كانت الدروس الثلاثة الماضية في هذا الجزء تدور - في جملتها - حول إنشاء بعض قواعد التصور الإيماني ؛ وإيضاح هذا التصور ؛ وتعميق جذوره في نواح شتى . وكان هذا محطا في خط السورة الطويلة ؛ التي تعالج - كما أسلفنا - إعداد الجماعة المسلمة للنهوض بتكاليف دورها في قيادة البشرية .
والأن نواجه النصوص القرآنية في هذا الدرس تفصيلا :
( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل ، في كل سنبلة مائة حبة . والله يضاعف لمن يشاء . والله واسع عليم ) . .
إن الدستور لا يبدأ بالفرض والتكليف ؛ إنما يبدأ بالحض والتأليف . . إنه يستجيش المشاعر والانفعالات الحية في الكيان الإنساني كله . . إنه يعرض صورة من صور الحياة النابضة النامية المعطية الواهبة : صورة الزرع . هبة الأرض أو هبة الله . الزرع الذي يعطي أضعاف ما يأخذه ، ويهب غلاته مضاعفة بالقياس إلى بذوره . يعرض هذه الصورة الموحية مثلا للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله :
( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل ، في كل سنبلة مائة حبة ) . .
إن المعنى الذهني للتعبير ينتهي إلى عملية حسابية تضاعف الحبة الواحدة إلى سبعمائة حبة ! أما المشهد الحي الذي يعرضه التعبير فهو أوسع من هذا وأجمل ؛ وأكثر استجاشة للمشاعر ، وتأثيرا في الضمائر . . إنه مشهد الحياة النامية . مشهد الطبيعة الحية . مشهد الزرعة الواهبة . ثم مشهد العجيبة في عالم النبات : العود الذي يحمل سبع سنابل . والسنبلة التي تحوي مائة حبة !
وفي موكب الحياة النامية الواهبة يتجه بالضمير البشري إلى البذل والعطاء . إنه لا يعطي بل يأخذ ؛ وإنه لا ينقص بل يزاد . . وتمضي موجة العطاء والنماء في طريقها . تضاعف المشاعر التي استجاشها مشهد الزرع والحصيلة . . إن الله يضاعف لمن يشاء . يضاعف بلا عدة ولا حساب . يضاعف من رزقه الذي لا يعلم أحد حدوده ؛ ومن رحمته التي لا يعرف أحد مداها :
واسع . . لا يضيق عطاؤه ولا يكف ولا ينضب . عليم . . يعلم بالنوايا ويثبت عليها ، ولا تخفى عليه خافية .
{ مّثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّئَةُ حَبّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
وهذه الآية مردودة إلى قوله : { مَنْ ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أضْعافا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } . والاَيات التي بعدها إلى قوله : { مَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } من قصص بني إسرائيل وخبرهم مع طالوت وجالوت ، وما بعد ذلك من نبإ الذي حاجّ إبراهيم مع إبراهيم ، وأمر الذي مرّ على القرية الخاوية على عروشها ، وقصة إبراهيم ومسألته ربه ما سأل مما قد ذكرناه قبل¹ اعتراض من الله تعالى ذكره بما اعترض به من قصصهم بين ذلك احتجاجا منه ببعضه على المشركين الذين كانوا يكذبون بالبعث وقيام الساعة ، وحضّا منه ببعضه للمؤمنين على الجهاد في سبيله الذي أمرهم به في قوله : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } . يعرّفهم فيهم أنه ناصرهم وإن قلّ عددهم وكثر عدد عدوّهم ، ويعدهم النصرة عليهم ، ويعلمهم سنته فيمن كان على منهاجهم من ابتغاء رضوان الله أنه مؤيدهم ، وفيمن كان على سبيل أعدائهم من الكفار بأنه خاذلهم ومفرّق جمعهم وموهن كيدهم ، وقطعا منه ببعض عذر اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بما أطلع نبيه عليه من خفيّ أمورهم ، ومكتوم أسرار أوائلهم وأسلافهم التي لم يعلمها سواهم ، ليعلموا أن ما أتاهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله ، وأنه ليس بتخرّص ولا اختلاق ، وإعذارا منه به إلى أهل النفاق منهم ، ليحذروا بشكهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم أن يحلّ بهم من بأسه وسطوته ، مثل الذي أحلهما بأسلافهم الذين كانوا في القرية التي أهلكها ، فتركها خاوية على عروشها . ثم عاد تعالى ذكره إلى الخبر عن الذي يقرض الله قرضا حسنا ، وما عنده له من الثواب على قرضه ، فقال : { مَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } يعني بذلك : مثل الذين ينفقون أموالهم على أنفسهم في جهاد أعداء الله بأنفسهم وأموالهم ، { كَمَثَلِ حَبّةٍ } من حبات الحنطة أو الشعير ، أو غير ذلك من نبات الأرض التي تسنبل سنبلة بذرها زارع . «فأنبتت » ، يعني فأخرجت { سَبْعَ سَنَابِلَ في كُلّ سُنْبُلَةٍ مائة حَبّة } ، يقول : فكذلك المنفق ماله على نفسه في سبيل الله ، له أجره سبعمائة ضعف على الواحد من نفقته . كما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { كَمَثَلِ حَبّةٍ أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبّةٍ } فهذا لمن أنفق في سبيل الله ، فله سبعمائة .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { مَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبّةٍ أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنْبُلَةٍ مِائَةَ حَبّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ } قال : هذا الذي ينفق على نفسه في سبيل الله ويخرُج .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { مَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبّةٍ أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبّةٍ } . . . الآية . فكان من بايع النبيّ صلى الله عليه وسلم على الهجرة ، ورابط مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، ولم يلق وجها إلا بإذنه ، كانت الحسنة له بسبعمائة ضعف ، ومن بايع على الإسلام كانت الحسنة له عشر أمثالها .
فإن قال قائل : وهل رأيت سنبلة فيها مائة حبة أو بلغتك فضرب بها المثل المنفق في سبيل الله ماله ؟ قيل : إن يكن ذلك موجودا فهو ذاك ، وإلا فجائز أن يكون معناه : كمثل سنبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ، إن جعل الله ذلك فيها . ويحتمل أن يكون معناه : في كل سنبلة مائة حبة¹ يعني أنها إذا هي بذرت أنبتت مائة حبة ، فيكون ما حدث عن البذر الذي كان منها من المائة الحبة مضافا إليها لأنه كان عنها . وقد تأول ذلك على هذا الوجه بعض أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قوله : { مَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبّةٍ أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبّةٍ } قال : كل سنبلة أنبتت مائة حبة ، فهذا لمن أنفق في سبيل الله ، { وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ } . فقال بعضهم : الله يضاعف لمن يشاء من عباده أجر حسناته بعد الذي أعطى المنفق في سبيله من التضعيف الواحدة سبعمائة . فأما المنفق في غير سبيله ، فلا نفقة ما وعده من تضعيف السبعمائة بالواحدة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : هذا يضاعف لمن أنفق في سبيل الله ، يعني السبعمائة¹ { وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } يعني لغير المنفق في سبيله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : والله يضاعف لمن يشاء من المنفقين في سبيله على السبعمائة إلى ألفي ألف ضعف . وهذا قول ذكر عن ابن عباس من وجه لم أجد إسناده فتركت ذكره .
والذي هو أولى بتأويل قوله : { وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } والله يضاعف على السبعمائة إلى ما يشاء من التضعيف لمن يشاء من المنفقين في سبيله¹ لأنه لم يجر ذكر الثواب والتضعيف لغير المنفق في سبيل الله فيجوز لنا توجيه ما وعد تعالى ذكره في هذه الآية من التضعيف إلى أنه عدة منه على العمل على غير النفقة في سبيل الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } .
يعني تعالى ذكره بذلك : والله واسع أن يزيد من يشاء من خلقه المنفقين في سبيله على أضعاف السبعمائة التي وعده أن يزيده ، عليم من يستحقّ منهم الزيادة . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } قال : واسع أن يزيد من سعته ، عليم عالم بمن يزيده .
وقال آخرون : معنى ذلك : والله واسع لتلك الأضعاف ، عليم بما ينفق الذين ينفقون أموالهم في طاعة الله .