لمَّا بين تعالى أصل العلم بالمبدأ ، والمعاد ، وبيَّن دلائل صحَّتها ، أتبع ذلك ببيان الشرائع ، والأحكام ، فبدأ ببيان التكليف ، بالإنفاق .
قال القاضي{[4451]} في كيفية النَّظم : إنه تعالى لمَّا أجمل قوله تعالى { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة :245 ] فصل بهذه الآية الكريمة تلك الأضعاف ، وإنما ذكر بين الآيتين الأدلَّة على قدرته بالإحياء والإماتة ، من حيث : لولا ذلك لم يحسن التكليف بالإنفاق ، لأنه لولا وجود الإله المثيب المعاقب ، لكان الإنفاق ، وسائر الطاعات عبثاً فكأنه تعالى قال لمن رغبه في الإنفاق : قد عرفت أنِّي خلقتك ، وأكملت نعمتي عليك ، بالإحياء ، والإقدار ، وقد علمت قدرتي على المجازاة ، فليكن علمك بهذه الأحوال داعياً إلى إنفاق المال ؛ فإنه يجازي القليل بالكثير ، ثمَّ ضرب لذلك الكثير مثلاً .
وقال الأصم{[4452]} : إنه تعالى ضرب هذا المثل بعد أن احتجّ على الكلِّ بما يوجب تصديق النبي عليه الصَّلاة والسَّلام ؛ ليرغبوا بالمجاهدة بالنفس ، والمال ، في نصرته ، وإعلاء شريعته .
وقيل : لما بيَّن تعالى أنَّه وليُّ المؤمنين ، وأن الكفَّار أولياؤهم الطاغوت ، بيَّن مثل ما ينفق المؤمن في سبيل الله ، وما ينفق الكافر في سبيل الطاغوت .
[ روي أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن عفَّان ، وعبد الرحمن بن عوف ]{[4453]} رضي الله عنهما ؛ " وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حثَّ الناس على الصدقة حين أراد الخروج إلى غزوة " تَبُوك " ، جاءه عبد الرحمن بأربعة آلاف درهم ، فقال : يا رسول الله ، كان عندي ثمانية آلافٍ ، فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلافٍ ، وأربعة آلافٍ أقرضتها لربِّي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ وَفِيمَا أَعْطَيْتَ{[4454]} " وقال عثمان : يا رسول الله ، عليَّ جهاز من لا جهاز له ؛ فنزلت هذه فيهما .
وروى البستي عن ابن عمر ، قال : " لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رَبِّ ، زِدْ أُمَّتِي " ؛ فنزلت : { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة :245 ] قال صلى الله عليه وسلم : " رَبِّ ، زِدْ أُمَّتِي " ، فنزلت { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر :10 ]{[4455]} .
قوله " مَثَلُ " مبتدأُ ، و " كَمَثَلِ حَبَّةٍ " خبره . ولا بدَّ من حذفٍ ، حتى يصحَّ التشبيه ؛ لأنَّ الذين ينفقون لا يشبَّهون بنفس الحبة .
واختلف في المحذوف ، فقيل : من الأول ، تقديره : ومثل منفق الذين ، أو نفقة الذين .
وقيل : من الثاني ، تقديره : ومثل الذين ينفقون كزارع حبةٍ ؛ أو من الأول ، والثاني باختلاف التقدير ، أي : مثل الذين ينفقون ، ونفقتهم كمثل حبَّةٍ وزارعها .
وهذه الأوجه قد تقدَّم تقريرها محررةً عند قوله تعالى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ } [ البقرة :171 ] . والقول بزيادة الكاف ، أو " مِثْلَ " بعيدٌ جدّاً ، فلا يلتفت إليه .
والحبَّة : واحدة الحبِّ ، وهو ما يزرع للاقتيات ، وأكثر إطلاقه على البر ، قال المتلمِّس : [ البسيط ]
آلَيْتُ حَبَّ العِرَاقِ الدَّهْرَ أَطْعَمُهُ *** وَالحَبُّ يَأْكُلُهُ فِي الْقَرْيَةِ السُّوسُ{[4456]}
و " الحِبَّة " بالكسر : بذور البقل ممَّا لا يقتات به ، و " الحُبَّة " بالضَّمِّ : الحُبُّ .
والحُبُّ : المحبة ، وكذلك " الحِبّ " بالكسر ، والحِبُّ أيضاً : الحبيب ، وحبة القلب سويداؤه ، ويقال ثمرته ، وهو ذاك .
قوله : { أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ } أي : أخرجت وهذه الجملة في محلِّ جرٍّ ؛ لأنها صفةٌ لحبة ، كأن قيل : كمثل حبَّةٍ منبتةٍ .
وأدغم تاء التأنيث{[4457]} في سين " سَبْع " أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وهشامٌ . وأظهر الباقون ، والتاء تقارب السين ، ولذلك أُبدلت منها ؛ قالوا : ناسٌ ، وناتٌ ، وأكياسٌ ، وأكياتٌ ؛ قال : [ الرجز ]
عَمْرو بْنَ يَرْبُوعٍ شِرَارَ النَّاتِ *** لَيْسُوا بَأَجْيَادٍ وَلاَ أَكْيَاتِ{[4458]}
أي : شرار الناس ، ولا أكياسِ .
وجاء التَّمييز هنا على مثال مفاعل ، وفي سورة يوسف مجموعاً بالألف والتَّاء ، فقال الزمخشريُّ : " فإنْ قلتَ : هلاَّ قيل : " سَبْعَ سُنْبُلاَتٍ " على حقِّه من التمييز بجمع القلّة ، كما قال : { وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ } [ يوسف :43 و46 ] . قلت : هذا لما قدَّمت عند قوله : { ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } [ البقرة :228 ] من وقوع أمثلة الجمع [ متعاورةً ] مواقعها " .
يعني : أنه من باب الاتساع ، ووقوع أحد الجمعين موقع الآخر ، وهذا الذي قاله ليس بمخلِّص ، [ ولا محَصِّلٍ ] ، فلا بدَّ من ذكر قاعدةٍ مفيدة في ذلك .
قال شهاب الدين - رحمه الله - : اعلم أن جمعي السَّلامة لا يميَّز بهما عددٌ إلا في موضعين :
أحدهما : ألا يكون لذلك المفرد جمعٌ سواه ، نحو : سبع سموات ، وسبع بقرات ، وسبع سنبلات ، وتسع آيات ، وخمس صلوات ، لأنَّ هذه الأشياء لم تجمع إلا جمع السلامة ، فأمَّا قوله : [ الطويل ]
. . . *** . . . فَوْقَ سَبْعِ سَمَائِيَا{[4459]}
فشاذٌ ، منصوصٌ على قلَّته ، فلا يلتفت إليه .
والثاني : أن يعدل إليه لمجاورة غيره ، كقوله : { وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ } عدل من " سَنَابِلَ " إِلى " سُنْبُلاَتٍ " ؛ لأجل مجاورته " سَبْعَ بَقَرات " ، ولذلك إذا لم توجد المجاورة ، ميِّز بجمع التكسير دون جمع السلامة ، وإن كان موجوداً نحو : " سَبْعِ طَرَائِق ، وسَبْعِ لَيَالٍ " مع جواز : طريقات ، وليلات .
والحاصل أنَّ الاسم إذا كان له جمعان : جمع تصحيح ، وجمع تكسيرٍ ، فالتكسير إمَّا للقلة ، أو للكثرة ، فإن كان للكثرة : فإمَّا من باب مفاعل ، أو من غيره ، فإن كان من باب مفاعل ، أُوثر على التصحيح ، تقول : ثلاثة أحَامِدَ ، وثَلاَثُ زَيَانِبَ ، ويجوز قليلاً : أَحْمَدِينَ وَزَيْنَبَات .
وإن كان من غير باب مفاعل : فإمَّا أن يكثر فيه من غير التصحيح ، وغير جمع الكثرة ، أو يقلَّ .
فإن كان الأول : فلا يجوز التصحيح ، ولا جمع الكثرة إلا قليلاً ؛ نحو : ثَلاثَةُ زُيُودٍ ، وَثَلاثُ هُنُودٍ ، وثَلاَثَةُ أَفْلُسٍ ، ولا يجوز : ثلاثةُ زيْدِينَ ، ولا ثَلاَثُ هِنْدَات ، ولا ثَلاَثةُ فُلُوسٍ ، إلاَّ قليلاً .
وإن كان الثاني : أُوثر التصحيح وجمع الكثرة ، نحو : ثلاثُ سُعَادَات ، وثلاثة شُسُوع ، وعلى قلّة يجوز : ثَلاثُ سَعَائد ، وثلاثةُ أشْسُع . فإذا تقرَّر هذا ، فقوله : " سَبْعَ سَنَابِلَ " جاء على المختار ، وأمَّا قوله " سَبْعِ سُنْبُلاَتٍ " ؛ فلأجل المجاورة كما تقدَّم .
وقيل : لمَّا كان الكلام - هاهنا - في تضعيف الأجر ، ناسبها جمع الكثرة ، وفي سورة يوسف ذكرت في سياق الكلام في سني الجدب ؛ فناسبها التقليل ؛ فجمعت جمع القلة .
أحدهما : أنَّ نونها أصليةٌ ؛ لقولهم : " سَنْبَلَ الزرعُ " أي : أخرج سنبله .
والثاني : أنها زائدةٌ ، وهذا هو المشهور ؛ لقولهم : " أَسْبَلَ الزرعُ " ، فوزنها على الأول : فُعلُلَةٌ ، وعلى الثاني : فُنْعُلَة ، فعلى ما ثبت من حكاية اللُّغتين : سَنْبَلَ الزرعُ ، وأسْبَلَ تكون من باب سَبِط وسِبَطْر .
قال القرطبي{[4460]} : من أسْبَلَ الزرعُ : إذا صار فيه السُّنبل ، كما يسترسل الستر بالإسبال وقيل : معناه : صار فيه حبٌّ مستورٌ ، كما يستر الشيء بإسبال السَّتر عليه .
قوله : { فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ } هذا الجارُّ في محلِّ جر ؛ صفةً لسنابل ، أو نصبٍ ؛ صفةً لسبع ، نحو : رأيت سبع إماءٍ أحرارٍ ، وأحراراً ، وعلى كلا التقديرين فيتعلَّق بمحذوفٍ .
أحدهما : بالفاعلية بالجارِّ ؛ لأنه قد اعتمد إذ قد وقع صفةً .
والثاني : أنها مبتدأٌ والجارُّ قبله خبره ، والجملة صفةٌ ، إمَّا في محلِّ جرٍّ ، أو نصبٍ على حسب ما تقدَّم ، إلاَّ أنَّ الوجه [ الأول ] أولى ؛ لأنَّ الأصل الوصف بالمفردات ، دون الجمل . ولا بدَّ من تقدير حذف ضميرٍ ، أي : في كلِّ سنبلة منها ، أي : من السنابل .
والجمهور على رفع : " مِئَة " على ما تقدَّم ، وقرئ{[4461]} : بنصبها .
وجوَّز أبو البقاء{[4462]} في نصبها وجهين :
أحدهما : بإضمار فعلٍ ، أي : أَنْبَتَتْ ، أو أَخْرَجَتْ .
والثاني : أنها بدلٌ من " سَبْعِ " ، وردَّ بأنَّه لا يخلو : إمَّا أن يكون بدل [ كلٍّ ] من كلٍّ ، أو بدل بعضٍ من كلٍّ ، أو بدل اشتمالٍ .
فالأول : لا يصحُّ ؛ لأنَّ المائة ليست كلَّ السبع سنابل .
والثاني : لا يصحُّ - أيضاً ؛ لعدم الضمير الراجع على المبدل منه ، ولو سلِّم عدم اشتراط الضمير ، فالمئة ليست بعض السبع ؛ لأنَّ المظروف ليس بعضاً للظرف ، والسنبلة ظرفٌ للحبة ، ألا ترى قوله : { فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ } فجعل السُّنْبُلَة وعاءٌ للحَبِّ .
والثالث - أيضاً - لا يصحُّ ؛ لعدم الضَّمير ، وإن سُلِّم ، فالمشتمل على " مِئَةِ حَبَّةٍ " هو سنبلة من سبع سنابل ، إلا أن يقال إنَّ المشتمل على المشتمل على الشيء ، هو مشتملٌ على ذلك الشيء ، فالسنبلة مشتملةٌ على مائة والسنبلة مشتمل عليها سبع سنابل ، فلزم أنَّ السبع مشتملةٌ على " مائة حبة " .
وأسهل من هذا كلِّه أن يكون ثمَّ مضافٌ محذوفٌ ، أي : حبَّ سَبْع سَنَابِلَ ، فعلى هذا يكون " مِئَةُ حَبَّةٍ " بدل بعضٍ من كل .
معنى { يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ } يعني : دينه ، قيل : أراد النفقة في الجهاد خاصَّةً ، وقيل : جمع أبواب الخير من الواجب والنَّفل .
قال القرطبيُّ{[4463]} : شبَّه المتصدِّق بالزَّارع ، وشبَّه البذر بالصدقة ، فيعطيه بكل صدقةٍ له سبعمائة حسنة ، ثمَّ قال { وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ } يعني على سبعمائة ، فيكون مثل المتصدق مثل الزَّارع ، إن كان حاذقاً في عمله فيكون البذر جيّداً ، وتكون الأرض عامرةً يكون الزرع أكثر ، فكذلك المتصدق إذا كان صالحاً ، والمال طيِّباً ، ويضعه موضعه ، فيصير الثواب أكثر .
فإن قيل : لم نر سُنبُلَةً فيها مائة حبَّةٍ ، فكيف ضرب المثل بها ؟
فالجواب{[4464]} : قال القفَّال : المقصود أنه لو علم طالب الزيادة والرِّبح أنَّه إذا بذر حبَّةً واحدةً ، أخرجت له سبعمائة حبةٍ ما كان ينبغي له ترك ذلك ، فكذلك ينبغي لطالب الآخرة والأجر عند الله ألاَّ يتركه إذا علم أنه يحصل له على الواحدة عشرة ومائة وسبعمائة ، وإذا كان المراد منه هذا المعنى فسواء وجدت هذه السنبلة ، أو لم توجد ، فإنَّ المعنى حاصل مستقيم . وقيل : وجد ذلك في الدُّخن .
{ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ } .
قيل : معناه يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء .
وقيل يضاعف على هذا ، ويزيد لمن يشاء ، ما بين سبع إلى سبعين ، إلى سبعمائة ، إلى ما شاء الله من الأضعاف ، مما لا يعلمه إلا الله تعالى . { وَاللهُ وَاسِعٌ } أي : القدرة على سبيل المجازاة على الجود ، والإفضال عليهم بنية من ينفق ماله .
فصل في الاستدلال بالآية على فضل الزراعة
قال القرطبيُّ{[4465]} : دلَّت هذه الآية على أنَّ حرفة الزَّرع من أعلى الحرف ، التي يتخذها الناس ، والمكاسب التي يشتغل بها العمَّال ، ولذلك ضرب الله به المثل وقال - صلى الله عليه وسلم - : " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْساً ، أو يَزْرَعُ زَرْعاً فَتأَكْلُ مِنْهُ الطَّيْرُ ، أو إِنْسَانٌ ، أوْ بَهِيمَةٌ ، إِلاَّ كَانَ لَهُ صَدَقَة{[4466]} " رواه مسلم .
وروى الترمذي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت - : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الْتَمِسُوا الرِّزْقَ في خَبَايَا الأَرْضِ{[4467]} " ، يعني : الزَّرع ، والزِّراعة من فروض الكفايات ، يجب على الإمام أن يجبر النَّاس عليها ، وما كان في معناها من غرس الأشجار .