في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَوَجَدَا عَبۡدٗا مِّنۡ عِبَادِنَآ ءَاتَيۡنَٰهُ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمٗا} (65)

( فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ) . .

ويبدو أن ذلك اللقاء كان سر موسى وحده مع ربه ، فلم يطلع عليه فتاه حتى لقياه . ومن ثم ينفرد موسى والعبد الصالح في المشاهد التالية للقصة :

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَوَجَدَا عَبۡدٗا مِّنۡ عِبَادِنَآ ءَاتَيۡنَٰهُ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمٗا} (65)

وقوله : فَوَجَدَا عَبْدا مِنْ عبادِنا آتَيْناه رحْمَةً مِنْ عِنْدِنا يقول : وهبنا له رحمة من عندنا وَعَلّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْما يقول : وعلمناه من عندنا أيضا علما . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة مِنْ لَدُنّا عِلْما : أي من عندنا علما .

وكان سبب سفر سُئل : هل في الأرض أحد أعلم منك ؟ فقال : لا ، أو حدّثته نفسه بذلك ، فكره ذلك له ، فأراد الله تعريفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه ، وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به ، ولكن كان ينبغي له أن يكل إلى عالمه .

وقال آخرون : بل كان سبب ذلك أنه سأل الله جلّ ثناؤه أن يدله على عالم يزداد من علمه إلى علم نفسه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : سأل موسى ربه وقال : ربّ أيّ عبادك أحبّ إليك ؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني قال : فأيّ عبادك أقضى ؟ قال : الذي يقضي بالحقّ ولا يتبع الهوى قال : أي ربّ أيّ عبادك أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علم نفسه ، عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هُدَى ، أو تردّه عن رَدَى قال : ربّ فهل في الأرض أحدٌ ؟ قال : نعم قال : ربّ ، فمن هو ؟ قال : الخضر قال : وأين أطلبه ؟ قال : على الساحل عند الصخرة التي ينفلت عندها الحوت قال : فخرج موسى يطلبه ، حتى كان ما ذكر اللّهُ ، وانتهى إليه موسى عند الصخرة ، فسلم كلّ واحد منهما على صاحبه ، فقال له موسى : إني أريد أن تستصحبني ، قال : إنك لن تطيق صحبتي ، قال : بلى ، قال : فإن صحبتني «فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرا فانْطَلَقا حتى إذَا رَكِبا فِي السّفِينَةِ خَرَقَها قال أخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا قالَ أَلَمْ أقُلْ إنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرا قال لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أمْرِي عُسْرا فانْطَلَقَا حتى إذَا لَقِيا غُلاما فَقَتَلَهُ قالَ أقَتَلْتَ نَفْسا زَكيّةً بغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جئْتَ شَيْئا نُكْرا » . . . إلى قوله : لاتّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرا قال : فكان قول موسى في الجدار لنفسه ، ولطلب شيء من الدنيا ، وكان قوله في السفينة وفي الغلام لله ، قالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سأُنَبّئُكَ بتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرا فأخبره بما قال أما السفينة وأما الغلام وأما الجدار ، قال : فسار به في البحر حتى انتهى إلى مجمع البحور ، وليس في الأرض مكان أكثر ماء منه ، قال : وبعث ربك الخُطّاف فجعل يستقي منه بمنقاره ، فقيل لموسى : كم ترى هذا الخطاف رَزَأ من هذا الماء ؟ قال : ما أقلّ ما رَزَأ قال : يا موسى فإن علمي وعلمك في علم الله كقدر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء وكان موسى قد حدّث نفسه أنه ليس أحد أعلم منه ، أو تكلم به ، فمن ثَم أُمِرَ أن يأتي الخضر .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : خطب موسى بني إسرائيل ، فقال : ما أحد أعلم بالله وبأمره مني ، فأوحى الله إليه أن يأتي هذا الرجل .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة أنه قيل له : إن آية لقيك إياه أن تنسى بعض متاعك ، فخرج هو وفتاه يوشع بن نون ، وتزوّدا حوتا مملوحا ، حتى إذا كانا حيث شاء الله ، ردّ الله إلى الحوت روحه ، فسرب في البحر ، فاتخذ الحوت طريقه سربا في البحر ، فسرب فيه فَلَمّا جاوَزَا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَدَاءنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذا نَصَبا . . . حتى بلغ واتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ عَجَبا فكان موسى اتخذ سبيله في البحر عجبا ، فكان يعجب من سرب الحوت .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما اقتص موسى أثر الحوت انتهى إلى رجل ، راقد قد سجى عليه ثوبه فسلم عليه موسى فكشف الرجل عن وجهه الثوب وردّ عليه السلام وقال : من أنت ؟ قال : موسى ، قال : صاحب بني إسرائيل ؟ قال : نعم ، قال : أوَ ما كان لك في بني إسرائيل شغل ؟ قال : بلى ، ولكن أُمرت أن آتيك وأصحبك ، قال : إنك لن تستطيع معي صبرا ، كما قصّ الله ، حتى بلغ فلما رَكِبا فِي السَفينَةِ خَرَقَها صاحب موسى قالَ أخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا يقول : نُكرا قالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمعا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أمْرِي عُسْرا فانْطَلَقَا حتى إذَا لَقِيا غُلاما فَقَتَلَهُ ، قالَ أقَتَلْتَ نَفْسا زَكِيّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، قال : قلت لابن عباس : إن نوفا يزعم أن الخضر ليس بصاحب موسى ، فقال : كذب عدوّ الله . حدثنا أبيّ بن كعب ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «إنّ مُوسَى قامَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ خَطِيبا فَقِيلَ : أيّ النّاسُ أعْلَمُ ؟ فَقالَ : أنا ، فعَتَبَ اللّهُ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ يَرُدّ العِلْمَ إلَيْهِ ، فقالَ : بَلى عَبْدٌ لي عِنْدَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ ، فَقالَ : يا رَبّ كَيْفَ بِهِ ؟ فَقِيلَ : تَأْخُذُ حُوتا ، فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ ، ثُمّ قالَ لِفُتاهُ : إذَا فَقَدْتَ هَذَا الحُوتَ فَأَخْبِرْنِي ، فانْطَلَقا يَمْشِيانِ عَلى ساحِلِ البَحْرِ حتى أتَيا صَخْرَةً ، فَرَقَدَ مُوسَى ، فاضْطَرَب الحُوتُ فِي المِكْتَلِ ، فَخَرَجَ فَوَقَعَ فِي البَحْرِ ، فأمْسَكَ اللّهُ عَنْهُ جِرْيَةَ المَاءِ ، فَصَارَ مِثْلَ الطّاقِ ، فَصَارِتْ للْحُوتِ سَرَبا وكانَ لَهُما عَجَبا . ثُمّ انْطَلَقا ، فَلَمّا كانَ حِينَ الغَدِ ، قالَ مُوسَى لَفَتاهُ : آتِنا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَبا ، قالَ : وَلمْ يَجِدْ مُوسَى النّصَبَ حتى جاوَزَ حَيْثُ أمَرَهُ اللّهُ قالَ : فَقالَ : أرَأَيْتَ إذْ أوَيْنا إلى الصّخْرَةِ فإنّي نَسِيتُ الحُوتَ ، وَما أنْسانِيهُ إلاّ الشّيْطانُ أنْ أذْكُرَهُ ، واتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ عَجَبا ، قالَ : فَقالَ : ذلكَ ما كُنّا نَبْغِ ، فارْتَدّا عَلى آثارِهما قَصَصا ، قالَ : يَقُصّانِ آثارَهما ، قالَ : فَأَتَيَا الصّخْرَةَ ، فإذَا رَجُلٌ نائمٌ مُسّجّى بِثَوْبِهِ ، فَسَلّمَ عَلَيْهِ مُوسَى ، فَقالَ : وأنّي بأرْضِنَا السّلامُ ؟ فَقالَ : أنا مُوسَى ، قالَ : مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ ؟ قالَ : نَعَمْ ، قالَ : يا مُوسَى ، إنّي عَلى عِلْمٍ مِنْ عِلْمٍ اللّهِ ، عَلّمَنِيَهِ اللّهُ لا تعْلَمُهُ ، وأنْتَ عَلى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِهِ عَلّمَكَهُ لا أعْلَمُهُ ، قالَ : فإنّي أتّبِعُكَ عَلى أنْ تُعَلّمَنِي مِمّا عُلّمْتَ رُشْدا ، قالَ : فإنِ اتّبِعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرا . فانْطَلَقا يَمْشِيانِ عَلى السّاحِلِ ، فَعُرِفَ الخَضِرُ ، فَحُمِل بِغَيْرِ نَوْلٍ ، فَجاءَ عُصْفُورٌ ، فَوَقَعَ عَلى حَرْفِها فَنَقَرَ ، أوْ فَنَقَدَ فِي المَاءِ ، فَقالَ الخَضِرُ لِمُوسَى : ما نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللّهِ إلاّ مِقْدَارَ ما نَقَرَ أوْ نَقَصَ هَذَا العُصْفُورُ مِنَ البَحْرِ » . أبو جعفر الطبري يشكّ ، وهو في كتابه نَقَر ، قالَ : «فَبَيْنما هُوَ إذْ لَمْ يَفْجَأهُ مُوسَى إلاّ وَهُوَ يَتِدُ وَتِدا أوْ يَنْزِعُ تَحْتا مِنْها ، فَقالَ لَهُ مُوسَى : حُمِلْنا بِغَيرِ نَوْلٍ وَتخْرِقُها لِتُغْرِقَ أهْلَها ؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا ، قالَ : أَلمْ أقُل إنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعَيَ صَبْرا ، قالَ : لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ، قالَ : وكانَتِ الأُوَلى مِنْ مُوسَى نِسْيانا قالَ : ثُمّ خَرَجا فانْطَلَقَا يَمْشيانِ ، فَأَبْصَرَا غُلاما يَلْعَبُ مَعَ الغلْمانِ ، فَأخَذَ برأْسِهِ فَقَتَلَهُ ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى : أقَتَلْتَ نَفْسا زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ ، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا نُكْرا ، قالَ : أَلْمْ أقُلْ لَكَ إنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعَي صَبْرا ؟ قالَ : إنْ سألْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنّي عُذْرا . قالَ : فانْطَلَقّ حتى إذَا أتَيا أهْلَ قَرْيَةِ اسْتَطْعَما أهْلَها ، فَلَمْ يَجدَا أحَدا يُطْعِمُهُمْ وَلا يَسْقِيهِمْ ، فَوَجَدَا فِيها جِدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضّ ، فأقاَمهُ بيَدِهِ ، قالَ : مَسَحَه بِيَدِهِ فَقالَ لَهُ مُوسَى : لَمْ يُضَيّفُونا ولَمْ يُنْزِلُونا ، لَوْ شِئْتَ لاتّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرا ، قالَ : هَذَا فِرَقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَوَددْتُ أنّهُ كانَ صَبَرَ حتى يَقُصّ عَلَيْنا قَصَصَهُمْ » .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن سعيد بن جبير ، قال : جلست فأسنَدَ ابن عباس وعنده نفر من أهل الكتاب ، فقال بعضهم : يا أبا العباس ، إن نوفا ابن امرأة كعب يزعم عن كعب ، أن موسى النبيّ الذي طلب العالم ، إنما هو موسى بن ميشا . قال سعيد : قال ابن عباس : أنوف يقول هذا ؟ قال سعيد : فقلت له نعم ، أنا سمعت نوفا يقول ذلك ، قال : أنت سمعته يا سعيد ؟ قال : قلت : نعم ، قال : كذب نوف ثم قال ابن عباس : حدثني أبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إنّ مُوسَى هُوَ نَبِيّ بَنِي إسْرَائِيلَ سأَلَ رَبّهُ فَقالَ : أيْ رَبّ إنْ كانَ فِي عِبادِكَ أحَدٌ هُوَ أعْلَمُ مِنّي فادْلُلْنِي عَلَيْهِ ، فَقالَ لَهُ : نَعَمْ في عِبادِي مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ ، ثُمّ نَعَتَ لَهُ مَكانَهُ ، وأذِنَ لَهُ فِي لُقِيّهِ فخَرَجَ مُوسَى مَعَهُ فَتاه وَمَعَهُ حُوتٌ مَلْيحٌ ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ : إذَا حَيِيَ هَذَا الحُوتُ فِي مَكانِ فصاحبُكَ هُنالكَ وَقَدْ أدْرَكْتَ حاجَتَكَ فَخَرَجَ مُوسَى وَمَعَهُ فَتَاهُ ، وَمَعَهُ ذلكَ الحُوتُ يَحْمِلانِهِ ، فَسارَ حتى جَهَدَهُ السّيْرُ ، وَانْتَهَى إلى الصّخْرَةِ وَإلى ذلكَ المَاءِ ، ماءِ الحَياةِ ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ خَلَدَ ، وَلا يُقاربُهُ شَيْءٌ مَيّتٌ إلاّ حَيِيَ فَلَمّا نَزَلا ، وَمَسّ الحُوتَ المَاءُ حَيِيَ ، فاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَبا فانْطَلَقا ، فَلَمّا جاوَزَا مُنْقَلَبَهُ قالَ مُوسَى : آتِنا غَدَاءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَبا . قالَ الفَتى وَذَكَرَ : أرَأَيْتَ إذْ أوَيْنا إلى الصّخْرَةِ فإنّي نَسِيتُ الحُوتَ وَما أنْسانِيهُ إلاّ الشّيْطانُ أنْ أذْكُرَهُ . واتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ عَجَبا » قال ابن عباس : فظهر موسى على الصخرة حين انتهيا إليها ، فإذا رجل متلفف في كساء له ، فسلم موسى ، فردّ عليه العالم ، ثم قال له : وما جاء بك ؟ إن كان لك في قومك لشغل ؟ قال له موسى : جئتك لتعلمني مما علمت رشدا ، قالَ إنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعَيَ صَبْرا ، وكان رجلاً يعلم علم الغيب قد علّم ذلك ، فقال موسى : بلى قالَ وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبرا : أي إنما تعرف ظاهر ما ترى من العدل ، ولم تُحط من علم الغيب بما أعلم قالَ سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللّهُ صَابِرا وَلا أعْصِيَ لَكَ أمْرا وإن رأيتَ ما يخالفني ، قالَ فإنِ اتّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ وإن أنكرته حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرا ، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ، يتعرّضان الناس ، يلتمسان من يحملهما ، حتى مرّت بهما سفينة جديدة وثيقة لم يمرّ بهما من السفن شيء أحسن ولا أجمل ولا أوثق منها ، فسألا أهلها أن يحملوهما ، فحملوهما ، فلما اطمأنا فيها ، ولجت بهما مع أهلها ، أخرج منقارا له ومطرقة ، ثم عمد إلى ناحية منها فضرب فيها بالمنقار حتى خرقها ، ثم أخذ لوحا فطبقه عليها ، ثم جلس عليها يرقعها . قال له موسى ورأى أمرا فظع به : أخَرَقْتَهَا لتُقْرِقَ أهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا قالَ أَلْمْ أقُلْ إنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعَي صَبْرا قالَ لا تؤاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ : أي ما تركت من عهدك وَلا تُرْهقْنِي منْ أمْرِي عُسْرا . ثم خرجا من السفينة ، فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية فإذا غلمان يلعبون خلفها ، فيهم غلام ليس في الغلمان أظرف منه ، ولا أثرى ولا أوضأ منه ، فأخذه بيده ، وأخذ حجرا ، قال : فضرب به رأسه حتى دمغه فقتله ، قال : فرأى موسى أمرا فظيعا لا صبر عليه ، صبيّ صغير لا ذنب له قالَ أقَتَلْتَ نَفْسا زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ أي صغيرة بغير نفس لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا نُكْرا قالَ أَلْم أقُلْ لَكَ إنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعيَ صَبْرا قالَ إنْ سألْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصَاحبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنّي عُذْرا : أي قد أعذرتَ في شأني فانْطَلَقا حتى إذَا أتَيا أهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أهْلَها فأَبَوْا أنْ يُضَيّفُوهَما فَوَجَدَا فِيها جَدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضّ فهدمه ، ثم قعد يبنيه ، فضجر موسى مما رآه يصنع من التكليف لما ليس عليه صبر ، فقال : لَوْ شِئْتَ لاتّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرا أي قد استطعمناهم فلم يطعمونا ، وضفناهم فلم يضيفونا ، ثم قعدت في غير صنيعة ، ولو شئت لأعطيت عليه أجرا في عمله قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سأُنَبّئُكَ بَتأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرا أمّا السّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ فأرَدْتُ أنْ أعِيبَها ، وَكانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يأْخُذُ كُلّ سَفِينَةٍ غَصْبا ، وفي قراءة أبيّ بن كعب : «كلّ سفينة صالحة » ، وإنما عبتها لأردّه عنها ، فسلمت حين رأى العيب الذي صنعت بها . وأمّا الغُلامُ فَكانَ أبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِيا أنْ يُرْهِقَهُما طُغْيانا وكُفْرا . فأرَدْنا أنْ يُبْدِ لَهُما رَبّهُما خَيْرا مِنْهُ زَكاةً وأقْرَبَ رُحْما وأمّا الجِدَارُ فَكانَ لغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المَدينَةِ وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لهما وكانَ أبُوهُمَا صَالِحا فأرَادَ رَبّكَ أنْ يَبْلُغا أشُدّهُما ويَسْتَخْرِجا كَنْزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي : أي ما فعلته عن نفسي ذلكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرا فكان ابن عباس يقول : ما كان الكنز إلا علما .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، عن الحسن بن عُمارة ، عن أبيه ، عن عكرِمة قال : قيل لابن عباس : لم نسمع لفتى موسى بذكر من حديث ، وقد كان معه ، فقال ابن عباس فيما يذكر من حديث الفتى قال : شرب الفتى من الماء فخلّد ، فأخذه العالم فطابق به سفينة ، ثم أرسله في البحر ، فإنها لتموج به إلى يوم القيامة ، وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَإذْ قالَ مُوسَى لفَتاهُ لا أبْرَحُ حتى أبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ أوْ أمْضِيَ حُقُبا قال : لما ظهر موسى وقومه على مصر أنزل قومه مصر فلما استقرّت بهم الدار أنزل الله عليه أن ذَكّرْهُمْ بِأيّامِ اللّهِ فخطب قومه ، فذكر ما آتاهم الله من الخير والنعمة ، وذكّرَهم إذ أنجاهم الله من أل فرعون ، وذكرهم هلاك عدوّهم ، وما استخلفهم الله في الأرض ، وقال : كلم الله نبيكم تكليما ، واصطفاني لنفسه ، وأنزل عليّ محبة منه ، وآتاكم الله من كلّ ما سألتموه ، فنبيكم أفضل أهل الأرض ، وأنتم تقرأون التوراة ، فلم يترك نعمة أنعمها الله عليهم إلا ذكرها ، وعرّفها إياهم ، فقال له رجل من بني إسرائيل : هم كذلك يا نبيّ الله ، قد عرفنا الذي تقول ، فهل على الأرض أحد أعلم منك يا نبيّ الله ؟ قال : لا فبعث الله جبرئيل إلى موسى عليهما السلام ، فقال : إن الله يقول : وما يدريك أين أضع علمي ؟ بلى إن على شطّ البحر رجلاً أعلم منك فقال ابن عباس : هو الخَضِر ، فسأل موسى ربه أن يريه إياه ، فأوحى الله إليه أن ائت البحر ، فإنك تجد على شطّ البحر حُوتا ، فخذه فادفعه إلى فتاك ، ثم الزم شطّ البحر ، فإذا نسيتَ الحوت وهَلك منك ، فثمّ تجد العبد الصالح الذي تطلب فلما طال سفر موسى نبيّ الله ونصب فيه ، سأل فتاه عن الحوت ، فقال له فتاه وهو غلامه أرَأَيْتَ إذْ أوَيْنا إلى الصّخْرَةِ فإنّي نَسِيتُ الحُوتَ وَما أنْسانِيهُ إلاّ الشّيْطانُ أنْ أذْكُرَهُ قال الفتى : لقد رأيت الحوت حين اتخذ سبيله في البحر سَرَبا ، فأعجب ذلك موسى فرجع حتى أتى الصخرة ، فوجد الحوت يضرب في البحر ، ويتبعه موسى ، وجعل موسى يقدّم عصاه يفرُج بها عن الماء يتبع الحوت ، وجعل الحوت لا تمسّ شيئا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة ، فجعل نبيّ الله يعجب من ذلك حتى انتهى به الحوت إلى جزيرة من جزائر البحر ، فلقى الخَضِر بها فسلم عليه ، فقال الخضر : وعليك السلام ، وأنى يكون هذا السلام بهذه الأرض ، ومن أنت ؟ قال : أنا موسى ، فقال له الخضر : أصاحبُ بني إسرائيل ؟ قال : نعم فرحب به ، وقال : ما جاء بك ؟ قال : جئتك على أن تعلمني مما علّمت رُشدا قَالَ إنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرا قال : لا تطيق ذلك ، قال موسى : سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللّهُ صَابِرا وَلا أعْصِيَ لَكَ أمْرا قال : فانطلق به وقال له : لا تسألني عن شيء أصنعه حتى أبّين لك شأنه ، فذلك قوله : أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرا . فركبا في السفينة يريدان البرّ ، فقام الخضر فخرق السفينة ، فقال له موسى أخَرَقْتَها لتُقْرِقَ أهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَلَمّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوَتَهُما ذُكِر أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لما قطع البحر وأنجاه الله من آل فرعون ، جمع بني إسرائيل ، فخطبهم فقال : أنتم خير أهل الأرض وأعلمه ، قد أهلك الله عدوّكم ، وأقطعكم البحر ، وأنزل عليكم التوراة قال : فقيل له : إن ههنا رجلاً هو أعلم منك . قال : فانطلق هو وفتاه يوشع بن نون يطلبانه ، وتزوّدا سمكة مملوحة في مِكتل لهما ، وقيل لهما : إذا نسيتما ما معكما لقيتما رجلاً عالما يقال له الخضر فلما أتيا ذلك المكان ، ردّ الله إلى الحوت روحه ، فسرب له من الجسر حتى أفضى إلى البحر ، ثم سلك فجعل لا يسلك فيه طريقا إلا صار ماء جامدا . قال : ومضى موسى وفتاه يقول الله عزّ وجلّ : فَلَمّا جاوَزَا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَدَاءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَبا قالَ أرَأَيْتَ إذْ أوَيْنا إلى الصّخْرَةِ فإنّي نَسِيتُ الحُوتَ . . . ثم تلا إلى قوله : وَعَلّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْما فلقيا رجلاً عالما يقال له الخَضِر ، فذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : «إنّما سُمّىَ الخَضِرُ خَضِرا لأنهُ قَعَدَ عَلى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ ، فاهْتَزّتْ بِهِ خَضراء » .

حدثني العباس بن الوليد ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا الأوزاعيّ ، قال : حدثنا الزهريّ ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس أنه تمارى هو والحرّ بن قيس بن حِصْن الفزاريّ في صاحب موسى ، فقال ابن عباس : هو خَضِر ، فمرّ بهما أبيّ بن كعب ، فدعاه ابن عباس فقال : إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيّه ، فقال سمت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه ؟ قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «بَيْنا مُوسَى فِي مَلأ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذْ جاءَهُ رَجُلٌ فَقالَ : تَعْلَمُ مَكانَ أحَدٍ أعْلَمُ مِنْكَ ؟ قالَ مُوسَى : لا ، فَأوْحَى اللّهُ إلى مُوسَى : بَلى عَبْدُنا خَضِرٌ ، فَسأَلَ مُوسَى السّبِيلَ إلى لُقِيّهِ ، فَجَعَلَ اللّهُ لَهُ الحُوتَ آيَةً ، وَقِيلَ لَهُ : إذَا فَقَدْتَ الحُوتَ فارْجِعْ فإنّكَ سَتَلْقاهُ ، فَكانَ مُوسَى يَتْبَعُ أثَرَ الحُوتِ فِي البَحْرِ ، فَقال فَتِى مُوسَى لمُوسَى : أرَأَيْتَ إذْ أوَيْنا إلى الصّخْرَةِ ، فإنّي نَسِيتُ الحُوتَ ، قالَ مُوسَى : ذلكَ ما كُنّا نَبْغِ ، فارْتَدّا عَلى آثارِهِما قَصَصا ، فَوَجَدَا عَبْدَنا خَضِرا ، وكانَ مِنْ شأْنِهِما ما قَصّ اللّهُ في كِتابِهِ » .

حدثني محمد بن مرزوق ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا عبد الله بن عمر النميري ، عن يونس بن يزيد ، قال : سمعت الزهريّ يحدّث ، قال : أخبرني عميد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس ، أنه تمارى هو والحرّ بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى ، ثم ذكر نحو حديث العباس ، عن أُبيّ بن كعب ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَوَجَدَا عَبۡدٗا مِّنۡ عِبَادِنَآ ءَاتَيۡنَٰهُ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمٗا} (65)

{ فوجدا عبدا من عبادنا } الجهور على أنه الخضر عليه السام واسمه بليا بن ملكان . وقيل اليسع . وقيل إلياس . { آتيناه رحمة من عندنا } هي الوحي والنبوة . { وعلّمناه من لدُنا علماً } مما يختص بنا ولا يعلم إلا بتوفيقنا وهو علم الغيوب .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَوَجَدَا عَبۡدٗا مِّنۡ عِبَادِنَآ ءَاتَيۡنَٰهُ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمٗا} (65)

المراد بالعبد : الخضر ، ووصف بأنه من عباد الله تشريفاً له ، كما تقدم عند قوله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده } [ الإسراء : 1 ] .

وعدل عن الإضافة إلى التنكير والصفة لأنه لم يسبق ما يقتضي تعريفه ، وللإشارة إلى أن هذا الحال الغريب العظيم الذي ذكر من قصته ما هو إلا من أحوال عباد كثيرين لله تعالى . وما منهم إلا له مقام معلوم .

وإيتاء الرحمة يجوز أن يكون معناه : أنه جُعل مرحوماً ، وذلك بأن رفق الله به في أحواله . ويجوز أن يكون جعلناه سبب رحمة بأن صرفه تصرفاً يجلب الرحمة العامة . والعلم من لدن الله : هو الإعلام بطريق الوحي .

و ( عند ) و ( لدن ) كلاهما حقيقته اسمُ مكان قريب . ويستعملان مجازاً في اختصاص المضاف إليه بموصوفهما .

و ( من ) ابتدائية ، أي آتيناه رحمةً صدرت من مكان القُرب ، أي الشرف وهو قرب تشريف بالانتساب إلى الله ، وعلماً صدر منه أيضاً . وذلك أن ما أوتيه من الولاية أو النبوءة رحمة عزيزة ، أو ما أوتيه من العلم عزيز ، فكأنهما مما يدخر عند الله في مكان القرب التشريفي من الله فلا يُعطى إلا للمصطفيَن .

والمخالفة بين { من عندنا } وبين { من لدنا } للتفنن تفادياً من إعادة الكلمة .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَوَجَدَا عَبۡدٗا مِّنۡ عِبَادِنَآ ءَاتَيۡنَٰهُ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمٗا} (65)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قوله:"فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا" يقول: وهبنا له رحمة من عندنا "وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا "يقول: وعلمناه من عندنا أيضا علما...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا} يحتمل قوله: {رحمة من عندنا} النبوة حين قال لموسى: {إنك لن تستطيع معي صبرا} (الكهف: 67) لا يحتمل أن يقول له هذا إلا على علم وحي، وحين قال: {وما فعلته عن أمري} (الكهف: 82) أخبر أنه لم يفعل ما فعل عن أمر نفسه، ولكن عن أَمْرِ الله، والله أعلم. ويحتمل قوله: {رحمة من عندنا} كل خير وكل بركة أعطاه الله إياه، أو أن يكون رحمة القلب وشفقته التي كانت منه على أهل السفينة بخرقها وقتل ذلك الغلام الذي قتله إشفاقا على والديه أو على الناس وإقامة الجدار الذي كاد أن ينقض، فأقامه، وأمثاله...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

{ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا}: أي صار مرحوماً من قِبَلِنا بتلك الرحمة التي خصصناه بها من عندنا، فيكون الخضر بتلك الرحمة مرحوماً، ويكون بها راحماً على عبادنا...

جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :

العلم اللدني يكون لأهل النبوة والولاية، كما للخضر عليه السلام حيث أخبر الله تعالى عنه فقال: {وعلمناه من لدنا علما} [الرسالة اللدنية ضمن المجموعة: رقم 3 ص: 106]. 665- هذا هو العلم الرباني، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وعلمناه من لدنا علما} مع أن كل علم من لدنه، ولكن بعضه بوسائط تعليم الخلق، فلا يسمى ذلك علما لدنيا، بل اللدني الذي ينفتح في سر القلب من غير سبب مألوف من خارج. [الإحياء: 3/140]...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا} هي الوحي والنبوة {مّن لَّدُنَّا} مما يختص بنا من العلم، وهو الإخبار عن الغيوب...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

و «العبد» هو الخضر في قول الجمهور بمقتضى الأحاديث، وخالف من لا يعتد بقوله فقال ليس، صاحب موسى بالخضر بل هو عالم آخر، والخضر نبي عند الجمهور، وقيل هو عبد صالح غير نبي، والآية تشهد بنبوته لأن بواطن أفعاله هل كانت إلا بوحي الله...

كان علم الخضر معرفة بواطن قد أوحيت إليه لا تعطي ظواهر الأحكام أفعاله بحسبها. وكان علم موسى عليه السلام علم الأحكام والفتيا بظاهر أقوال الناس وأفعالهم... و«الرحمة» في هذه الآية النبوءة،...

جهود القرافي في التفسير 684 هـ :

هذه الآية استدل بها بعض الفضلاء على الفرق بين "لَدُن "و "عند" ولذلك فرق بين الرحمة والعلم، فذكر العِلم مع "لدن" لأنه أفضل، فذكر بما يدل على القُرب، والرحمة، والإحسان من حيث الجملة، فذكر مع "عند"...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{فوجدا عبداً من عبادنا} مضافاً إلى حضرة عظمتنا وهو الخضر عليه السلام {ءاتيناه} بعظمتنا {رحمة} أي وحياً ونبوة، وكونه نبياً قول الجمهور {من عندنا} أي مما لم يجر على قوانين العادات غير أنه ليس بمستغرب عند أهل الاصطفاء {وعلمناه من لدنا} أي من الأمور المستبطنة المستغربة التي عندنا مما لم يحدث عن الأسباب المعتادات، فهو مستغرب عند أهل الاصطفاء {علماً} قذفناه في قلبه بغير واسطة؛ و قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي:"عند" في لسان العرب لما ظهر، و "لدن "لما بطن، فيكون المراد بالرحمة ما ظهر من كراماته، وبالعلم الباطن الخفي المعلوم قطعاً أنه خاص بحضرته سبحانه...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

المراد بالعبد: الخضر، ووصف بأنه من عباد الله تشريفاً له، كما تقدم عند قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده} [الإسراء: 1].

وعدل عن الإضافة إلى التنكير والصفة لأنه لم يسبق ما يقتضي تعريفه، وللإشارة إلى أن هذا الحال الغريب العظيم الذي ذكر من قصته ما هو إلا من أحوال عباد كثيرين لله تعالى. وما منهم إلا له مقام معلوم.

وإيتاء الرحمة يجوز أن يكون معناه: أنه جُعل مرحوماً، وذلك بأن رفق الله به في أحواله. ويجوز أن يكون جعلناه سبب رحمة بأن صرفه تصرفاً يجلب الرحمة العامة. والعلم من لدن الله: هو الإعلام بطريق الوحي.

و (عند) و (لدن) كلاهما حقيقته اسمُ مكان قريب. ويستعملان مجازاً في اختصاص المضاف إليه بموصوفهما.

و (من) ابتدائية، أي آتيناه رحمةً صدرت من مكان القُرب، أي الشرف وهو قرب تشريف بالانتساب إلى الله، وعلماً صدر منه أيضاً. وذلك أن ما أوتيه من الولاية أو النبوءة رحمة عزيزة، أو ما أوتيه من العلم عزيز، فكأنهما مما يدخر عند الله في مكان القرب التشريفي من الله فلا يُعطى إلا للمصطفيَن...

أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :

هذا العبد المذكور في هذه الآية الكريمة هو الخضر عليه السلام بإجماع العلماء، ودلالة النصوص الصحيحة على ذلك من كلام النَّبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الرحمة والعلم اللدني اللذان ذكر الله امتنانه عليه بهما لم يبين هنا هل هما رحمة النبوة وعلمها، أو رحمة الولاية وعلمها...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

ولا نجد هناك كبير فائدة في تحقيق الأمر في شخصيته وفي خصوصيته، لأن ذلك لا يتصل بأيِّ جانبٍ في العقيدة والحياة. {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا} ربما كانت هي النبوّة، وربما كانت شيئاً آخر مما يرحم به عباده، ويختص بعضهم بميزةٍ خاصة في موقعه وفي ملكاته. {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} مما لم يؤته الله لغيره من عمق الإحاطة بخفايا الأمور وتأويل الأشياء، وهذا ما كان الآخرون ومنهم موسى النبي (عليه السلام) بحاجة إلى الاطّلاع عليه، مما أراده الله أن يسعى إليه في اللقاء بهذا العالم الصالح...