البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنۢبَتَتۡ سَبۡعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنۢبُلَةٖ مِّاْئَةُ حَبَّةٖۗ وَٱللَّهُ يُضَٰعِفُ لِمَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ} (261)

الحبة : اسم جنس لكل ما يزرعه ابن آدم ويقتاته ، وأشهر ذلك البر ، وكثيراً ما يراد بالحب .

ومنه قول المتلمس :

آليت حب العراق الدهر أطعمه***

والحب يأكله في القرية السوس

وحبة القلب سويداؤه ، والحِبة بكسر الحاء بذور البقل مما ليس بقوت ، والحُبة بالضم الحب والحب الحبيب .

الانبات : الإخراج على سبيل التولد .

السنبلة : معروفة ، ووزنها فنعلة ، فالنون زائدة بذلك على قولهم : أسبل الزرع أرسل ما فيه كما ينسبل الثوب ، وحكى بعض اللغويين سنبل الزرع .

قال بعض أصحابنا النون أصلية ، ووزنه فعلل ، لأن فنعل لم يثبت فيكون مع أسبل كسبط وسبطر .

{ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة } مناسبة هذه الأية لما قبلها هي أنه لما ذكر قصة المارِّ على قرية وقصة إبراهيم ، وكانا من أدل دليل على البعث ، ذكر ما ينتفع به يوم البعث ، وما يجد جدواه هناك .

وهو الإنفاق في سبيل الله ، كما أعقب قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت بقوله : { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } وكما أعقب قتل داود جالوت ، وقوله : { ولو شاء الله ما اقتتلوا } بقوله : { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم } فكذلك أعقب هنا ذكر الإحياء والإماتة بذكر النفقة في سبيل الله ، لأن ثمرة النفقة في سبيل الله ، لأن ثمرة النفقة في سبيل الله إنما تظهر حقيقة يوم البعث : { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً } واستدعاء النفقة في سبيل الله مذكر بالبعث ، وخاض على اعتقاده ، لأنه لو لم يعتقد وجوده لما كان ينفق في سبيل الله ، وفي تمثيل النفقة بالحبة المذكورة إشارة أيضاً إلى البعث ، وعظيم القدرة ، إذ حبة واحدة يخرج الله منها سبعائة حبة ، فمن كان قادراً على مثل هذا الأمر العجاب ، فهو قادر على إحياء الموات ، ويجامع ما اشتركا فيه من التغذية والنمو .

ويقال : لما ذكر المبدأ والمعاد ، ودلائل صحتها ، أتبع ذلك ببيان الشرائع والأحكام والتكاليف ، فبدأ بإنفاق الأموال في سبيل الله ، وأمعن في ذلك ، ثم انتقل إلى كيفية تحصيل الأموال بالوجه الذي جوز شرعاً .

ولما أجمل في ذكر التضعيف في قوله : { أضعافاً كثيرة } وأطلق في قوله : { أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم } فصل في هذه الآية ، وقيد بذكر المشبه به ، وما بين الآيات دلالة على قدرته على الإحياء والإماتة ، إذا لولا ذلك لم يحسن التكليف كما ذكرناه ، فهذه وجوه من المناسبة .

والمثل هنا الصفة ، ولذلك قال : { كمثل حبة } أي كصفة حبة ، وتقدير زيادة الكاف ، أو زيادة مثل .

قول بعيد .

وهذه الآية شبيهة في تقدير الحذف بقوله : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق } فيحتمل أن يكون الحذف من الأول ، أي : مثل منفق الذين ، أو من الثاني : أي كمثل زارع ، حتى يصح التشبيه ، أو من الأول ومن الثاني باختلاف التقدير ، أي : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ومنفقهم .

كمثل حبة وزارعها .

وقد تقدم الكلام في تقرير هذا الوجه في قصة الكافر والناعق ، فيطالع هناك .

وهذا المثل يتضمن التحريض على الإنفاق في سبيل الله جميع ما هو طاعة ، وعائد نفعه على المسلمين ، وأعظمها وأعناها الجهاد لإعلاء كلمة الله وقيل : المراد : بسبيل الله ، هنا الجهاد خاصة ، وظاهر الإنفاق في سبيل الله يقتضي الفرض والنفل ، ويقتضي الإنفاق على نفسه في الجهاد وغيره ، والإنفاق على غيره ليتقوى به على طاعة من جهاد أو غيره .

وشبه الإنفاق بالزرع ، لأن الزرع لا ينقطع .

وأظهر تاء التأنيث عند السين : الحرميان ، وعاصم ، وابن ذكوان ، وأدغم الباقون .

ولتقارب السين من التاء أبدلت منها : النات ، والأكيات في : الناس ، والأكياس .

ونسب الإنبات إلى الحبة على سبيل المجاز ، إذ كانت سبباً للإنبات ، كما ينسب ذلك إلى الماء والأرض والمنبت هو الله ، والمعنى : أن الحبة خرج منها ساق ، تشعب منها سبع شعب ، في كل شعبة سنبلة ، في كل سنبلة مائة حبة ، وهذا التمثيل تصوير للأضعاف كأنها ماثلة بين عيني الناظر ، قالوا : والممثل به موجود ، شوهد ذلك في سنبلة الجاورس .

وقال الزمخشري : هو موجود في الدخن والذرة وغيرهما ، وربما فرخت ساق البرة في الأراضي القوية المغلة ، فبلغ حبها هذا المبلغ ، ولو لم يوجد لكان صححيحاً في سبيل الفرض والتقدير ؛ انتهى كلامه .

وقال ابن عيسى : ذلك يتحقق في الدخن ، على أن التمثيل يصح بما يتصور ، وإن لم يعاين .

كما قال الشاعر :

فما تدوم على عهد تكون به***

كما تلوّن في أثوابها الغول

انتهى كلامه .

وكما قال امرؤ القيس :

أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي***

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

وخص سبعاً من العدد لأنه كما ذكر ، وأقصى ما تخرجه الحبة من الأسؤق .

وقال ابن عطية : قد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة ، وأما في سائر الحبوب فأكثر ، ولكن المثال وقع بمائة ، وقد ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشرة أمثالها ، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد بسبعمائة ضعف ، ومن ذلك الحديث الصحيح .

انتهى ما ذكره .

وقيل : واختص هذا العدد لأن السبع أكثر أعداد العشرة ، والسبعين أكثر أعداد المائة ، وسبع المائة أكثر أعداد الألف ، والعرب كثيراً ما تراعي هذه الأعداد .

قال تعالى : { سبع سنابل } و { سبع ليال } و { سبع سنبلات } و { سبع بقرات } و { سبع سموات } و { سبع سنين } و { ان نستغفر لهم سبعين مرة } { ذرعها سبعون ذراعاً } وفي الحديث : « إلى سبعمائة ضعف » « إلى سبعة آلاف » « إلى ما لا يحصي عدده إلاَّ الله » وأتى التمييز هنا بالجمع الذي لا نظير له في الآحاد ، وفي سورة يوسف بالجمع بالألف والتاء في قوله : { وسبع سنبلات خضر } قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : { سبع سنبلات } على حقه من التمييز لجمع القله ، كما قال : { وسبع سنبلات خضر } قلت : هذا لما قدمت عند قوله : { ثلاثة قروء } من وقوع أمثلة الجمع متعاورة مواقعها .

انتهى كلامه .

فجعل هذا من باب الاتساع ، ووقوع أحد الجمعين موقع الآخر على سبيل المجاز ، إذ كان حقه أن يميز بأقل الجمع ، لأن السبع من أقل العدد ، وهذا الذي قاله الزمخشري ليس على إطلاقه ، فنقول : جمع السلامة بالواو والنون ، أو بالألف والتاء ، لا يميز به من ثلاثة إلى عشرة إلاَّ إذا لم يكن لذلك المفرد جمع غير هذا الجمع ، أو جاور ما أهمل فيه هذا الجمع ، وإن كان المجاور لم يهمل فيه هذا الجمع .

فمثال الأول : قوله تعالى : { سبع سموات } فلم يجمع سماء هذه المظلة سوى هذا الجمع ، وأما قوله :

فوق سبع سمائيا***

فنصوا على شذوذه ، وقوله تعالى : { سبع بقرات } { وتسع آيات } وخمس صلوات لأن البقرة والآية والصلاة ليس لها سوى هذا الجمع ، ولم يجمع على غيره .

ومثال الثاني : قوله تعالى : { وسبع سنبلات خضر } لما عطف على : { سبع بقرات } وجاوره حسن فيه جمعه بالألف والتاء ، ولو كان لم يعطف ولم يجاور لكان : { سبع سنابل } ، كما في هذه الآية ، ولذلك إذا عرى عن المجاور جاء على مفاعل في الأكثر ، والأَوْلى ، وإن كان يجمع بالألف والتاء ، مثال ذلك قوله تعالى : { سبع طرائق } و { سبع ليال } ولم يقل : طريقات ، ولا : ليلات ، وإن كان جائزاً في جمع طريقة وليلة ، وقوله تعالى : { عشرة مساكين } ، وإن كان جائزاً في جمعه أن يكون جمع سلامة .

فتقول : مسكينون ومسكينين ، وقد آثروا ما لا يماثل مفاعل من جموع الكثرة على جمع التصحيح ، وإن لم يكن هناك مجاور يقصد مشاكلته لقوله تعالى : { ثماني حجج } وإن كان جائزاً فيه أن يجمع بالألف والتاء ، لأن مفرده حجة ، فتقول : حجات ، فعلى هذا الذي تقرر إذا كان للاسم جمعان : جمع تصحيح ، وجمع تكسير ، فجمع التكسير إما أن يكون للكثرة أو للقلة ، فإن كان للكثرة ، فإما أن يكون من باب مفاعل ، أو من غير باب مفاعل ، إن كان من باب مفاعل أوثر على جمع التصحيح ، فتقول : جاءني ثلاثة أحامد ، وثلاث زيانب ، ويجوز التصحيح على قلة ، فتقول : جاءني ثلاثة أحمدين ، وثلاث زينبات ، وإن لم يكن من باب مفاعل .

فإما أن يكثر فيه غير التصحيح ، وغير جمع الكثرة ، فلا يجوز التصحيح ، ولا جمع الكثرة إلاَّ قليلاً ، مثال ، ذلك : جاءني ثلاثة زيود ، وثلاث هنود ، وعندي ثلاثة أفلس ، ولا يجوز : ثلاثة زيدين ، ولا : ثلاث هندات ، ولا : ثلاثة فلوس ، إلاَّ قليلاً .

وإن قل فيه غير التصحيح ، وغير جمع الكثرة أوثر التصحيح وجمع الكسرة ، مثال ذلك : ثلاث سعادات ، وثلاثة شسوع ، ويجوز على قلة : ثلاث سعائد ، وثلاثة أشسع .

وتحصل من هذا الذي قررناه أن قوله { سبع سنابل } جاء على ما تقرر في العربية من كونه جمعاً متناهياً ، وأن قوله : { سبع سنبلات } إنما جاز لأجل مشاكلة : { سبع بقرات } ومجاورته ، فليس استعذار الزمخشري بصحيح .

و { في كل سنبلة } في موضع الصفة : لسنابل ، فتكون في موضع جر ، أو : لسبع ، فيكون في موضع نصب ، وترتفع على التقديرين : مائة ، على الفاعل لأن الجار قد اعتمد بكونه صفة ، وهو أحسن من أن يرتفع على الابتداء ، و : في كل ، خبره ، والجملة صفة ، لأن الوصف بالمفرد أولى من الوصف بالجملة ، ولا بد من تقدير محذوف ، أي : في كل سنبلة منها ، أي : من السنابل .

وقرئ شاذاً : مائة حبة ، بالنصب ، وقدر بأخرجت ، وقدره ابن عطية بأنبتت ، والضمير عائد على الحبة ، وجوز أن ينتصب على البدل من : { سبع سنابل } وفيه نظر ، لأنه لا يصح أن يكون بدل كل من كل ، لأن { مائة حبة } ليس نفس { سبع سنابل } ولا يصح أن يكون بدل بعض من كل ، لأنه لا ضمير في البدل يعود على المبدل منه ، وليس : { مائة حبة } بعضاً من { سبع سنابل } لأن المظروف ليس بعضاً من الظرف ، والسنبلة ظرف للحب .

ألا ترى إلى قوله { في كل سنبلة مائة حبة } ؟ ولا يصح أن يكون بدل اشتمال لعدم عود الضمير من البدل على المبدل منه ، ولأن المشتمل على مائة حبة هو سنبلة من سبع سنابل ، إلاَّ إن قيل : المشتمل على المشتمل على الشيء هو مشتمل على ذلك الشيء ، والسنبلة مشتمل عليها سبع سنابل ، فالسبع مشتملة على حب السنبلة ، فإن قدرت في الكلام محذوفاً .

وهو : أنبتت حب سبع سنابل ، جاز أن يكون : { مائة حبة } بدل بعض من كل على حذف : حب ، وإقامة سبع مقامه .

وظاهر قوله : { مائة حبة } العدد المعروف ، ويحتمل أن يكون المراد به التكثير ، كأنه قيل : في كل سنبلة حب كثير ، لأن العرب تكثر بالمائة ، وتقدم لنا ذكر نحو ذلك في قوله

{ وهم ألوف حذر الموت }

قيل : وفي هذه الآية دلالة على أن اتخاذ الزرع من أعلى الحِرَفِ التي يتخذها الناس ، ولذلك ضرب الله به المثل في قوله : { مثل الذين ينفقون أموالهم } الآية .

وفي ( صحيح مسلم ) .

« ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة » وفي رواية أخرى .

« وما رزىء فهو صدقة » وفي الترمذي : « التمسوا الرزق في خبايا الأرض » يعني : الزرع وقال بعضهم ، وقد قال له رجل : دلني على عمل أعالجه ، فقال :

تتبع خبايا الأرض وادع مليكها***

لعلك يوماً أن تجاب وترزقا

والزراعة من فروض الكفاية ، فيجبر عليها بعض الناس إذا اتفقوا على تركها .

{ والله يضاعف لمن يشاء } أي هذا التضعيف إذ لا تضعيف فوق سبعمائة ، وقيل : يضاعف أكثر من هذا العدد .

وروي عن ابن عباس : أن التضعيف ينتهي لمن شاء الله إلى ألفي ألف .

قال ابن عطية : وليس هذا بثابت الإسناد عنه . انتهى .

وقال الضحاك : يضاعف إلى ألوف الألوف ، وخرّج أبو حاتم في صحيحه المسمى ( بالتقاسيم والأنواع ) عن ابن عمر قال : لما نزلت { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رب زد أمّتي » فنزلت { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } وفي ( سنن النسائي ) قريب من هذا ، إلاَّ أنه ذكر بين الآيتين نزول .

{ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة }

وقوله : { لمن يشاء } أي : لمن يشاء التضعيف .

وفيه دلالة على حذف ، ذلك بمشيئة الله تعالى وارادته .

وقال الزمخشري : أي يضاعف تلك المضاعفة لا لكل منفق ، لتفاوت أحوال المنفقين ، أو يضاعف سبع المائة ويزيد عليها أضعافاً لمن يستوجب ذلك . انتهى .

فقوله : لمن يستوجب ذلك ، فيه دسيسه الاعتزال .

{ والله واسع عليم } أي : واسع بالعطاء ، عليم بالنية .

وقيل : واسع القدرة على المجازاة ، عليم بمقادير المنفقات وما يرتب عليها من الجزاء .