نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنۢبَتَتۡ سَبۡعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنۢبُلَةٖ مِّاْئَةُ حَبَّةٖۗ وَٱللَّهُ يُضَٰعِفُ لِمَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ} (261)

ولما انقضى{[12753]} جواب السؤال عن الملك الذي لا تنفع عنده شفاعة بغير إذنه ولا خلة ولا غيرهما وما تبع ذلك إلى أن ختم بقصة الأطيار التي صغت إلى الخليل بالإنفاق عليها{[12754]} والإحسان إليها ثنى الكلام إلى الأمر بالنفقة قبل ذلك اليوم الذي لا تنفع{[12755]} فيه الوسائل إلا بالوجه الذي شرعه بعد قوله :{ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له{[12756]} }[ الحديد : 11 ] نظراً{[12757]} إلى أول السورة تذكيراً بوصف المتقين حثاً عليه ، فضرب لذلك مثلاً صريحة لمضاعفتها فاندرج فيه مطلق الأمر بها اندراج المطلق في المقيد و{[12758]}تلويحه الذي هو{[12759]} من جملة المشار إليه بحكيم للاحياء{[12760]} ، فصرح بأن النفقة المأمور بها من ذخائر ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه إلا ما شرعه وهو من جليل{[12761]} العزة ، وساقه على وجه يتضمن إحياء الموات الذي هو أنسب الأشياء لما قبله من نشر الأموات ، فهو إيماء إلى الاستدلال على البعث بأمر محسوس ، وذلك من دقيق{[12762]} الحكمة ، فكأنه سبحانه وتعالى يقول : إن خليلي عليه الصلاة والسلام لما كان من الراسخين في رتبة الإيمان أهّلته لامتطاء درجة{[12763]} أعلى من درجة الإيقان بخرق العادة في رفع الأستار على يده عن إحياء{[12764]} الأطيار وأقمت نمطاً من ذلك لعامة الخلق مطوياً في إحياء النبات على وجه معتاد فمن اعتبر به أبصر ومن عمي عنه انعكس حاله وأدبر فقال سبحانه وتعالى : { مثل } فكان كأنه قيل :{ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً }[ الحديد : 11 ] { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا{[12765]} }[ البقرة : 254 ] فإنه مثل{[12766]} { الذين ينفقون } أي يبذلون{[12767]} { أموالهم } بطيب نفس { في سبيل الله } أي {[12768]}الذي له الكمال كله{[12769]} كمثل زارع مثل ما ينفقون { كمثل حبة } مما زرعه . قال الحرالي : من الحب وهو تمام النبات المنتهي إلى صلاحية{[12770]} كونه طعاماً للآدمي الذي هو أتم الخلق ، فالحب أكمل من الثمرة طعامية والثمرة إدامية { أنبتت } أي بما جعل{[12771]} الله سبحانه وتعالى لها من قوة الإنبات بطيب أرضها واعتدال ريها{[12772]} { سبع سنابل } بأن تشعب منها سبع شعب{[12773]} في كل شعبة سنبلة وهو من السنبل . قال الحرالي : وهو مجتمع الحب في أكمامه ، كأنه آية{[12774]} استحقاق اجتماع أهل ذلك الرزق في تعاونهم في أمرهم ، وتعريف بأن الحب يجمعه لا بوحدته { في كل سنبلة مائة حبة } فصارت الحبة سبعمائة حبة بمضاعفة الله لها . قال الحرالي : فضرب المثل للإنفاق في سبيل الله {[12775]}وذكر السبع لما فيه من التمام{[12776]} بالحرث الذي هو كيميا عباده{[12777]} يشهدون من تثميره حيث تصير الحبة أصلاً ويثمر الأصل سنابل ويكون في كل سنبلة أعداد{[12778]} من الحب ، فكان ما ذكر{[12779]} تعالى هو أول الإنفاق في سبيل الله وذكر السبع لما فيه من التمام وما يقبله من التكثير ، فإن ما أنبت أكثر من سبع إذا قصد بالتكثير أنبأ عنه بالسبع ، لأن العرب تكثر به ما هو أقل منه أو أكثر ، فجعل أدنى النفقة في سبيل الله سبعمائة ضعف ، ثم فتح تعالى باب التضعيف إلى ما لا يصل إليه عد - انتهى .

فالآية من الاحتباك وتقديرها : مثل الذين ينفقون ونفقتهم كمثل حبة وزارعها ، فذكر المنفق أولاً دليل{[12780]} على {[12781]}حذف الزارع{[12782]} ثانياً ، وذكر الحبة ثانياً دليل على حذف النفقة أولاً .

ولما كان التقدير : فكما ضاعف سبحانه وتعالى للزارع حبته فهو يضاعف للمنفق نفقته ، عطف عليه قوله : { والله يضاعف لمن يشاء } بما له من السعة في القدرة وكل صفة حسنى { والله } أي بما له من الكمال في كل صفة { واسع } لا يحد{[12783]} في صفة من صفاته التي تنشأ عنها أفعاله { عليم * } فهو يضاعف لأهل النفقة على قدر ما علمه من نياتهم ؛ ولما ختم أول آيات هذه الأمثال بهاتين الصفتين ختم آخرها بذلك إشارة إلى أن سعته قد أحاطت بجميع{[12784]} الكائنات فهو جدير بالإثابة في الدارين ، وأن علمه قد شمل كل معلوم فلا يخشى أن يترك عملاً .


[12753]:في الأصل: انقض، والتصحيح من م ومد وظ.
[12754]:زيد من م وظ ومد.
[12755]:ليس في م.
[12756]:سورة 57 آية 11.
[12757]:في م: نظر.
[12758]:ليس في م.
[12759]:ليس في مد.
[12760]:في م: الإحياء.
[12761]:من م وظ ومد، وفي الأصل: خليل.
[12762]:في م: دقائق.
[12763]:في م وظ: مرتبة، وفي مد: رتبه.
[12764]:في الأصل: الأحياء، وفي التصحيح من م ومد وظ.
[12765]:سقط من م.
[12766]:زيد من م وظ ومد.
[12767]:في الأصل: بذلون، والتصحيح من م ومد وظ.
[12768]:العبارة من "أي" إلى هنا ليست في ظ.
[12769]:العبارة من "أي" إلى هنا ليست في ظ.
[12770]:من م ومد وظ، وفي الأصل: صلاحيته.
[12771]:من م وظ ومد، وفي الأصل: جعله.
[12772]:في م: زيها.
[12773]:في م: شعبة.
[12774]:من مد وظ، وفي الأصل: أته، وفي م: آية.
[12775]:ليست في م ومد وظ.
[12776]:ليست في م ومد وظ.
[12777]:من م ومد وظ، وفي الأصل: عبادة.
[12778]:في م: إعدادا.
[12779]:زيد في مد: الله.
[12780]:من مد وظ، وفي الأصل وم: دليلا.
[12781]:في م: المضارع.
[12782]:في م: المضارع.
[12783]:من م وظ، وفي مد: لا محد ـ كذا، وفي الأصل: لا يجد.
[12784]:زيد في م: هذه.