في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَّـٰبِثِينَ فِيهَآ أَحۡقَابٗا} (23)

ثم يمضي السياق خطوة وراء النفخ والحشر ، فيصور مصير الطغاة ومصير التقاة . بادئا بالأولين المكذبين المتسائلين عن النبأ العظيم :

( إن جهنم كانت مرصادا ، للطاغين مآبا ، لابثين فيها أحقابا . لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا ، إلا حميما وغساقا . جزاء وفاقا . إنهم كانوا لا يرجون حسابا ، وكذبوا بآياتنا كذابا . وكل شيء أحصيناه كتابا . فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ) . .

إن جهنم خلقت ووجدت وكانت مرصادا للطاغين تنتظرهم وتترقبهم وينتهون إليها فإذا هي معدة لهم ، مهيأة لاستقبالهم . وكأنما كانوا في رحلة في الأرض ثم آبوا إلى مأواهم الأصيل !

وهم يردون هذا المآب للإقامة الطويلة المتجددة أحقابا بعد أحقاب :

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَّـٰبِثِينَ فِيهَآ أَحۡقَابٗا} (23)

وقوله : لابِثِينَ فِيها أحْقابا يقول تعالى ذكره : إن هؤلاء الطاغين في الدنيا لابثون في جهنم ، فماكثون فيها أحقابا .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : لابِثِينَ ، فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة : لابِثِينَ بالألف . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : «لَبِثِينَ » بغير ألف وأفصح القراءتين وأصحهما مخرجا في العربية ، قراءة من قرأ ذلك بالألف وذلك أن العرب لا تكاد توقع الصفة إذا جاءت على فَعيل ، فتعملها في شيء ، وتنصبه بها ، لا يكادون أن يقولوا : هذا رجل بَخِل بماله ، ولا عَسِر علينا ، ولا هو خَصِم لنا ، لأن فَعِل لا يأتي صفة إلاّ مدحا أو ذما ، فلا يعمل المدح والذمّ في غيره ، وإذا أرادوا إعمال ذلك في الاسم أو غيره جعلوه فاعلاً ، فقالوا : هو باخل بماله ، وهو طامع فيما عندنا ، فلذلك قلت : إن لابِثِينَ أصحّ مخرجا في العربية وأفصح ، ولم أُحِلّ قراءة من قرأ : «لَبِثِينَ » وإن كان غيرُها أفصح ، لأن العرب ربما أعملت المدح في الأسماء ، وقد يُنشد بيت لبيد :

أوْ مِسْحَلٌ عَمِلٌ عِضَادَةَ سَمْحَجٍ *** بِسَرَاتِها نَدَبٌ لَهُ وكُلُومُ

فأعمل «عَمِلٌ » في عِضادة ، ولو كانت عاملاً كانت أفصح ، ويُنشد أيضا :

*** وبالفأسِ ضَرّابٌ رُؤُوسَ الكَرَانِفِ ***

ومنه قول عباس بن مِرداس :

أكَرّ وحْمَى لِلْحَقِيقَةِ مِنْهُمُ *** وأضْرَبَ مِنّا بالسّيُوفِ الْقَوَانِسا

وأما الأحقاب فجمع حُقْب ، والحِقَب : جمع حِقْبة ، كما قال الشاعر :

عِشْنا كَنَدْمانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً *** مِنَ الدّهْرِ حتى قيلَ لَنْ نَتَصَدّعا

فهذه جمعها حِقَب ، ومن الأحقاب التي جمعها حُقُب قول الله : أوْ أمْضِيَ حُقُبا فهذا واحد الأحقاب .

وقد اختلف أهل التأويل في مبلغ مدة الحُقُب ، فقال بعضهم : مدة ثلاث مئة سنة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عمران بن موسى القزاز ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : حدثنا إسحاق بن سُويد ، عن بشير بن كعب ، في قوله : لابِثِينَ فِيها أحْقابا قال : بلغني أن الحُقُب ثلاث مئة سنة ، كلّ سنة ثلاث مئة وستون يوما ، كل يوم ألف سنة .

وقال آخرون : بل مدة الحُقْب الواحد : ثمانون سنة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، قال : ثني عمار الدّهْنيّ ، عن سالم بن أبي الجعد ، قال : قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه لهلال الهجَرِيّ : ما تجدون الحُقُب في كتاب الله المنزل ؟ قال : نجده ثمانين سنة كل سنة اثنا عشر شهرا ، كل شهر ثلاثون يوما ، كل يوم ألف سنة .

حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن عاصم بن أبي النّجود ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة : أنه قال : الحُقُب : ثمانون سنة ، والسنة : ستون وثلاث مئة يوم ، واليوم : ألف سنة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن أبي سنان ، عن ابن عباس ، قال : الحُقْب : ثمانون سنة .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : حدثنا الأعمش ، عن سعيد ، بن جُبير ، في قوله : لابِثِينَ فِيها أحْقابا قال : الحقب : ثمانون سنة ، السنة : ثلاث مئة وستون يوما ، اليوم : سنة أو ألف سنة «الطبري يشكّ » .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال الله : لابِثِينَ فِيها أحْقابا وهو ما لا انقطاع له ، كلما مضى حُقُبٌ جاء حُقُب بعده . وذُكر لنا أن الحُقُبَ ثمانون سنة .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : أحْقابا قال : بلغنا أن الحُقب ثمانون سنة من سِني الاَخرة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس لابِثِينَ فِيها أحْقابا لا يعلم عدّة هذه الأحقاب إلاّ الله ، ولكن الحُقُبَ الواحد : ثمانون سنة ، والسنة : ثلاث مئة وستون يوما ، كلّ يوم من ذلك ألف سنة .

وقال آخرون : الحُقُب الواحد : سبعون ألف سنة . ذكر من قال ذلك :

حدثني ابن عبد الرحيم البرقي ، قال : ثني عمرو بن أبي سلمة ، عن زهير ، عن سالم ، قال : سمعت الحسن يُسْألُ عن قول الله : لابِثِينَ فِيها أحْقابا قال : أما الأحقاب فليس لها عدّة إلاّ الخلود في النار ولكن ذكروا أن الحُقُب الواحد سبعون ألف سنة ، كلّ يوم من تلك الأيام السبعين ألفا ، كألف سنة مما تَعُدّون .

حدثنا عمرو بن عبد الحميد الاَمُلِيّ ، قال : حدثنا أبو أُسامة ، عن هشام ، عن الحسن ، في قوله : لابِثِينَ فِيها أحْقابا قال : أما الأحقاب ، فلا يَدرِي أحد ما هي ، وأما الحُقُب الواحد : فسبعون ألف سنة ، كلّ يوم كألف سنة .

ورُوي عن خالد بن معدان في هذه الاَية ، أنها في أهل القِبلة . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عامر بن جشب ، عن خالد بن معدان في قوله : لابِثِينَ فِيها أحْقابا ، وقوله : إلا ما شاءَ رَبّكَ إنهما في أهل التوحيد من أهل القبلة .

فإن قال قائل : فما أنت قائل في هذا الحديث ؟ قيل : الذي قاله قتادة عن الربيع بن أنس في ذلك أصحّ .

فإن قال : فما للكفار عند الله عذابٌ إلاّ أحقابا قيل : إن الربيع وقتادة قد قالا : إن هذه الأحقاب لا انقضاء لها ولا انقطاع . وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك : لابثين فيها أحقابا ، في هذا النوع من العذاب ، هو أنهم : لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْدا وَلا شَرَابا إلاّ حَمِيما وغَسّاقا فإذا انقضت تلك الأحقاب ، صار لهم من العذاب أنواع غير ذلك ، كما قال جلّ ثناؤه في كتابه : وَإنّ للطّاغِينَ لَشَرّ مآبٍ جَهَنّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ المِهادُ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَميمٌ وغَسّاقٌ وآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أزْوَاجٌ وهذا القول عندي أشبه بمعنى الاَية . وقد رُوي عن مقاتل بن حيان في ذلك ما :

حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقيّ ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سَلَمة ، قال : سألت أبا معاذ الخراسانيّ ، عن قول الله : لابِثِينَ فِيها أحْقابا فأخبرنا عن مقاتل بن حيَان ، قال : منسوخة ، نسختها : فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إلاّ عَذَابا ولا معنى لهذا القول ، لأن قوله : لابِثِينَ فِيها أحْقابا خبر ، والأخبار لا يكون فيها نسخ ، وإنما النسخ يكون في الأمر والنهي .