اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذۡ يُرِيكُمُوهُمۡ إِذِ ٱلۡتَقَيۡتُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِكُمۡ قَلِيلٗا وَيُقَلِّلُكُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِهِمۡ لِيَقۡضِيَ ٱللَّهُ أَمۡرٗا كَانَ مَفۡعُولٗاۗ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ} (44)

قوله تعالى : { إِذْ يُرِيكموهُمُ } الإراءةُ - هنا - بَصرية ، والإتيان هنا بصلة ميم الجمع واجبٌ ، لاتصالها بضمير ، ولا يجوزُ التَّسكينُ ، ولا الضَّمُّ من غير واوٍ ، وقد جوَّز يونس ذلك فيقول : " أنْتُم ضرَبْتُمهُ " بتسكين الميم وضمها ، وقد يتقوَّى بما روي عن عثمان - رضي الله عنه - : " أراهُمُنِي الباطِلُ شَيْطَاناً " وفي هذا الكلام شذوذ من وجهٍ آخر ، وهو تقديمُ الضمير غير الأخصِّ على الأخصِّ مع الاتصال .

فصل

قال مقاتل - رضي الله عنه - " إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ، رأى في المنام أنَّ العدد قليلٌ قبل لقاء العدو ، وأخبر أصحابه بِمَا رأى ، فلمَّا التقوا ببدر قلَّل اللَّهُ المشركين في أعين المؤمنين " {[17384]}

قال ابنُ مسعودٍ : " لقد قللُوا في أعيننا حتى قلتُ لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين ؟ قال أراهم مائة ، فأسرنا رجلاً منهم فقلنا له : كم كنتم ؟ قال : ألفاً " {[17385]} .

" ويُقَلِّلُكُمْ " يا معشر المؤمنين " فِي أعينهم " .

قال السُّدي : " قال ناسٌ من المشركين إنَّ العير قد انصرفت ، فارجعُوا ، فقال أبو جهلٍ : الآن إذ برز لكم محمدٌ وأصحابه ؟ فلا ترجعوا ، حتَّى تستأصلوهم ، إنَّما محمدٌ وأصحابه أكلة جزور ، فلا تقتلوهم واربطوهم بالحبال " {[17386]} ، والحكمة في تقليل عدد المشركين في أعين المؤمنين : تصديق رُؤيَا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولتقوى قلوبهم ، وتزداد جراءتهم على المشركين ، والحكمة في تقليل عدد المؤمنين في أعينِ المشركين : لئلاَّ يُبالغُوا في الاستعداد والتأهُّب والحذر ، فيصيرُ ذلك سَبَباً لاستيلاء المؤمنين عليهم .

ثم قال : { لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } .

فإن قيل : ذكر هذا يفْهَمُ من الآية المتقدمة ، فكان ذكره - ههنا - محض التكرار .

فالجوابُ : أنَّ المقصودَ من ذكره في الآية المتقدمة ، هو أنَّهُ تعالى فعل تلك الأفعال ليحصل استيلاء المؤمنين على المشركين على وجه يكون معجزة دالَّة على صدق الرسول وههنا المقصود من ذكره ، أنه إنَّما فعل ذلك ، لئلاَّ يبالغ الكفار في الاستعداد والحذر فيصيرُ ذلك سَبَباً لانكسارهم .

ثمَّ قال { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } والغرضُ منه التَّنبيه على أنَّ أحوال الدُّنْيَا غير مقصودة لذاتها ، بل المراد منها ما يصلحُ أن يكون زاداً ليوم المعاد .


[17384]:ذكره البغوي في "معالم التنزيل" (2/252-253).
[17385]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/259) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/342) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وأبي الشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود.
[17386]:ذكره البغوي في "معالم التنزيل" (2/253).