاثة كما تقدم .
وقال أشهب : هي كالمرضع بعد الفطام بالحيض أو بالسنة .
وقد طلق حبان بن منقذ امرأته وهي ترضع ، فمكثت سنة لا تحيض لأجل الرضاع ثم مرض حبان فخاف أن ترثه فخاصمها إلى عثمان وعنده عليّ وزيد فقالا : نرى أن ترثه ، لأنها ليست من القواعد ولا من الصغار ، فمات حبان فورثته واعتدت عدة الوفاة .
لو تأخّر الحيض بغير مرض ولا رضاع فإنها تنتظر سنة لا حيض فيها ، تسعة أشهر ثم ثلاثة على ما تقدم ، فتحل ما لم ترتب بحمل ، فإن ارتابت بحمل أقامت أربعة أعوام أو خمسة أو سبعة على الاختلاف .
قال القرطبي{[57068]} : «وأشهر الأقوال خمسة أعوام ، فإن تجاوزتها حلت » .
وقال أشهب : لا تحل أبداً حتى تنقطع عنها الريبة .
قال ابن العربي{[57069]} : «وهو الصحيح ، إذا جاز أن يبقى الولد في بطنها خمسة أعوام جاز أن يبقى عشرة أو أكثر من ذلك » ، وروي مثله عن مالك .
وأما التي جهل حيضها بالاستحاضة ففيها أقوال :
قال ابن المسيب : تعتد سنة . وهو قول الليث .
قال الليث : عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها إذا كانت مستحاضة «سنة » .
قال القرطبي{[57070]} : «وهو مشهور قول علمائنا ، سواء علمت دم حيضها من دم استحاضتها ، وميزت ذلك أو لم تميزه ، عدّتها في مذهب مالك سنة ، منها تسعة أشهر استبراء ، وثلاثة عدّة » .
وقال الشَّافعي في أحد أقواله : عدتها ثلاثة أشهر ، وهو قول جماعة من التابعين والمتأخرين .
قال ابن العربي{[57071]} : «وهو الصحيح عندي » .
وقال أبو عمر : المستحاضة إذا علمت إقبال حيضتها وإدبارها اعتدت بثلاثة قُرُوءٍ .
قال القرطبي{[57072]} : «وهذا أصحّ في النظر ، وأثبت في القياس والأثر » .
قوله : { واللائي لَمْ يَحِضْنَ } .
يعني : الصغيرة ، فعدتهن ثلاثة ، فأضمر الخبر ، وإنما كانت عدتها الأشهر لعدم الأقراء في حقِّها عادة ، والأحكام إنما أجراها اللَّه تعالى على العادات ، فتعتد بالأشهر ، فإن رأت الدَّم في زمن احتماله عند النِّساء انتقلت إلى الدَّم لوجود الأصل ، فإذا وجد الأصل لم يبق للبدل حكم ، كما أن المُسِنَّة إذا اعتدت بالدم ، ثم ارتفع عادت إلى الأشهر ، وهذا إجماع .
قوله : { وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ } وضع الحمل ، وإن كان ظاهراً في المطلقة ؛ لأنه عليها عطف وإليها رجع عقب الكلام ، فإنه في المتوفى عنها زوجها كذلك ، لعموم الآية ، وحديث سبيعة ، كما مضى في سورة «البقرة » .
فإذا وضعت المرأة ما في بطنها من علقة أو مضغة حلت عند مالك .
وقال الشافعي وأبو حنيفة{[57073]} : لا تحل إلا بوضع ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان ، فإن كانت حاملاً بتوءمين لم تنقض عدتها حتى تضع الثاني منهما .