السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَٱلَّـٰٓـِٔي يَئِسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَٰثَةُ أَشۡهُرٖ وَٱلَّـٰٓـِٔي لَمۡ يَحِضۡنَۚ وَأُوْلَٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا} (4)

ولما بين تعالى أمر الطلاق والرجعة في التي تحيض ، وكانوا قد عرفوا عدة ذوات الأقراء عرفهم في هذه السورة عدة التي لا ترى الدم . قال أبو عثمان عمر بن سليمان : نزلت عدة النساء في سورة البقرة في المطلقة والمتوفى عنها زوجها ، قال أبي بن كعب : يا رسول الله إن ناساً يقولون قد بقي من النساء من لم يذكر فيهن شيء الصغار والكبار وذوات الحمل فنزل :

{ واللائي يئسن } أي : من المطلقات { من المحيض } أي : الحيض الآية . وقال مقاتل : لما ذكر قوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [ البقرة : 228 ] قال خلاد بن النعمان : يا رسول الله فما عدة التي لم تحض وعدة التي انقطع حيضها وعدة الحبلى فنزلت ، وقيل : إن معاذ بن جبل سأل عن عدة الكبيرة التي يئست فنزلت ، وقال مجاهد : الآية واردة في المستحاضة لا تدري دم حيض هو أو دم علة . واختلف في سن اليأس فالذي عليه الأكثر أنه اثنان وستون سنة ، وقيل : خمس وخمسون ، وقيل : ستون ، وقيل : سبعون .

ولما كان هذا الحكم خاصاً بأزواج المسلمين لحرمة فرشهم وحفظ أنسابهم قال تعالى : { من نسائكم } أي : أيها المسلمون سواء كن مسلمات أو من أهل الكتاب { إن ارتبتم } أي : شككتم في عدتهن { فعدتهن ثلاثة أشهر } كل شهر يقوم مقام حيضة لأن أغلب عوائد النساء أن يكون كل قرء في شهر { واللائي لم يحضن } أي : لصغرهن أو لأنهن لا حيض لهن أصلاً ، وإن كن بالغات فعدتهن ثلاثة أشهر أيضاً هذا كله في غير المتوفى عنهن أزواجهن ، أما هن فعدتهن ما في آية { أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً } [ البقرة : 234 ] وقرأ : { واللائي } في الموضعين ابن عامر والكوفيون بالهمز وياء بعده ، وقرأ قالون وقنبل بالهمز ولا ياء بعده ، وللبزي وأبي عمرو أيضاً إبدال الهمزة ياء ساكنة مع المد لا غير .

ولما فرغ من ذكر الحوائل أتبعه ذكر الحوامل بقوله تعالى : { وأولات الأحمال } أي : من جميع الزوجات المسلمات والكافرات المطلقات والمتوفى عنهن { أجلهن } أي : لمنتهى العدة سواء كان لهن مع الحمل حيض أم لا { أن يضعن حملهن } وهذا على عمومه مخصص لآية { يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً } لأن المحافظة على عمومه أولى من المحافظة على عموم ذاك في قوله تعالى : { أزواجاً } لأن عموم هذه بالذات لأن الموصول من صيغ العموم وعموم أزواجاً بالعرض لأنه بدل لا يصلح لجميع الأزواج في حال واحد ، والحكم معلل هنا بوصف الحملية بخلاف ذاك ، ولأن هذه الآية متأخرة النزول عن آية البقرة فتقديمها على تلك تخصيص ، وتقديم تلك في العمل بعمومها رفع لما في الخاص من الحكم فهو نسخ ، والأول هو الراجح للوفاق ، ولأن سبيعة بنت الحارث وضعت حملها بعد وفاة زوجها بليالٍ فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تتزوج .

تنبيه : إذا وضعت المرأة ما في بطنها من علقة أو مضغة حلت عند مالك ، وقال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة : لا تحل إلا بوضع ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان ، فإن كانت حاملاً بتوأمين لم تنقض عدتها حتى تضع الثاني منهما ، ولابد أن يكون الحمل منسوباً لذي العدة ، أما إذا كان من زنا فلا حرمة له والعدة بالحيض .

ولما كانت أمور النساء في المعاشرة والمفارقة في غاية المشقة كرر بالحث على التقوى إشارة إلى ذلك ، وترغيباً في لزوم ما حده سبحانه فقال عاطفاً على ما تقديره فمن لم يحفظ هذه الحدود عسر الله تعالى عليه أموره : { ومن يتق الله } أي : يوجد الخوف من الملك الأعظم إيجاداً مستمراً ليجعل بينهم وبين سخطه وقاية من طاعته ، اجتلاباً للمأمور واجتناباً للمنهي . { يجعل له } أي : يوجد إيجاداً مستمراً باستمرار التقوى ، إن الله لا يمل حتى تملوا { من أمره } أي : كله في النكاح وغيره { يسراً } أي : سهولة وفرجاً وخيراً في الدارين بالدفع والنفع ، وذلك أعظم من مطلق الخروج المتقدم في الآية الأولى ، وقال مقاتل : ومن يتق الله في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسراً في توفيقه لطاعته .