محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَإِذۡ يُرِيكُمُوهُمۡ إِذِ ٱلۡتَقَيۡتُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِكُمۡ قَلِيلٗا وَيُقَلِّلُكُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِهِمۡ لِيَقۡضِيَ ٱللَّهُ أَمۡرٗا كَانَ مَفۡعُولٗاۗ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ} (44)

44 { وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور } .

{ وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا } وذلك تصديقا لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليعاينوا ما أخبرهم به ، فيزداد يقينهم ويجدّوا ويثبتوا .

قال ابن مسعود رضي الله عنه : " لقد قللوا في أعيينا حتى قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة ! فأسرنا رجلا منهم ، فقلنا له : كم كنتم ؟ قال : ألفا " - رواه ابن أبي حاتم وابن جرير{[4390]} { ويقللكم في أعينهم } أي في اليقظة ، حتى قال أبو جهل : إن محمدا وأصحابه أَكَلَة جَزُورٍ مثل في القلة ، ك ( أكلة رأس ) أي أنهم لقلتهم يكفيهم ذلك . و ( أكلة ) بوزن ( كتبة ) ، جمع آكل ، بوزن فاعل ، والجزور الناقة . كذا في ( العناية ) . { ليقضي الله أمرا } أي من إظهار الخوارق الدالة على صدق دين الإسلام ، وكذب دين الكفر { كان مفعولا } أي كالواجب فعله على الحكيم ، لما فيه من الخير الكثير . قاله المهايمي .

/ لطائف

الأولى – قال الزمخشري : فإن قلت : الغرض في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهر ، فما الغرض في تقليل المؤمنين في أعينهم ؟ قلت : قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء ، ثم كثرهم فيها بعده ، ليجترئوا عليهم ، قلة مبالاة بهم ، ثم تفجؤهم الكثرة ، فيبهتوا ويهابوا ، وتفلَّ شوكتهم ، حين يرون ما لم يكن في حسابهم وتقديرهم ، وذلك قوله {[4391]} : { يرونهم مثليهم رأي العين } ولئلا يستعدوا لهم ، وليعظم الاحتجاج عليهم باستيضاع الآية البينة من قلتهم أولا وكثرتهم آخرا .

الثانية – قال الزمخشري أيضا : فإن قلت : بأي طريق يبصرون الكثير قليلا ؟ قلت : بأن يستر الله عنهم بعضه بساتر ، أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير ، كما أحدث في أعين الحُولِ ما يرون به الواحد اثنين . قيل لبعضهم : إن الأحول يرى الواحد اثنين- وكان بين يديه ديك واحد- فقال : ما لي لا أرى هذين الديكين أربعة ؟ انتهى .

قال الناصر في ( الانتصاف ) : وفي هذا- يعني كلام الزمخشري – دليل بين على أن الله تعالى هو الذي يخلق الإدراك في الحاسة ، غير موقوف على سبب من مقابلة ، أو قرب ، أو ارتفاع حجب ، أو غير ذلك . إذ لو كانت هذه الأسباب موجبة للرؤية عقلا ، لما أمكن أن يستر عنهم البعض ، وقد أدركوا البعض والسبب الموجب مشترك . فعلى هذا يجوز أن يخلق الله الإدراك مع اجتماعها ، فلا ربط إذن بين الرؤية ونفيها في مقدرة الله تعالى ؟ وهي رادّة على القدرية المنكرين لرؤية الله تعالى . بناء على اعتبار هذه الأسباب في حصول الإدراك عقلا ، وأنها تستلزم الجسمية ، إذ المقابلة والقرب وارتفاع الحجب إنما تتأتى في جسم . فهذه الآية حسبهم في إبطال زعمهم . ولكنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون والله الموفق .

الثالثة – لا يقال : إن قوله تعالى : { ليقضي الله أمرا كان مفعولا } مكرر مع ما سبق . / لأنّا نقول : إن المقصود من ذكره أولا هو اجتماعهم بلا ميعاد ليحصل استيلاء المؤمنين على المشركين ، وعلى وجه يكون معجزة دالة على صدقه صلى الله عليه وسلم ، والمقصود منه هاهنا بيان خارق آخر ، وهو تقليلهم في أعين المشركين ، ثم تكثيرهم للحكمة المتقدمة .

وفي قوله تعالى : { وإلى الله ترجع الأمور } تنبيه على أن أحوال الدنيا غير مقصودة لذواتها ، وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زادا ليوم المعاد .


[4390]:انظر الصفحة رقم 13 من الجزء العاشر من تفسير الطبري (طبعة الحلبي الثانية).
[4391]:3 / آل عمران / 13.