الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنۢبَتَتۡ سَبۡعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنۢبُلَةٖ مِّاْئَةُ حَبَّةٖۗ وَٱللَّهُ يُضَٰعِفُ لِمَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ} (261)

قوله تعالى : { مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ } : " مَثَلُ " مبتدأٌ ، و " كمثلِ حبةٍ " خبرُه . ولا بُدَّ من حذفٍ حتى يَصِحَّ التشبيهُ ، لأنَّ الذين ينفقون لا يُشَبَّهون بنفسِ الحبةِ . واختُلِفَ في المحذوفِ ، فقيل : من الأول تقديرُه : وَمَثلُ مُنْفَقِ الذين أو نفقةِ الذين . وقيل : من الثاني تقديرُه : ومثل الذي ينفقون كزارعِ حبةٍ ؛ أو مِنَ الأولِ والثاني باختلافِ التقدير ، أي : مَثَلُ الذين ينفقون ونفقتُهم كمثلِ حبةٍ وزارِعِها . وهذه الأوجهُ قد تقدَّم تقريرُها محررةً عند قولِه تعالى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ } [ البقرة : 171 ] بأتمِّ بيانٍ فليُراجَعْ . والقولُ بزيادةِ الكافِ أو " مثل " بعيدٌ جداً ، فلا يُلْتفت إلى قائله .

والحَبَّةُ : واحدةُ الحَبُّ ، وهو ما يُزْرَعُ للاقتياتِ ، وأكثرُ إطلاقِه على البُرّ قال المتلمس :

آليتُ حَبَّ العراقِ الدهرَ أَطْعَمُه *** والحَبُّ يأكلُه في القَرْيَةِ السُّوسُ

و " الحِبَّة " بالكسر : بذورُ البَقْلِ مِمَّا لا يُقْتات [ به ] ، و " الحُبَّة " بالضم الحُبُّ .

قوله : { أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ } هذه الجملةُ في محلِّ جرٍ لأنها صفةٌ لحبة ، كأنه قيل : كمثل حبةٍ منبتةٍ .

وأَدْغم تاءَ التأنيثِ في سين " سبع " أبو عمرو وحمزة والكسائي وهشام . وأَظْهر الباقون ، والتاءُ تقاربُ السينَ ولذلك أُبْدِلَتْ منها ، قالوا : ناس ونات ، وأكياس وأكيات ، قال :

عمروَ بنَ يربوعٍ شرارَ الناتِ *** ليسوا بأجيادٍ ولا أَكْياتِ

أي : شرار الناس ولا أكياس .

وجاء التمييزُ هنا على مِثال مَفاعِل ، وفي سورة يوسف مجموعاً بالألفِ والتاء ، فقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : هلاَّ قيل " سبع سنبلات " على حَقِّه من التمييزِ بجمعِ القلة كما قال : { وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ } . قلت : هذا لِما قَدَّمْتُ عند قولِه : " ثلاثَةُ قروء " من وقوعِ أمثلةِ الجمعِ متعاورةً مواقعها " يعني أنه من بابِ الاتساعِ ووقوعِ أحدِ الجمعين موقعَ الآخرِ ، وهذا الذي قاله ليس بمخلِّص ولا مُحَصِّلٍ ، فلا بُدَّ من ذكرِ قاعدة مفيدةٍ في ذلك :

اعلم أنَّ جمعي السلامةِ لا يميز بهما عدد إلا في موضعين ، أحدهما : ألا يكونَ لذلك المفردِ جمعٌ سواه ، نحو : سبع سماوات ، وسبع بقرات ، وتسع آيات ، وخمس صلوت ، لأنَّ هذه الأشياءَ لم تُجْمَعْ إِلا جمعَ السلامةِ ، فأمَّا قولُه :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فوقَ سَبْعِ سَمائيا

فشاذٌّ منصوصٌ على قلتِهِ ، فلا التفاتَ إليه . والثاني : أن يُعْدَلَ إليه لأجلِ مجاورة غيرهِ كقولِهِ : { وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خَضْرٍ } عَدَل من " سنابل " إلى " سنبلات " لأجلِ مجاورتِهِ " سبعِ بقرات " ، ولذلك إذا لم توجَدْ المجاورةُ مُيِّز بجمعِ التكسيرِ دونَ جمع السلامةِ ، وإنْ كان موجوداً نحو : " سبع طرائق وسبع ليالٍ " مع جواز : طريقات وليلات . والحاصلُ أنَّ الاسمَ إذا كان له جمعان : جمعُ تصحيحٍ وجمعُ تكسيرٍ ، فالتكسيرُ إمَّا للقلةِ أو للكثرةِ ، فإنْ كان للكثرةِ : فإمَّا من بابِ مَفَاعِل أو من غيره ، فإنْ كان من بابِ مفاعل أُوثر على التصحيحِ ، تقول : ثلاثة أحامد : وثلاث زيانب ، ويجوز قليلاً : أحمدِين وزينبات .

وإن كانَ من غيرِ بابِ مفاعِلِ : فإمَّا أَنْ يكثُرَ فيه غيرُ التصحيحِ وغيرُ جمعِ الكثرةِ أو يَقِلَّ . فإن كانَ الأولَ فلا يجوزُ التصحيحُ ولا جمعُ الكثرةِ إلا قليلاً نحو : ثلاثة زيود وثلاث هنود وثلاثة أفلس ، ولا يجوزُ : ثلاثة زيدين ، ولا ثلاث هندات ، ولا ثلاثة فلوس ، إلاَّ قليلاً . وإن كان الثاني أُوثِرَ التصحيحُ وجمعُ الكثرة نحو : ثلاث سعادات وثلاثة شُسُوع ، وعلى قلةٍ يجوز : ثلاث سعائد ، وثلاثة أَشْسُع . فإذا تقرَّر هذا فقولُهُ : " سبع سنابل " جاءَ على المختارِ ، وأمَّا " سبعِ سنبلات " فلأجلِ المجاورةِ كا تقدَّم .

والسنبلةُ فيها قولان ، أحدهما : أنَّ نونَها أصليةٌ لقولِهِم : سَنْبَل الزرعُ " أي أخرجَ سنبلَه . والثاني : أنها زائدةٌ ، وهذا هو المشهورُ لقولِهم : " أسبلَ الزرعُ " ، فوزنُها على الأولِ : فُعْلُلَة وعلى الثاني : فُنْعُلَة ، فعلى ما ثبت من حكايةِ اللغتين : سَنْبَلَ الزرعُ وأَسْبَلَ تكونُ من بابِ سَبِط وسِبَطْر .

قوله : { فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ } هذا الجارُّ في محلِّ جر صفةً لسنابل ، أو نصب صفةً لسبع ، نحو : رأيتُ سبعَ إمَّاءٍ أحرارٍ وأحراراً ، وعلى كِلا التقديرين فيتعلَّقُ بمحذوفٍ . وفي رفعِ " مئة " وجهان ، أحدُهما : بالفاعليةِ بالجارِّ ؛ لأنه قد اعتمد إذ قد وَقَعَ صفةً . والثاني : أنها مبتدأٌ والجارُّ قبلَه خبرُه ، والجملةُ صفةٌ ، إمَّا في محلِّ جرٍ أو نصبٍ على حَسَبِ ما تقدَّم ، إلا أنَّ الوجهَ [ الأول ] أولى ؛ لأنَّ الأصلَ الوصفُ بالمفرداتِ دونَ الجملِ . ولا بد من تقديرِ حذفِ ضميرٍ أي : في كلِّ سنبلةٍ منها أي : من السنابِلِ .

والجمهورُ على رفع " مئة " على ما تقدَّم ، وقرىء بنصبَها . وجَوَّزَ أبو البقاء في نصبِها وجهينِ ، أحدُهما : بإضمارِ فعلٍ ، أي : أَنْبَتَتْ أو أَخْرَجَتْ . والثاني : أنها بدلٌ من " سبعُ " ، وفيه نظرٌ ، لأنه : إمَّا أنْ يكونَ بدلَ كلٍّ من كلَّ أو بعضٍ من كلٍ أو اشتمالٍ ، فالأولُ لا يَصِحُّ لأنَّ المئة ليست نفسَ سبع سنابل ، والثاني لا يَصِحُّ أيضاً لعدمِ الضميرِ الراجِعِ على المبدلِ منه ، ولو سُلِّمَ عدم اشتراطِ الضميرِ فالمئة ليسَتْ بعضَ السبعِ ، لأنَّ المظروفَ ليس بعضاً للظرفِ والسنبلةُ ظرفٌ للحبةِ ، ألا تَرَى قولَه : { فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ } فَجَعَلَ السنبلةَ وعاءً للحَبِّ ، والثالثُ أيضاً لا يَصِحُّ لعدمِ الضميرِ ، وإنْ سُلَّمَ فالمشتملُ على " مئة حبة " هو سنبلة من سبع سنابَل ، إلا أَن يقال إن المشتمل على المشتملِ على الشيء هو مشتملٌ على ذلك الشيءِ ، فالسنبلةُ مشتملةٌ على مئة والسنبلة مشتمَل عليها سبعُ سنابلَ ، فَلَزِمَ أنَّ السبعَ مشتملةٌ على " مئة حبة " . وأسهلُ من هذا كلِّه أن يكونَ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ ، أي : حَبَّ سبعِ سنابل ، فعلى هذا يكونُ " مئة حبة " بدلَ بعضٍ مِنْ كل .