وأخيراً يذكرهم بموقفهم من يوسف ، ومن ذريته كان موسى - عليهما السلام - وكيف وقفوا موقف الشك من رسالته وما جاءهم به من الآيات ، فلا يكرروا الموقف من موسى ، وهو يصدق ما جاءهم به يوسف ، فكانوا منه في شك وارتياب . ويكذب ما جزموا به من أن الله لن يبعث من بعده رسولاً ، وها هو ذا موسى يجيء على فترة من يوسف ويكذب هذا المقال :
( ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات ، فما زلتم في شك مما جاءكم به ، حتى إذا هلك قلتم : لن يبعث الله من بعده رسولاً . كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب . الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم . كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا . كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار ) . .
وهذه هي المرة الوحيدة في القرآن التي يشار فيها إلى رسالة يوسف - عليه السلام - للقوم في مصر . وقد عرفنا من سورة يوسف ، أنه كان قد وصل إلى أن يكون على خزائن الأرض ، المتصرف فيها . وأنه أصبح " عزيز مصر " وهو لقب قد يكون لكبير وزراء مصر . وفي السورة كذلك ما قد يؤخذ منه أنه جلس على عرش مصر - وإن لم يكن ذلك مؤكداً - وذلك قوله :
( ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً وقال : يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً ) . .
وقد يكون العرش الذي رفع عليه أبويه شيئاً آخر غير عرش المملكة المصرية الفرعونية . وعلى أية حال فقد وصل يوسف إلى مكان الحكم والسلطان . ومن ثم نملك أن نتصور الحالة التي يشير إليها الرجل المؤمن . حالة شكهم فيما جاءهم به يوسف من قبل ، مع مصانعة يوسف صاحب السلطان وعدم الجهر بتكذيبه وهو في هذا المكان ! ( حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً ) . . وكأنما استراحوا لموته ، فراحوا يظهرون ارتياحهم في هذه الصورة ، ورغبتهم عما جاءهم به من التوحيد الخالص ، الذي يبدو مما تكلم به في سجنه مع صاحبي السجن : ( أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ) . . فزعموا أن لن يجيئهم من بعده رسول ، لأن هذه كانت رغبتهم . وكثيراً ما يرغب المرء في شيء ثم يصدق تحققه ، لأن تحققه يلبي هذه الرغبة !
والرجل المؤمن يشتد هنا وهو يشير إلى هذا الارتياب والإسراف في التكذيب فيقول :
( كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب ) . .
فينذرهم بإضلال الله الذي ينتظر كل مسرف مرتاب في عقيدته وقد جاءته معها البينات .
ولما كان حاصل ما مضى من حالهم في أمر موسى عليه السلام أنه جاءهم بالبينات فشكوا فيها ، وختم بتحذيرهم من عذاب الدنيا والآخرة ، عطف عليه شك آبائهم في مثل ذلك ، فقال مبيناً أنهم مستحقون لما حذر منه العذاب ليشكروا نعمة الله في إمهاله إياهم ويحذروا نقمته إن تمادوا وأكد لأجل إنكارهم أن يكونوا أتو ببينة ، وافتتح بحرف التوقع لأن حالهم اقتضت توقع ذلك ودعت إليه : { ولقد جاءكم } أي جاء آباءكم يا معشر القبط ، ولكنه عبر بذلك دلالة على أنهم على مذهب الآباء كما جرت به العادة من التقليد ، ومن أنهم على طبائعهم لا سيما إن كانوا لم يفارقوا مساكنهم : { يوسف } أي نبي الله ابن نبي الله يعقوب ابن نبي الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم .
ولما لم يكن مجيئه مستغرقاً لما تقدم موسى عليه السلام من الزمان أدخل الجار فقال : { من قبل } أي قبل زمن موسى عليه السلام : { بالبينات } أي الآيات الظاهرات ولا سيما في أمر يوم التناد { فما زلتم } بكسر الزاي من زال يزال أي ما برحتم أنتم تبعاً لآبائكم { في شك } أي محيط بكم لم تصلوا إلى رتبة الظن { مما جاءكم به } من التوحيد وما يتبعه ، ودل على تمادي شكهم بقوله : { حتى إذا هلك } وكأنه عبر بالهلاك إيهاماً لهم أنه غير معظم له ، وأنه إنما يقول ما يشعر بالتعظيم لأجل محض النصيحة والنظر في العاقبة { قلتم } أي من عند أنفسكم بغير دليل كراهة لما جاء به وتضجرا منه جهلاً بالله تعالى : { لن يبعث الله } أي الذي له صفات الكمال .
ولما كان مرادهم استغراق النفي حتى لا يقع البعث في زمن من الأزمان وإن قل ، أدخل الجار فقال : { من بعده } أي يوسف عليه السلام { رسولا } وهذا ليس إقراراً منهم برسالته ، بل هو ضم منهم إلى الشك في رسالته التكذيب برسالة من بعده ، والحجر على الملك الأعظم في عباده وبلاده والإخبار عنه بما ينافي كماله .
ولما كان كأنه قيل : هذا ضلال عظيم هل ضل أحد مثله ؟ أجيب بقوله : { كذلك } أي مثل هذا الضلال العظيم الشأن { يضل } وأبرز الاسم ولم يضمره لئلا يخص الإضلال بالحيثية الماضية ، وجعله الجلالة تعظيماً للأمر لصلاحية الحال لذلك وكذا ما يأتي بعده { الله } أي بما له من صفات القهر { من هو مسرف } أي متعال في الأمور خارج عن الحدود طالب للارتفاع عن طور البشر .
ولما كان السياق للشك في الرسالة والقول بالظن الذي يلزم منه اتهام القادر سبحانه بالعجز أو مجانبة الحكمة قال : { مرتاب * } أي يشك فيما لا يقبل الشك ويتهم غيره بما لا حظّ للتهمة فيه ، أي ديدنه التذبذب في الأمور الدينية ، فلا يكاد يحقق أمراً من الأمور ، ولا إسراف ولا ارتياب أعظم من حال المشرك فإنه منع الحق أهله وبذله لمن لا يستحقه بوجه ، وهذه الآية دليل على أن القبط طول الدهر على ما نشاهده من أنه لا ثقة بدخولهم في الدين الحق ، ولا ثبات لهم في الأعمال الصالحة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.