وعلى أية حال فإن كثرة الخوارق لا تنشى ء الإيمان في القلوب الجاحدة . وها هو ذا موسى قد أوتي تسع آيات بينات ثم كذب بها فرعون وملؤه ، فحل بهم الهلاك جميعا .
( ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ، فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم ، فقال له فرعون : إني لأظنك يا موسى مسحورا . قال : لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر ، وإني لأظنك يا فرعون مثبورا . فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا . وقلنا من بعده لبني إسرائيل : اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا ) . .
وهذا المثل من قصة موسى وبني إسرائيل يذكر لتناسقه مع سياق السورة وذكر المسجد الأقصى في أولها وطرف من قصة بني إسرائيل وموسى . وكذلك يعقب عليه بذكر الآخرة والمجيء بفرعون وقومه لمناسبة مشهد القيامة القريب في سياق السورة ومصير المكذبين بالبعث الذي صوره هذا المشهد .
والآيات التسع المشار إليها هنا هي اليد البيضاء والعصا وما أخذ الله به فرعون وقومه من السنين ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم . . ( فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم ) فهم شهداء على ما كان بين موسى وفرعون :
( فقال له فرعون : إني لأظنك يا موسى مسحورا ) . . فكلمة الحق وتوحيد الله والدعوة إلى ترك الظلم والطغيان والإيذاء لا تصدر في عرف الطاغية إلا من مسحور لا يدري ما يقول ! فما يستطيع الطغاة من أمثال فرعون أن يتصوروا هذه المعاني ؛ ولا أن يرفع أحد رأسه ليتحدث عنها وهو يملك قواه العقلية !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ تِسْعَ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنّي لأظُنّكَ يَمُوسَىَ مَسْحُوراً } .
يقول تعالى ذكره : ولقد آتينا موسى بن عمران تسع آيات بيّنات تُبين لمن رآها أنها حجج لموسى شاهدة على صدقه وحقيقة نبوّته .
وقد اختلف أهل التأويل فيهنّ وما هنّ . فقال بعضهم في ذلك ما :
حدثني به محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى تِسْعَ آياتٍ بَيّناتٍ قال : التسع الاَيات البينات : يده ، وعصاه ، ولسانه ، والبحر ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم آيات مفصلات .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى تِسْعَ آياتٍ بَيّناتٍ إلقاء العصا مرّتين عند فرعون ، ونزع يده ، والعقدة التي كانت بلسانه ، وخمس آيات في الأعراف : الطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم .
وقال آخرون : نحوا من هذا القول ، غير أنهم جعلوا آيتين منهنّ : إحداهما الطمسة ، والأخرى الحجر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن برياة بن سفيان ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : سألني عمر بن عبد العزيز ، عن قوله : وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى تِسْعَ آياتٍ بَيّناتٍ فقلت له : هي الطوفان والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والبحر ، وعصاه ، والطمسة ، والحجر ، فقال : وما الطمسة ؟ فقلت : دعا موسى وأمّن هارون ، فقال : قد أجيبت دعوتكما ، وقال عمر : كيف يكون الفقه إلا هكذا . فدعا عمر بن عبد العزيز بخريطة كانت لعبد العزيز بن مروان أصيبت بمصر ، فإذا فيها الجوزة والبيضة والعدسة ما تنكر ، مسخت حجارة كانت من أموال فرعون أصيبت بمصر .
وقال آخرون : نحوا من ذلك إلا أنهم جعلوا اثنتين منهنّ : إحداهما السنين ، والأخرى النقص من الثمرات . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ومطر الورّاق ، في قوله : تِسْعَ آياتٍ قالا : الطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والعصا ، واليد ، والسنون ، ونقص من الثمرات .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، في قوله : تِسْع آياتٍ بَيّناتٍ قال : الطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والسنين ، ونقص من الثمرات ، وعصاه ، ويده .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سُئل عطاء بن أبي رباح عن قوله : وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى تِسْعَ آياتٍ بَيّناتً ما هي ؟ قال : الطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، وعصى موسى ، ويده .
قال : ابن جريج : وقال مجاهد مثل قول عطاء ، وزاد : أخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بالسّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثّمَرَاتِ قال : هما التاسعتان ، ويقولون : التاسعتان : السنين ، وذهاب عجمة لسان موسى .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن ابن عباس ، في قوله : تِسْعَ آياتٍ بَيّناتٍ وهي متتابعات ، وهي في سورة الأعراف وَلَقَدْ أخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بالسّنِينَ وَنِقْصٍ مِنَ الثّمَرَاتِ قال : السنين في أهل البوادي ، ونقص من الثمرات لأهل القُرى ، فهاتان آيتان ، والطوافان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، هذه خمس ، ويد موسى إذ أخرجها بيضاء للناظرين من غير سوء : البرص ، وعصاه إذ ألقاها ، فإذا هي ثعبان مبين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن ابن عباس ، قوله : وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى تِسْعَ آياتٍ بَيّناتٍ قال : يد موسى ، وعصاه ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم والسنين ، ونقص من الثمرات .
وقال آخرون نحوا من ذلك إلا أنهم جعلوا السنين ، والنقص من الثمرات آية واحدة ، وجعلوا التاسعة : تلقف العصا ما يأفكون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال الحسن ، في قوله : تِسْعَ آياتٍ بَيّناتٍ ، وَلَقَدْ أخْذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بالسّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثّمَرَاتِ قال : هذه آية واحدة ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، ويد موسى ، وعصاه إذ ألقاها فإذا هي ثعبان مبين ، وإذ ألقاها فإذا هي تلقف ما يأفكون . وقال آخرون في ذلك ما :
حدثني محمد بن المثنى ، قال : ثني محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرّة ، قال : سمعت عبد الله بن سلمة يحدّث عن صفوان بن عسال ، قال : قال يهوديّ لصاحبه : اذهب بنا إلى النبيّ حتى نسأله عن هذه الاَية . ولَقَدْ آتَيْنا مُوسَى تِسْعَ آياتٍ بَيّناتٍ قال : لا تقل له نبيّ ، فإنه إن سمعك صارت له أربعة أعين ، قال : فسألا ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لا تُشْركُوا بالله شَيْئا ، وَلا تَسْرقُوا ، وَلا تَزْنُوا ، وَلا تَقْتُلُوا النّفْسَ التي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بالحَقّ ، وَلا تَسْحَرُوا ، وَلا تَأْكُلُوا الرّبا ، وَلا تَمْشُوا بَبريءٍ إلى ذي سُلْطانٍ لِيَقْتُلَهُ ، وَلا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً ، أو قال : لا تَفرّوا مِنَ الزّحْف » شعبة الشاكّ «وأنْتُمْ يا يَهُودُ عَلَيْكُمْ خاصّةً لا تَعْدُوا في السّبْت » فقبّلا يده ورجله ، وقالا : نشهد أنك نبيّ ، قال : «فما يمنعكما أن تسلما ؟ » قالا : إن داود دعا أن لا يزال من ذرّيته نبيّ ، وإنا نخشى أن تقتلنا يهود .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا سهل بن يوسف وأبو داود وعبد الرحمن بن مهدي ، عن سعيد ، عن عمرو ، قال : سمعت عبد الله بن سلمة يحدّث عن صفوان بن عسال المرادي ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه ، إلا أن ابن مهديّ قال : «لا تَمْشُوا إلى ذي سُلْطانٍ » وقال ابن مهدي : أراه قال : «ببريء » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الله بن إدريس وأبو أسامة بنحوه ، عن شعبة بن الحجاج ، عن عمرو بن مرّة ، عن عبد الله بن سلمة ، عن صفوان بن عسال ، قال : قال يهودي لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا النبيّ ، فقال صاحبه : لا تقل نبيّ ، إنه لو سمعك كان له أربع أعين ، قال : فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يسألانه عن تسع آيات بينات ، فقال : «هنّ : وَلا تُشْرِكُوا باللّهِ شَيْئا ، وَلا تَسْرِقُوا ، وَلا تَزْنُوا ، وَلا تَقْتُلُوا النّفْسَ التي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بالحَقّ ، وَلا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إلى ذِي سُلْطانٍ لِيَقْتُلَهُ ، وَلا تَسْحَرُوا ، وَلا تَأْكُلُوا الرّبا ، وَلا تَقْذِفُوا المُحْصَنَةَ ، وَلا تَوَلّوْا يَوْمَ الزّحْفِ وَعَلَيْكُمْ خاصَةً يَهُودُ : أنْ لا تَعْدُوا في السّبْتِ » قال : فقبّلوا يديه ورجليه ، وقالوا : نشهد أنك نبيّ ، قال : «فَمَا يَمْنَعُكُمْ أنْ تَتّبِعُونِي ؟ » قالوا : إن داود دعا أن لا يزال من ذرّيته نبيّ ، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا شعبة بن الحجاج ، عن عمرو بن مرّة ، عن عبد الله بن سلمة ، عن صفوان بن عسّال ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه .
وأما قوله : فاسأَلْ بَنِي إسْرَائيلَ إذْ جاءَهُمْ فإن عامّة قرّاء الإسلام على قراءته على وجه الأمر بمعنى : فاسأل يا محمد بني إسرائيل إذ جاءهم موسى ورُوي عن الحسن البصري في تأويله ما :
حدثني به الحارث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن إسماعيل ، عن الحسن فأسأَلْ بَنِي إسْرَائِيلَ قال : سؤالك إياهم : نظرك في القرآن .
ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك : «فَسَأَلَ » بمعنى : فسأل موسى فرعون بني إسرائيل أن يرسلهم معه على وجه الخبر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن حنظلة السّدوسيّ ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس ، أنه قرأ : «فَسأَلَ بَنِي إسْرَائِيلَ إذْ جاءَهُمْ » يعني أن موسى سأل فرعونَ بني إسرائيل أن يرسلهم معه .
والقراءة التي لا أستجيز أن يُقرأ بغيرها ، هي القراءة التي عليها قرّاء الأمصار ، لإجماع الحجة من القرّاء على تصويبها ، ورغبتهم عما خالفهم .
وقوله : فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنَ إنّي لأَطُنّكَ يا مُوسَى مَسْحُورا يقول : فقال لموسى فرعونُ : إني لأظنك يا موسى تتعاطى علم السحر ، فهذه العجائب التي تفعلها من سحرك وقد يجوز أن يكون مرادا به إني لأظنك يا موسى ساحرا ، فوُضِع مفعول موضع فاعل ، كما قيل : إنك مشؤوم علينا وميمون ، وإنما هو شائم ويامن . وقد تأوّل بعضهم حجابا مستورا ، بمعنى : حجابا ساترا ، والعرب قد تخرج فاعلاً بلفظ مفعول كثيرا .