فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَٱلَّـٰٓـِٔي يَئِسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَٰثَةُ أَشۡهُرٖ وَٱلَّـٰٓـِٔي لَمۡ يَحِضۡنَۚ وَأُوْلَٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا} (4)

{ واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا }

{ واللائي يئسن من المحيض من نسائكم } وهن الكبار اللاتي قد انقطع حيضهن وأيسن منه عن أبيّ بن كعب أن ناسا من أهل المدينة لما نزلت هذه الآية في البقرة في عدة النساء قالوا : لقد بقي من عدة النساء عدد لم يذكر في القرآن الصغار والكبار اللاتي قد انقطع حيضهن ، وذوات الحمل ، فأنزل الله هذه الآية .

{ إن ارتبتم } أي شككتم وجهلتم كيف عدتهن وما قدرها ، وقيل : معناه إن تيقنتم ، ورجح ابن جرير أنه بمعنى الشك وهو الظاهر ، قال الكوخي صفة كاشفة لأن عدتهن ذلك ، سواء وجد شك أم لا ، قال الزجاج : إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممن تحيض مثلها ، وقال مجاهد : إن ارتبتم يعني لم تعلموا عدة الآيسة والتي لم تحض .

{ فعدتهن ثلاثة أشهر } وقيل : المعنى إن ارتبتم في الدم الذي يظهر منها هل هو حيض أم لا ؟ بل استحاضة ؟ فالعدة هذه ، وقيل : إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس ، وقد قدروه بستين سنة أو بخمس وخمسين ، فعدتهن هذه ، وهذا قول عثمان وعلي وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وبه قال عطاء وإليه ذهب الشافعي وأصحاب الرأي ، وقال عمر : إنها تتربص تسعة أشهر ، وقال الحسن سنة فإن لم تحض فتعتد بثلاثة أشهر فإذا كانت هذه عدة المرتاب بها فغير المرتاب بها أولى بذلك .

{ واللائي لم يحضن } لصغرهن وعدم بلوغهن سن المحيض ، أو لأنهن لا حيض لهن أصلا وإن كن بالغات ، قاله الخطيب . أي فعدتهن ثلاثة أشهر أيضا ، وحذف هذا لدلالة ما قبله عليه ، والأولى أن يقدر مفردا أي فكذلك أو مثلهن ، ولو قيل : إنه معطوف على اللائي يئسن عطف المفردات وأخبر عن الجميع بقوله : فعدتهن لكان وجها حسنا وأكثر ما فيه توسط الخبر بين المبتدأ وما عطف عليه ، وهذا ظاهر قول الشيخ أبي حيان .

{ وأولات الحمال أجلهن أن يضعن حملهن } أي انتهاء عدتهن وضع الحمل وظاهر الآية أن عدة الحوامل بالوضع سواء كن مطلقات أو متوفي عنهن أزواجهن ، وعمومها باق فهي مخصصة لآية يتربصن بأنفسهن ، أي ما لم يكن حوامل ، وإنما لم يعكس لأن المحافظة على عموم هذه الآية أولى من المحافظة على عموم تلك ، لأن أزواجا في آية البقرة عمومه بدلي ، لا يصلح لجميع الأفراد في حال واحد ، لأنه جمع منكر في سياق الإثبات ، وآما أولات الأحمال فعمومه شمولي ، لأن الموصول من صيغ العموم ، وأيضا الحكم هنا معلل بوصف الحملية بخلاف ما هناك ، وأيضا هذه الآية متأخرة في النزول عن آية البقرة فتقديمها على تلك تخصيص ، وتقديم تلك فيما لو عمل بعمومها رفع لما في الخاص من الحكم ، فهو نسخ ، والتخصيص أولى منه ، وقد تقدم الكلام على هذا في سورة البقرة مستوفى ، وحققنا البحث في هذه الآية وفي الآية الأخرى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا }

" عن أبيّ بن كعب في الآية قال : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : أهي المطلقة ثلاثا ؟ أو المتوفى عنها ؟ قال هي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها " . أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، وأبو يعلى وغيرهما .

" وروي بوجه آخر مرفوعا عنه ، وعن ابن مسعود أنه بلغه أن عليا قال : تعتد آخر الأجلين فقال : من شاء لاعنته إن الآية التي في سورة النساء القصري نزلت بعد سورة البقرة { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } بكذا وكذا شهرا وكل مطلقة أو متوفى عنها زوجها فأجلها أن تضع حملها " ، وروي منه نحو هذا من طرق ، وبعضها في صحيح البخاري ، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما .

ّمن حديث أم سلمة أن سبيعة الأسلمية توفي عنها زوجها وهي حبلى فوضعت بعد موته بأربعين ليلة ، فخطبت فأنكحها صلى الله عليه وسلم " وفي الباب أحاديث .

{ ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا } أي من يتقه في امتثال أوامره واجتناب نواهيه ، يسهل عليه أمره في الدنيا والآخرة ، وقال الضحاك : من يتق الله في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسرا في توفيقه للطاعة .