تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞تُرۡجِي مَن تَشَآءُ مِنۡهُنَّ وَتُـٔۡوِيٓ إِلَيۡكَ مَن تَشَآءُۖ وَمَنِ ٱبۡتَغَيۡتَ مِمَّنۡ عَزَلۡتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكَۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن تَقَرَّ أَعۡيُنُهُنَّ وَلَا يَحۡزَنَّ وَيَرۡضَيۡنَ بِمَآ ءَاتَيۡتَهُنَّ كُلُّهُنَّۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمٗا} (51)

{ 51 } { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا }

وهذا أيضًا من توسعة اللّه على رسوله ورحمته به ، أن أباح له ترك القسم بين زوجاته ، على وجه الوجوب ، وأنه إن فعل ذلك ، فهو تبرع منه ، ومع ذلك ، فقد كان صلى اللّه عليه وسلم يجتهد في القسم بينهن في كل شيء ، ويقول " اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما لا أملك " .

فقال هنا : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ } [ أي : تؤخر من أردت من زوجاتك فلا تؤويها إليك ، ولا تبيت عندها ]{[717]} { وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } أي : تضمها وتبيت عندها .

{ و } مع ذلك لا يتعين هذا الأمر { مَنِ ابْتَغَيْتَ } أي : أن تؤويها { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ } والمعنى أن الخيرة بيدك في ذلك كله [ وقال كثير من المفسرين : إن هذا خاص بالواهبات ، له أن يرجي من يشاء ، ويؤوي من يشاء ، أي : إن شاء قبل من وهبت نفسها له ، وإن شاء لم يقبلها ، واللّه أعلم ]{[718]}

ثم بين الحكمة في ذلك فقال : { ذَلِكَ } أي : التوسعة عليك ، وكون الأمر راجعًا إليك وبيدك ، وكون ما جاء منك إليهن تبرعًا منك { أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } لعلمهن أنك لم تترك واجبًا ، ولم تفرط في حق لازم .

{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } أي : ما يعرض لها عند أداء الحقوق الواجبة والمستحبة ، وعند المزاحمة في الحقوق ، فلذلك شرع لك التوسعة يا رسول اللّه ، لتطمئن قلوب زوجاتك .

{ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : واسع العلم ، كثير الحلم . ومن علمه ، أن شرع لكم ما هو أصلح لأموركم ، وأكثر لأجوركم . ومن حلمه ، أن لم يعاقبكم بما صدر منكم ، وما أصرت عليه قلوبكم من الشر .


[717]:- زيادة من ب.
[718]:- زيادة من هامش (ب) وفي بعض الكلمات عدم وضوح وتم تصويبها من طبعة السلفية.
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{۞تُرۡجِي مَن تَشَآءُ مِنۡهُنَّ وَتُـٔۡوِيٓ إِلَيۡكَ مَن تَشَآءُۖ وَمَنِ ٱبۡتَغَيۡتَ مِمَّنۡ عَزَلۡتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكَۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن تَقَرَّ أَعۡيُنُهُنَّ وَلَا يَحۡزَنَّ وَيَرۡضَيۡنَ بِمَآ ءَاتَيۡتَهُنَّ كُلُّهُنَّۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمٗا} (51)

قوله تعالى : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا } .

في سبب نزول هذه الآية روى الإمام أحمد عن عائشة ( رضي الله عنها ) أنها كانت تغير من النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : ألا تستحي المرأة أن تعرض نفسها بغير صداق ؟ فأنزل سبحانه { مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } فقالت : إني أرى ربك يسارع لك في هواك . و { تُرْجِي } ، بمعنى تؤخر . { وَتُؤْوِي } أي تضم . أي تؤخر من تشاء وتضم من تشاء . يقال : أرجأته إذا أخرته وآويت فلانا إذا ضممته . فيكون المعنى : تُطلّق من شئت وتمسك من شئت . وهو قول ابن عباس . وقيل : تترك من شئت وتنكح من شئت . وقيل : تَقْسِم لمن شئت وتترك قَسْم من شئت . أي لا حرج عليك أن تترك القَسْم لزوجاتك فتقدم من شئت منهن ، وتؤخر من شئت . ومع ذلك فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لزوجاته من قِبل نفسه دو أن يُفْرض عليه القَسْم .

قوله : { وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ } { ابْتَغَيْتَ } ، من الابتغاء وهو الطلب . وعزلت ، من العزلة وهي الإزالة . والمراد إن أردت أن تؤوي إليك امرأة ممن رددتهن فأنت بالخيار في ذلك أيضا .

فإن شئت عدت إليها فأويتها بعد أن رددتها { فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ } لا إثم عليك في ذلك كله .

قوله : { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } اسم الإشارة { ذلك } عائد إلى التفويض إلى مشيئتك أي هذا الذي جعلت لك يا محمد من التخيير في صحبتهن أو تنحيتهن ، فتؤخر من تشاء منهن وتضم من تشاء ، وترد من تشاء ردها . ووضع الحرج عنك في ذلك كله { أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ } أي ذلك أدنى إلى رضاهن إذا علمن أن ذلك كله من أمرنا .

فهن إذا علمن أن ذلك من الله قرَّت أعينهم به ورضين فلا يحزنَّ والمرء إذا علم أنه غير محق في شيء فإنه لا يبتئس بحرمانه منه وإنْ علم أنه له حقّا في أخذته الغيرة وهيَّجه الغضب . قال الزمخشري في ذلك : إذا سوى بينهن في الإيواء والإرجاء والعزل والابتغاء وارتفع التفاضل ولم يكن لإحداهن مما تريد ومما لا تريد إلا مثل ما للأخرى وعلمن أن هذا التفويض من عند الله وبوحيه اطمأنت نفوسهن وذهب التنافس والتغاير وحصل الرضا وقرت العيون وسلت القلوب .

قوله : { وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } { كُلُّهُنَّ } مرفوع ؛ لأنه تأكيد للضمير في قوله : { وَيَرْضَيْنَ } {[3761]} أي يرضين كلهن بتفضيل من فضلت من قبل من قسم فترضى كل واحدة بما أوتيت من قليل أو كثير لعلمها بأن ذلك فضل من الله تفضل به عليها .

قوله : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } الله يعلم ما يستكن في قلوبكم من الميل إلى بعض النساء دون بعض مما لا يمكن دفعه . وفي ذلك روى الإمام أحمد عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول : " اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " والمراد به القلب .

قوله : { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا } الله عليم بما يفعله الناس ، بل إن علمه محيط بكل شيء وهو سبحانه ذو حلم ولطف بعباده فلا يعامل المذنبين بالعقوبة ولكنه رحيم بهم وهو ممهلهم ليتوبوا{[3762]} .


[3761]:البيان لابن الأنباري ج 2 ص 271
[3762]:تفسير ابن كثير ج 3 ص 501 وأحكام القرآن لابن العربي ج 3 ص 1557