في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ يُرِيكُمُوهُمۡ إِذِ ٱلۡتَقَيۡتُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِكُمۡ قَلِيلٗا وَيُقَلِّلُكُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِهِمۡ لِيَقۡضِيَ ٱللَّهُ أَمۡرٗا كَانَ مَفۡعُولٗاۗ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ} (44)

41

وبعد هذا التعقيب الذي يتوسط استعراض المعركة وأحداثها وملابساتها يمضي السياق في هذا الاستعراض ؛ ويكشف التدبير الخفي اللطيف :

( إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ، ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر . ولكن الله سلم . إنه عليم بذات الصدور ) . .

ولقد كان من تدبير الله في المعركة أن يرى رسول الله [ ص ] الكافرين في الرؤيا في منامه قليلاً لا قوة لهم ولا وزن . فينبئ أصحابه برؤياه ، فيستبشروا بها ويتشجعوا على خوض المعركة . . ثم يخبر الله هنا لم أراهم لنبيه قليلاً . فلقد علم - سبحانه - أنه لو أراهم له كثيراً ، لفت ذلك في قلوب القلة التي معه ، وقد خرجت على غير استعداد ولا توقع لقتال ، ولضعفوا عن لقاء عدوهم ؛ وتنازعوا فيما بينهم على ملاقاتهم : فريق يرى أن يقاتلهم وفريق يرى تجنب الالتحام بهم . . وهذا النزاع في هذا الظرف هو أبأس ما يصيب جيشاً يواجه عدواً !

( ولكن الله سلم . إنه عليم بذات الصدور ) . .

ولقد كان - سبحانه - يعلم بذوات الصدور ؛ فلطف بالعصبة المسلمة أن يعرضها لما يعلمه من ضعفها في ذلك الموقف ؛ فأرى نبيه المشركين في رؤياه قليلاً ، ولم يرهم إياه كثيراً . .

والرؤيا صادقة في دلالتها الحقيقية . فقد رآهم رسول الله [ ص ] قليلاً . . وهم كثير عددهم ، ولكن قليل غناؤهم ، قليل وزنهم في المعركة ، قلوبهم خواء من الإدراك الواسع ، والإيمان الدافع ، والزاد النافع . . وهذه الحقيقة الواقعة - من وراء الظاهر الخادع - هي التي أراها الله لرسوله ؛ فأدخل بها الطمأنينة على قلوب العصبة المسلمة . والله عليم بسرائرهم ، مطلع على قلة عددهم وضعف عدتهم ، وما تحدثه في نفوسهم لو عرفوا كثرة عدوهم ، من ضعف عن المواجهة ؛ وتنازع على الالتحام أو الإحجام . وكان هذا تدبيراً من تدبير الله العليم بذات الصدور .

وحينما التقى الجمعان وجهاً لوجه ، تكررت الرؤيا النبوية الصادقة ، في صورة عيانية من الجانبين ؛ وكان هذا من التدبير الذي يذكرهم الله به ؛ عند استعراض المعركة وأحداثها وما وراءها .

( وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ، ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، وإلى الله ترجع الأمور ) . .

ولقد كان في هذا التدبير الإلهي ما أغرى الفريقين بخوض المعركة . . والمؤمنون يرون أعداءهم قليلاً ، لأنهم يرونهم بعين الحقيقة ! - والمشركون يرونهم قليلاً - وهم يرونهم بعين الظاهر - ومن وراء الحقيقتين اللتين رأى كل فريق منهما صاحبه بها ، تحققت غاية التدبير الإلهي ؛ ووقع الأمر الذي جرى به قضاؤه . . ( وإلى الله ترجع الأمور )

وهو التعقيب المناسب لتحقق التدبير ووقوع القضاء . . . فهو أمر من الأمور التي مرجعها لله وحده ، يصرفها بسلطانه ، ويوقعها بإرادته ، ولا تند عن قدرته وحكمه . ولا ينفذ شيء في الوجود إلا ما قضاه وأجرى به قدره .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذۡ يُرِيكُمُوهُمۡ إِذِ ٱلۡتَقَيۡتُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِكُمۡ قَلِيلٗا وَيُقَلِّلُكُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِهِمۡ لِيَقۡضِيَ ٱللَّهُ أَمۡرٗا كَانَ مَفۡعُولٗاۗ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ} (44)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِيَ أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِيَ أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ } .

يقول تعالى ذكره : وإن الله لسميع عليم إذ يُرى الله نبيه في منامه المشركين قليلاً ، وإذ يريهم الله المؤمنين إذ لقوهم في أعينهم قليلاً ، وهم كثير عددهم ، ويقلل المؤمنين في أعينهم ، ليتركوا الاستعداد لهم فيهون على المؤمنين شوكتهم . كما :

حدثني ابن بزيع البغدادي ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : لقد قُللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعين ؟ قال أراهم مئة . قال : فأسرنا رجلاً منهم ، فقلنا : كم هم ؟ قال : كنا ألفا .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بنحوه .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : إذْ يُرِيكَمُوهُمْ إذِ الْتَقَيْتُمْ في أعْيُنِكُمْ قَلِيلاً قال ابن مسعود : قُللوا في أعيننا حتى قلت لرجل : أتراهم يكونون مئة ؟

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : قال ناس من المشركين : إن العير قد انصرفت فارجعوا فقال أبو جهل : الاَن إذ برز لكم محمد وأصحابه ؟ فلا ترجعوا حتى تستأصلوهم وقال : يا قوم لا تقتلوهم بالسلاح ، ولكن خذوهم أخذا ، فاربطوهم بالحبال يقوله من القدرة في نفسه .

وقوله : لِيَقْضِيَ اللّهُ أمْرا كانَ مَفْعُولاً يقول جلّ ثناؤه : قللتكم أيها المؤمنون في أعين المشركين وأريتكموهم في أعينكم قليلاً حتى يقضي الله بينكم ما قضي من قتال بعضكم بعضا ، وإظهاركم أيها المؤمنون على أعدائكم من المشركين والظفر بهم ، لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى ، وذلك أمر كان الله فاعله وبالغا فيه أمره . كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : لِيَقْضِيَ اللّهُ أمْرا كانَ مَفْعُولاً أي ليؤلف بينهم على الحرب للنقمة ممن أراد الانتقام منه والإنعام على من أراد إتمام النعمة عليه من أهل ولايته . وَإلى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ يقول جلّ ثناؤه : مصير الأمور كلها إليه في الاَخرة ، فيجازي أهلها على قدر استحقاقهم المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته .