في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَمَّن يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَمَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (64)

59

ويختم هذه الإيقاعات بسؤال عن خلقتهم وإعادتهم ورزقهم من السماء والأرض ، مع التحدي والإفحام :

( أم من يبدأ الخلق ثم يعيده ، ومن يرزقكم من السماء والأرض ? أإله مع الله ? قل : هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) . .

وبدء الخلق حقيقة واقعة لا يملك أحد إنكارها ، ولا يمكن أحدا تعليلها بغير وجود الله ووحدانيته . وجوده لأن وجود هذا الكون ملجىء للإقرار بوجوده ؛ وقد باءت بالفشل المنطقي كل محاولة لتعليل وجود هذا الكون على هذا النحو الذي يظهر فيه التدبير والقصد بغير الإقرار بوجود الله . ووحدانيته لأن آثار صنعته ملجئة للإقرار بوحدانيته ؛ فعليها آثار التقدير الواحد ، والتدبير الواحد ؛ وفيها من التناسق المطلق ما يجزم بالإرادة الواحدة المنشئة للناموس الواحد .

فأما إعادة الخلق فهذه التي كانوا يجادلون فيها ويمارون . ولكن الإقرار ببدء الخلق على هذا النحو الذي يظهر فيه التقدير والتدبير والقصد والتنسيق ملجىء كذلك للتصديق بإعادة الخلق ، ليلقوا جزاءهم الحق على أعمالهم في دار الفناء ، التي لا يتم فيها الجزاء الحق على الأعمال وإن كان يتم فيها أحيانا بعض الجزاء . فهذا التنسيق الواضح في خلقة الكون يقتضي أن يتم تمامه بالتنسيق المطلق بين العمل والجزاء . وهذا لا يتم في الحياة الدنيا . فلا بد إذن من التصديق بحياة أخرى يتحقق فيها التناسق والكمال . . أما لماذا لم يتم في هذه الأرض ذلك التنسيق المطلق بين العمل والجزاء ? فذلك متروك لحكمة صاحب الخلق والتدبير . وهو سؤال لا يجوز توجيهه لأن الصانع أعلم بصنعته . وسر الصنعة عند الصانع . وهو غيب من غيبه الذي لم يطلع عليه أحدا !

ومن هذا التلازم بين الإقرار بمبدىء الحياة والإقرار بمعيدها يسألهم ذلك السؤال : أم من يبدأ الخلق ثم يعيده ? . . ( أإله مع الله ? ) . .

والرزق من السماء والأرض متصل بالبدء والإعادة سواء . ورزق العباد من الأرض يتمثل في صور شتى أظهرها النبات والحيوان ، والماء والهواء ، للطعام والشراب والاستنشاق ؛ ومنها كنوز الأرض من معادن وفلزات ؛ وكنوز البحر من طعام وزينة . ومنها القوى العجيبة من مغناطيسة وكهرباء ، وقوى أخرى لا يعلهما بعد إلا الله ؛ ويكشف عن شيء منها لعباده آنا بعد آن .

وأما رزقهم من السماء فلهم منه في الحياة الدنيا : الضوء والحرارة والمطر وسائر ما ييسره الله لهم من القوى والطاقات . ولهم منه في الآخرة عطاء الله الذي يقسمه لهم - وهو من السماء بمدلولها المعنوي ، الذي يتردد كثيرا في القرآن والسنة ؛ وهو معنى الارتفاع والاستعلاء .

وقد ذكر رزقهم من السماء والأرض بعد ذكر البدء والإعادة ، لأن رزق السماء والأرض له علاقة بالبدء والإعادة فعلاقة رزق الأرض بالبدء معروفة فهو الذي يعيش عليه العباد . وعلاقته بالإعادة أن الناس يجزون في الآخرة على عملهم وتصرفهم في هذا الرزق الذي أعطوه في الدنيا . . وعلاقة رزق السماء بالبدء واضحة . فهو في الدنيا للحياة ، وهو في الآخرة للجزاء . . وهكذا تبدو دقة التناسق في السياق القرآني العجيب .

والبدء والإعادة حقيقة والرزق من السماء والأرض حقيقة . ولكنهم يغفلون عن هذه الحقائق ، فيردهم القرآن إليها في تحد وإفحام :

( أإله مع الله ? ) . . ( قل : هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) . .

وإنهم ليعجزون عن البرهان ، كما يعجز عنه من يحاوله حتى الأن . وهذه طريقة القرآن في الجدل عن العقيدة . يستخدم مشاهد الكون وحقائق النفس ؛ فيجعل الكون كله إطارا للمنطق الذي يأخذ به القلوب ؛ ويوقظ به الفظرة ويجلوها لتحكم منطقها الواضح الواصل البسيط ؛ ويستجيش به المشاعر والوجدانات بما هو مركوز فيها من الحقائق التي تغشيها الغفلة والنسيان ، ويحجبها الجحود والكفران . . ويصل بهذا المنطق إلى تقرير الحقائق العميقة الثابتة في تصميم الكون وأغوار النفس ؛ والتي لا تقبل المراء الذي يقود إليه المنطق الذهني البارد ، الذي انتقلت عدواه إلينا من المنطق الإغريقي ، وفشا فيما يسمى علم التوحيد ، أو علم الكلام !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَمَّن يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَمَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (64)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَمّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السّمَآءِ والأرْضِ أَإِلََهٌ مّعَ اللّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } .

يقول تعالى ذكره : أم ما تشركون أيها القوم خير ، أم الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ، فينشئه من غير أصل ، ويبتدعه ثم يفنيه إذا شاء ، ثم يعيده إذا أراد كهيئته قبل أن يفنيه ، والذي يرزقكم من السماء والأرض فينزل من هذه الغيث ، وينبت من هذه النبات لأقواتكم ، وأقوات أنعامكم أءِلَهٌ مَعَ اللّهِ سوى الله يفعل ذلك ؟ وإن زعموا أن إلها غير الله يفعل ذلك أو شيئا منه فَقُلْ لهم يا محمد هاتُوا بَرْهانَكُمْ : أي حجتكم على أن شيئا سوى الله يفعل ذلك إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ في دعواكم . و«من » التي في «أمّنْ » و«ما » مبتدأ في قوله : أما يشركون ، والاَيات بعدها إلى قوله : { وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السّماءِ والأرْضِ } بمعنى «الذي » ، لا بمعنى الاستفهام ، وذلك أن الاستفهام لا يدخل على الاستفهام .