ثم قال تعالى : { وَلَكُمْ } أيها الأزواج { نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ }
ويدخل في مسمى الولد المشروط وجوده أو عدمه ، ولد الصلب أو ولد الابن الذكر والأُنثى ، الواحد والمتعدد ، الذي من الزوج أو من غيره ، ويخرج عنه ولد البنات إجماعًا .
ثم قال تعالى : { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } أي : من أم ، كما هي في بعض القراءات . وأجمع العلماء على أن المراد بالإخوة هنا الإخوة للأُم ، فإذا كان يورث كلالة أي : ليس للميت والد ولا ولد أي : لا أب ولا جد ولا ابن ولا ابن ابن ولا بنت ولا بنت ابن وإن نزلوا . وهذه هي الكلالة كما فسرها بذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وقد حصل على ذلك الاتفاق ولله الحمد .
{ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا } أي : من الأخ والأخت { السُّدُسُ } ، { فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ } أي : من واحد { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } أي : لا يزيدون على الثلث ولو زادوا عن اثنين . ودل قوله : { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } أن ذَكَرهم وأنثاهم سواء ، لأن لفظ " التشريك " {[189]} يقتضي التسوية .
ودل لفظ { الْكَلَالَةِ } على أن الفروع وإن نزلوا ، والأصولَ الذكور وإن علوا ، يُسقطون أولاد الأُم ، لأن الله لم يورثهم إلا في الكلالة ، فلو لم يكن يورث كلالة ، لم يرثوا منه شيئًا اتفاقًا .
ودل قوله : { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } أن الإخوة الأشقاء يَسقُطون في المسألة المسماة بالحمارية . وهى : زوج ، وأم ، وإخوة لأم ، وإخوة أشقاء . للزوج النصف ، وللأم السدس ، وللأخوة للأم الثلث ، ويسقط الأشقاء ، لأن الله أضاف الثلث للإخوة من الأُم ، فلو شاركهم الأشقاء لكان جمعا لما فرَّق الله حكمه . وأيضا فإن الإخوة للأم أصحاب فروض ، والأشقاء عصبات . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : - " ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر " - وأهل الفروض هم الذين قدَّر الله أنصباءهم ، ففي هذه المسألة لا يبقى بعدهم شيء ، فيَسْقُط الأشقاء ، وهذا هو الصواب في ذلك .
وأما ميراث الإخوة والأخوات الأشقاء أو لأب ، فمذكور في قوله : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ } الآية .
فالأخت الواحدة شقيقة أو لأب لها النصف ، والثنتان لهما الثلثان ، والشقيقة الواحدة مع الأخت للأب أو الأخوات تأخذ النصف ، والباقي من الثلثين للأخت أو الأخوات لأب{[190]} وهو السدس تكملة الثلثين . وإذ استغرقت الشقيقات الثلثين سقط الأخوات للأب كما تقدم في البنات وبنات الابن . وإن كان الإخوة رجالاً ونساءً فللذكر مثل حظ الأنثيين .
فإن قيل : فهل يستفاد حكم ميراث القاتل ، والرقيق ، والمخالف في الدين ، والمبعض ، والخنثى ، والجد مع الإخوة لغير أم ، والعول ، والرد ، وذوي الأرحام ، وبقية العصبة ، والأخوات لغير أم مع البنات أو بنات الابن من القرآن أم لا ؟
قيل : نعم ، فيه تنبيهات وإشارات دقيقة يعسر فهمها على غير المتأمل تدل على جميع المذكورات . فأما ( القاتل والمخالف في الدين ) فيعرف أنهما غير وارثين من بيان الحكمة الإلهية في توزيع المال على الورثة بحسب قربهم ونفعهم الديني والدنيوي .
وقد أشار تعالى إلى هذه الحكمة بقوله : { لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا } وقد عُلم أن القاتل قد سعى لمورثه{[191]} بأعظم الضرر ، فلا ينتهض ما فيه من موجب الإرث أن يقاوم ضرر القتل الذي هو ضد النفع الذي رتب عليه الإرث . فعُلم من ذلك أن القتل أكبر مانع يمنع الميراث ، ويقطع الرحم الذي قال الله فيه : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } مع أنه قد استقرت القاعدة الشرعية أن " من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه "
وبهذا ونحوه يعرف أن المخالف لدين الموروث لا إرث له ، وذلك أنه قد تعارض الموجب الذي هو اتصال النسب الموجب للإرث ، والمانعُ الذي هو المخالفة في الدين الموجبة للمباينة من كل وجه ، فقوي المانع ومنع موجب الإرث الذي هو النسب ، فلم يعمل الموجب لقيام المانع . يوضح ذلك أن الله تعالى قد جعل حقوق المسلمين أولى من حقوق الأقارب الكفار الدنيوية ، فإذا مات المسلم انتقل ماله إلى من هو أولى وأحق به . فيكون قوله تعالى : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } إذا اتفقت أديانهم ، وأما مع تباينهم فالأخوة الدينية مقدمة على الأخوة النسبية المجردة .
قال ابن القيم في " جلاء الأفهام " : وتأمل هذا المعنى في آية المواريث ، وتعليقه سبحانه التوارث فيها بلفظ الزوجة دون المرأة ، كما في قوله تعالى : { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } إيذانا بأن هذا التوارث إنما وقع بالزوجية المقتضية للتشاكل والتناسب ، والمؤمن والكافر لا تشاكل بينهما ولا تناسب ، فلا يقع بينهما التوارث . وأسرار مفردات القرآن ومركباته فوق عقول العالمين{[192]} [ انتهى ] .
وأما ( الرقيق ) فإنه لا يرث ولا يورث ، أما كونه لا يورث فواضح ، لأنه ليس له مال يورث عنه ، بل كل ما معه فهو لسيده . وأما كونه لا يرث فلأنه لا يملك ، فإنه لو ملك لكان لسيده ، وهو أجنبي من الميت فيكون مثل قوله تعالى : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن } { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ } ونحوها لمن يتأتى منه التملك ، وأما الرقيق فلا يتأتى منه ذلك ، فعلم أنه لا ميراث له . وأما مَنْ بعضه حر وبعضه رقيق فإنه تتبعض أحكامه . فما فيه من الحرية يستحق بها ما رتبه الله في المواريث ، لكون ما فيه من الحرية قابلا للتملك ، وما فيه من الرق فليس بقابل لذلك ، فإذا يكون المبعض ، يرث ويورث ، ويحجب بقدر ما فيه من الحرية . وإذا كان العبد يكون محمودا مذموما ، مثابا ومعاقبا ، بقدر ما فيه من موجبات ذلك ، فهذا كذلك . وأما ( الخنثى ) فلا يخلو إما أن يكون واضحا ذكوريته أو أنوثيته ، أو مشكلا . فإن كان واضحا فالأمر فيه واضح .
إن كان ذكرا فله حكم الذكور ، ويشمله النص الوارد فيهم .
وإن كان أنثى فله حكم الإناث ، ويشملها النص الوارد فيهن .
وإن كان مشكلا ، فإن كان الذكر والأنثى لا يختلف إرثهما -كالإخوة للأم- فالأمر فيه واضح ، وإن كان يختلف إرثه بتقدير ذكوريته وبتقدير أنوثيته ، ولم يبق لنا طريق إلى العلم بذلك ، لم نعطه أكثر التقديرين ، لاحتمال ظلم من معه من الورثة ، ولم نعطه الأقل ، لاحتمال ظلمنا له . فوجب التوسط بين الأمرين ، وسلوكُ أعدل الطريقين ، قال تعالى : { اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } وليس لنا طريق إلى العدل في مثل هذا أكثر من هذا الطريق المذكور . و { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }
وأما ( ميراث الجد ) مع الإخوة الأشقاء أو لأب ، وهل يرثون معه أم لا ؟ فقد دل كتاب الله على قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وأن الجد يحجب الإخوة أشقاء أو لأب أو لأم ، كما يحجبهم الأب .
وبيان ذلك : أن الجد أب في غير موضع من القرآن كقوله تعالى : { إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } الآية . وقال يوسف عليه السلام : { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ }
فسمى الله الجد وجد الأب أبا ، فدل ذلك على أن الجد بمنزلة الأب ، يرث ما يرثه الأب ، ويحجب من يحجبه .
وإذا كان العلماء قد أجمعوا على أن الجد حكمه حكم الأب عند عدمه في ميراثه مع الأولاد وغيرهم من بني الإخوة والأعمام وبنيهم ، وسائر أحكام{[193]} المواريث ، فينبغي أيضا أن يكون حكمُه حكمَه في حجب الإخوة لغير أم .
وإذا كان ابن الابن بمنزلة ابن الصلب فلم لا يكون الجد بمنزلة الأب ؟ وإذا كان جد الأب مع ابن الأخ قد اتفق العلماء على أنه يحجبه . فلم لا يحجب جد الميت أخاه ؟ فليس مع مَنْ يورِّث الإخوةَ مع الجد ، نص ولا إشارة ولا تنبيه ولا قياس صحيح .
وأما مسائل ( العول ) فإنه يستفاد حكمها من القرآن ، وذلك أن الله تعالى قد فرض وقدر لأهل المواريث أنصباء ، وهم بين حالتين :
إما أن يحجب بعضهم بعضًا أو لا . فإن حجب بعضهم بعضا ، فالمحجوب ساقط لا يزاحِم ولا يستحق شيئا ، وإن لم يحجب بعضهم بعضا فلا يخلو ، إما أن لا تستغرق الفروض التركة ، أو تستغرقها من غير زيادة ولا نقص ، أو تزيد الفروض على التركة ، ففي الحالتين الأوليين كل يأخذ فرضه كاملا . وفي الحالة الأخيرة وهي ما إذا زادت الفروض على التركة فلا يخلو من حالين :
إما أن ننقص بعضَ الورثة عن فرضه الذي فرضه الله له ، ونكمل للباقين منهم فروضهم ، وهذا ترجيح بغير مرجح ، وليس نقصان أحدهم بأولى من الآخر ، فتعينت الحال الثانية ، وهي : أننا نعطي كل واحد منهم نصيبه بقدر الإمكان ، ونحاصص بينهم كديون الغرماء الزائدة على مال الغريم ، ولا طريق موصل إلى ذلك إلا بالعول ، فعلم من هذا أن العول في الفرائض قد بينه الله في كتابه .
وبعكس هذه الطريقة بعينها يعلم ( الرد ) فإن أهل الفروض إذا لم تستغرق فروضُهم التركةَ وبقي شيء ليس له مستحق من عاصب قريب ولا بعيد ، فإن رده على أحدهم ترجيح بغير مرجح ، وإعطاؤه غيرَهم ممن ليس بقريب للميت جنف وميل ، ومعارضة لقوله : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } فتعين أن يُرَدَّ على أهل الفروض بقدر فروضهم .
ولما كان الزوجان ليسا من القرابة ، لم يستحقا زيادة على فرضهم المقدر [ هذا عند من لا يورِّث الزوجين بالرد ، وهم جمهور القائلين بالرد ، فعلى هذا تكون علة الرد كونه صاحب فرض قريبا ، وعلى القول الآخر ، أن الزوجين كغيرهما من ذوي الفروض يُرَدُّ عليهما ؛ فكما ينقصان بالعول فإنهما يزادان بالرد كغيرهما ، فالعلة على هذا كونه وارثا صاحب فرض ، فهذا هو الظاهر من دلالة الكتاب والسنة ، والقياس الصحيح ، والله أعلم ]{[194]}
وبهذا يعلم أيضا ( ميراث ذوي الأرحام ) فإن الميت إذا لم يخلف صاحب فرض ولا عاصبا ، وبقي الأمر دائرا بين كون ماله يكون لبيت المال لمنافع الأجانب ، وبين كون ماله يرجع إلى أقاربه المدلين بالورثة المجمع عليهم ، ويدل على ذلك قوله تعالى : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } فصرفه لغيرهم ترك لمن هو أولى من غيره ، فتعين توريث ذوي الأرحام .
وإذا تعين توريثهم ، فقد علم أنه ليس لهم نصيب مقدر بأعيانهم في كتاب الله . وأن بينهم وبين الميت وسائط ، صاروا بسببها من الأقارب . فينزلون منزلة من أدلوا به من تلك الوسائط . والله أعلم .
وأما ( ميراث بقية العصبة ) كالبنوة والأخوة وبنيهم ، والأعمام وبنيهم إلخ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولي رجل ذكر " وقال تعالى : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } فإذا ألحقنا الفروض بأهلها ولم يبق شيء ، لم يستحق العاصب شيئًا ، وإن بقي شيء أخذه أولي العصبة ، وبحسب جهاتهم ودرجاتهم .
فإن جهات العصوبة خمس : البنوة ، ثم الأبوة ، ثم الأخوة وبنوهم ، ثم العمومة وبنوهم ، ثم الولاء ، فيقدم منهم الأقرب جهة . فإن كانوا في جهة واحدة فالأقرب منزلة ، فإن كانوا في منزلة واحدة فالأقوى ، وهو الشقيق ، فإن تساووا من كل وجه اشتركوا . والله أعلم .
وأما كون الأخوات لغير أم مع البنات أو بنات الابن عصبات ، يأخذن ما فضل عن فروضهن ، فلأنه ليس في القرآن ما يدل على أن الأخوات يسقطن بالبنات .
فإذا كان الأمر كذلك ، وبقي شيء بعد أخذ البنات فرضهن ، فإنه يعطى للأخوات ولا يعدل عنهن إلى عصبة أبعد منهن ، كابن الأخ والعم ، ومن هو أبعد منهم . والله أعلم .
{ ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين } .
هذه فريضة الميراث الذي سببه العصمة ، وقد أعطاها الله حقّها المهجور عند الجاهلية إذ كانوا لا يورّثون الزوجين : أمّا الرجل فلا يرث امرأته لأنّها إن لم يكن لها أولاد منه ، فهو قد صار بموتها بمنزلة الأجنبي عن قرابتها من آباء وإخوة وأعمام ، وإن كان لها أولاد كان أولادها أحقّ بميراثها إن كانوا كباراً ، فإن كانوا صغاراً قبض أقرباؤهم مالهم وتصرّفوا فيه ، وأمّا المرأة فلا ترث زوجها بل كانت تعدّ موروثة عنه يتصرّف فيها ورثته كما سيجيء في قوله : { يأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } [ النساء : 19 ] . فنوّه الله في هذه الآيات بصلة العصمة ، وهي التي وصفها بالميثاق الغليظ في قوله : { وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً } [ النساء : 21 ] .
والجمع في { أزواجكم } وفي قوله : { مما تركتم } كالجمع في الأولاد والآباء ، مراد به تعدّد أفراد الوارثين من الأمّة ، وههنا قد اتّفقت الأمّة عى أنّ الرجل إذا كانت له زوجات أنهنّ يشتركن في الربع أو في الثمن من غير زيادة لهنّ ، لأنّ تعدّد الزوجات بيد صاحب المال فكان تعددّهنّ وسيلة لإدخال المضرّة على الورثة الآخرين بخلاف تعدّد البنات والأخوات فإنّه لا خيار فيه لربّ المال . والمعنى : ولكلّ واحد منكم نصف ما تركت كلّ زوجة من أزواجه وكذلك قوله : { فلكم الربع مما تركن } .
وقوله : { ولهن الربع مما تركتم } أي لمجموعهنّ الربع ممّا ترك زوجهنّ . وكذلك قوله : { فلهن الثمن مما تركتم } وهذا حذق يدلّ عليه إيجاز الكلام .
وأعقبت فريضة الأزواج بذكر { من بعد وصية يوصين بها أو دين } لئلا يتوهّم متوهّم أنّهنّ ممنوعات من الإيصاء ومن التداين كما كان الحال في زمان الجاهلية . وأمّا ذكر تلك الجملة عقب ذكر ميراث النساء من رجالهنّ فجريا على الأسلوب المتّبع في هذه الآيات ، وهو أن يعقب كلّ صنف من الفرائض بالتنبيه على أنّه لا يُستحقّ إلاّ بعد إخراج الوصيّة وقضاء الدين .
{ وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصي بها أو دين } .
بعد أن بيّن ميراث ذي الأولاد أو الوالدَيْن وفصّله في أحواله حتّى حالة ميراث الزوجين ، انتقل هنا إلى ميراث من ليس له ولد ولا والد ، وهو الموروث كلالة ، ولذلك قابل بها ميراث الأبوين .
والكلالةُ اسم للكلال وهو التعب والإعياء قال الأعشى :
فآليتُ لا أرثي لَها مِن كلالة *** ولا من حفى حتّى أُلاقي مُحَمَّدا
وهو اسم مصدر لا يثنيّ ولا يجمع .
ووصفت العرب بالكلالة القرابةَ غيرَ القربى ، كأنّهم جعلوا وصوله لنسب قريبه عن بُعد ، فأطلقوا عليه الكلالة على طريق الكناية واستشهدوا له بقول من لم يسمّوه :
فإنّ أبا المرءِ أحمى له *** ومَوْلى الكلالة لا يُغْضَبُ
ثم أطلقوه على إرث البعيد ، وأحسب أنّ ذلك من مصطلح القرآن إذ لم أره في كلام العرب إلاّ ما بعد نزول الآية . قال الفرزدق :
ورثتم قَنَاةَ المجد لا عن كلالة *** عن ابنَيْ مناف عبدِ شمس وهاشمِ
ومنه قولهم : ورِث المجدَ لاعن كلالة . وقد عدّ الصحابة معنى الكلالة هنا من مشكل القرآن حتّى قال عُمر بن الخطاب : « ثلاث لأن يكون رسول الله بَيّنهن أحبّ إليّ من الدنيا : الكلالةُ ، والربا ، والخلافةُ » . وقال أبو بكر : « أقول فيها برأيي ، فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمنّي ومن الشيطان والله منه بريء ، الكلالة ما خلا الولدَ والوالدَ » . وهذا قول عمر ، وعلي ، وابن عباس ، وقال به الزهري ، وقتادة والشعبي ، وهو قول الجمهور ، وحكي الإجماع عليه ، وروي عن ابن عباس « الكلالة من لا ولد له » أي ولو كان له والد وينسب ذلك لأبي بكر وعمر أيضاً ثم رجعا عنه ، وقد يستدلّ له بظاهر الآية في آخر السورة : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد } [ النساء : 176 ] وسياق الآية يرجّح ما ذهب إليه الجمهور لأنّ ذكرها بعد ميراث الأولاد والأبوين مؤذن بأنّها حالة مخالفة للحالين .
وانتصب قوله : { كلالة } على الحال من الضمير في { يورث } الذي هو كلالة من وارثه أي قريب غير الأقرب لأنّ الكلالة يصحّ أن يوصف بها كلا القريبين .
وقوله : { أو امرأة } عطف على { رجل } الذي هو اسم ( كان ) فيشارك المعطوف المعطوف عليه في خبر ( كان ) إذ لا يكون لها اسم بدون خبر في حال نقصانها .
وقوله : { وله أخ أو أخت } يتعيّن على قول الجمهور في معنى الكلالة أن يكون المراد بهما الأخ والأخت للأمّ خاصّة لأنَّه إذا كان الميّت لا ولد له ولا والد وقلنا له أخ أو أخت وجعلنا لكلّ واحد منهما السدس نعلم بحكم ما يُشْبه دلالةَ الاقتضاء أنّهما الأخ والأخت للأم لأنّهما لمّا كانت نهاية حظّهما الثلث فقد بقي الثلثان فلو كان الأخ والأخت هما الشقيقين أو اللذين للأب لاقتضى أنّهما أخذا أقلّ المال وترك الباقي لغيرهما وهل يكون غيرهما أقرب منهما فتعيّن أنّ الأخ والأخت مراد بهما اللذان للأمّ خاصّة ليكون الثلثان للإخوة الأشقّاء أو الأعمام أو بني الأعمام . وقد أثبت الله بهذا فرضاً للإخوة للأمّ إبطالا لما كان عليه أهل الجاهلية من إلغاء جانب الأمومة أصلاً ، لأنّه جانب نساء ولم يحتج للتنبيه على مصير بقيّة المال لما قدّمنا بيانه آنفاً من أنّ الله تعالى أحال أمر العصابة على ما هو متعارف بين من نزل فيهم القرآن .
وعلى قول ابن عباس في تفسير الكلالة لا يتعيّن أن يكون المراد بالأخ والأخت اللذين للأمّ إذ قد يفرض للإخوة الأشقّاء نصيب هو الثلث ويبقى الثلثان لعاصب أقوى وهو الأب في بعض صور الكلالة غير أنّ ابن عباس وافق الجمهور على أنّ المراد بالأخ والأخت اللذان للأمّ وكان سبب ذلك عنده أنّ الله أطلق الكلالة وقد لا يكون فيها أب فلو كان المراد بالأخ والأخت الشقيقين أو اللذين للأب لأعطيناهما الثلث عند عدم الأب وبقي معظم المال لمن هو دون الإخوة في التعصيب فهذا فيما أرى هو الذي حدا سائر الصحابة والفقهاء إلى حمل الأخ والأخت على الذين للأمّ .
وقد ذكر الله تعالى الكلالة في آخر السورة بصورة أخرى سنتعرّض لها .
{ غير مضار وصية من الله والله عليم حليم }
{ غير مضار } حال من ضمير { يوصى } الأخير ، ولمّا كان فعل يوصي تكريراً ، كان حالا من ضمائر نظائره .
و { مضارّ } الأظهر أنّه اسم فاعل بتقدير كسر الراء الأولى المدغمة أي غير مضارّ ورثته بإكثار الوصايا ، وهو نهي عن أن يقصد الموصي من وصيته الإضرارَ بالورثة . والإضرارُ منه ما حدّده الشرع ، وهو أن يتجاوز الموصي بوصيّته ثلث ماله وقد حدّده النبي بقوله لسعد بن أبي وقّاص الثلثُ والثلث كثير . ومنه ما يحصل بقصد الموصي بوصيته الاضرار بالوارث ولا يقصد القربة بوصيّته ، وهذا هو المراد من قوله تعالى : { غير مضار } . ولمّا كانت نيَّة الموصي وقصدُه الإضرار لا يُطلع عليه فهو موكول لدينه وخشية ربّه ، فإن ظهر ما يدلّ على قصده الإضرار دلالة واضحة ، فالوجه أن تكون تلك الوصيّة باطلة لأنّ قوله تعالى : { غير مضار } نهي عن الإضرار ، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه .
ويتعيّن أن يكون هذا القيد مقيِّدا للمطلق في الآي الثلاث المتقدّمة من قوله { من بعد وصية } إلخ ، لأنّ هذه المطْلقات متّحدة الحكم والسبب . فيحمِل المطْلَق منها على المقيّد كما تقرّر في الأصول .
وقد أخذ الفقهاء من هذه الآية حكم مسألة قصد المعطي من عطيّته الإضرار بوارثه في الوصيّة وغيرها من العطايا ، والمسألة مفروضة في الوصيّة خاصّة . وحكى ابن عطية عن مذهب مالك وابن القاسم أنّ قصد المضارّة في الثلث لا تردّ به الوصيّة لأنّ الثلث حقّ جعله الله له فهو على الإباحة في التصرّف فيه . ونازعه ابن عرفة في التفسير بأنّ ما في الوصايا الثاني من « المدوّنة » ، صريح في أنّ قصد الإضرار يوجب ردّ الوصيّة وبحث ابن عرفة مكين . ومشهور مذهب ابن القاسم أن الوصية تردّ بقصد الإضرار إذا تبيّن القصد غير أنّ ابن عبد الحكم لا يرى تأثير الإضرار . وفي شرح ابن ناجي على تهذيب المدوّنة أنّ قصد الإضرار بالوصيّة في أقلّ من الثلث لا يوهن الوصيّة على الصحيح . وبه الفتوى .
وقوله : { وصية } منصوب على أنّه مفعول مطلق جاء بدلا من فعله ، والتقدير : يوصيكم الله بذلك وصيّة منه فهو ختم للأحكام بمثل ما بدئت بقوله : { يوصيكم الله } [ النساء : 11 ] وهذا من ردّ العجز على الصدر .
وقوله : { والله عليم حليم } تذييل ، وذكر وصف العلم والحلم هنا لمناسبة أنّ الأحكام المتقدّمة إبطال لكثير من أحكام الجاهلية ، وقد كانوا شرعوا مواريثهم تشريعاً مثاره الجهل والقساوة . فإنّ حرمان البنت والأخ للأمّ من الإرث جهل بأنّ صلة النسبة من جانب الأمّ مماثلة لصلة نسبة جانب الأب . فهذا ونحوه جهل ، وحرمانهم الصغار من الميراث قساوة منهم .
وقد بيّنت الآيات في هذه السورة الميراث وأنصباءه بين أهل أصول النسب وفروعه وأطرافه وعصمة الزوجية ، وسكتت عمّا عدا ذلك من العصبة وذوي الأرحام وموالي العتاقة وموالي الحلف ، وقد أشار قوله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } في سورة الأنفال ( 75 ) وقوله : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } في سورة الأحزاب ( 6 ) إلى ما أخذ منه كثير من الفقهاء توريث ذوي الأرحام . وأشار قوله الآتي قريباً { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } [ النساء : 33 ] إلى ما يؤخذ منه التوريث بالولاء على الإجمال كما سنبيّنه ، وبَيَّن النبي صلى الله عليه وسلم توريث العصبة بما رواه رواة أهل الصحيح عن ابن عباس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ألحِقُوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأوْلى رَجُلٍ ذَكَر » وما رواه الخمسة غير النسائي عن أبي هريرة : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن مات وترك مالا فماله لمَوالي العصبة ومن ترك كَلا أو ضَياعا فأنا وليّه » وسنفصّل القول في ذلك في مواضعه المذكورة .