{ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ } أي عاونوهم { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } أي : اليهود { مِنْ صَيَاصِيهِمْ } أي : أنزلهم من حصونهم ، نزولاً مظفورًا بهم ، مجعولين تحت حكم الإسلام .
{ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } فلم يقووا على القتال ، بل استسلموا وخضعوا وذلوا . { فَرِيقًا تَقْتُلُونَ } وهم الرجال المقاتلون { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا } مَنْ عداهم من النساء والصبيان .
وقوله تعالى : { وأنزل الذين ظاهروهم } يريد بني قريظة بإجماع من المفسرين ، قال الرماني وقال الحسن الذين أنزلوا { من صياصيهم } بنو النضير ، وقال الناس : هم بنو قريظة ، وذلك أنهم لما غدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهروا الأحزاب عليه أراد الله تعالى النقمة منهم ، فلما ذهب الأحزاب جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقت الظهر فقال : يا محمد إن الله تعالى يأمرك بالخروج إلى بني قريظة ، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس وقال لهم : «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة » ، فخرج الناس إليها ووصلها قوم من الصحابة بعد العشاء وهم لم يصلوا العصر وقوفاً مع لفظ النبي صلى الله عليه وسلم فلم يخطئهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وصلى قوم في الطريق ورأوا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم إنما خرج مخرج التأكيد فلم يخطئهم أيضاً ، وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة خمساً وعشرين ليلة ، ثم نزلوا على حكم سعد بن معاذ الأوسي ، وكان بينهم وبين الأوس حلف فرجوا حنوه عليهم ، فحكم فيهم سعد بأن تقتل المقاتلة ، وتسبى الذرية والعيال والأموال ، وأن تكون الأرض والثمار للمهاجرين دون الأنصار ، فقالت له الأنصار ، فقالت له الأنصار في ذلك ، فقال : أردت أن تكون لهم أموال ، كما لكم أموال فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبعة أرقعة ){[9492]} فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجالهم فأخرجوا أرسالاً{[9493]} وضرب أعناقهم وهم من الثمانمائة إلى التسعمائة ، وسيق فيهم حيي بن أخطب النضري وهو الذي كان أدخلهم في الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما ذهب الأحزاب دخل عندهم وفاء لهم ، فأخذه الحصر حتى نزل فيمن نزل على حكم سعد ، فلما نزل وعليه حلتان فقاحيتان{[9494]} ، ويداه مجموعة إلى عنقه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : والله يا محمد أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ، ولقد اجتهدت ، ولكن من يخذل الله يخذل ، ثم قال : أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله وقدره ملحمة كتبت على بني إسرائيل{[9495]} ثم تقدم فضربت عنقه ، وفيه يقول جبل بن حوال الثعلبي : [ الطويل ]
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه . . . ولكنه من يخذل الله يخذل
لأجهد حتى أبلغ النفس عذرها . . . وقلقل يبغي العز كل مقلقل{[9496]}
و { ظاهروهم } معناه عاونوهم ، وقرأ عبد الله بن مسعود «آزروهم » وهي بمعنى { ظاهروهم } و «الصياصي » : الحصون ، واحدها صيصة وهي كل ما يمتنع به ، ومنه يقال لقرون البقر الصياصي ، والصياصي أيضاً : شوك الحاكة{[9497]} ، وتتخذ من حديد ، ومنه قول دريد بن الصمة : [ الطويل ]
كوقع الصاصي في النسيخ الممدّد{[9498]} . . .
والفريق المقتول : الرجال المقاتلة ، والفريق المأسور : العيال والذرية ، وقرأ الجمهور «وتأسِرون » بكسر السين ، وقرأ أبو حيوة «تأسُرون » بضم السين .
كان يهود قريظة قد أعانوا الأحزاب وحاصروا المدينة معهم وكان حُيَيّ بنُ أخطب من بني النضير منضماً إليهم وهو الذي حرّض أبا سفيان على غزو المدينة . فلما صرف الله الأحزاب أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يغزو قريظة وهم فريق من اليهود يعرفون ببني قريظة وكانت منازلهم وحُصونهم بالجَنوب الشرقي من المدينة تعرف قريتهم باسمهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عاد إلى المدينة من الخندق ظُهراً وكان بصدد أن يغتسل ويَستقر فلما جاءه الوحي بأن يغزو قريظة نادى في الناس أنْ لا يصليَنَّ أحدُكم العصر إلا في بني قريظة . وخرج الجيش الذي كان بالخندق معه فنزلوا على قرية قريظة واستعصم أهل القرية بحصونهم فحاصرهم المسلمون نحواً من عشرين ليلة ، فلما جهدهم الحصار وخامرهم الرعب من أن يفتح المسلمون بلادهم فيستأصلوهم طمِعوا أن يطلبوا أن يسلموا بلادهم على أن يحكّم حكَم في صفة ذلك التسليم . ويقال لهذا النوع من المصالحة : النزول على حُكم حَكَم ، فأرسلوا شَاس بن قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعرضون أن ينزلوا على مثل ما نزلت عليه بنو النضير من الجَلاء على أن لهم ما حَملَتْ الإبلُ إلا الحَلَقة ، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبول ذلك وبعد مداولات نزلوا على حكم سَعْد بن معاذ ، فحكم سعد أن تقتل المقَاتِلة وتُسبَى النساء والذَّراري وأن تكون ديارهم للمهاجرين دون الأنصار فأمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حكم به سعد كما هو مفصل في السيرة .
ومعنى { ظاهروهم } ناصروهم وأعانوهم ، وتقدم في قوله تعالى : { ولم يظاهروا عليكم أحداً } في سورة براءة ( 4 ) .
والإنزال : الإهباط ، أي : من الحصون أو من المعتصمات كالجبال .
والصياصي : الحصون ، وأصلها أنها جمع صِيصَيَة وهي القَرْن للثَّوْر ونحوه . قال عبد بني الحسحاس :
فأصبحت الثيرانُ غرقَى وأصبحت *** نساءُ تميم يلتقطن الصَّيَاصيا
أي : القرون لبيعها . كانوا يستعملون القرون في مناسِج الصوف ويتخذون أيضاً منها أوعية للكحل ونحوه ، فلما كان القرن يدافع به الثوْر عن نفسه سمي المَعقل الذي يعتصم به الجيش صيصية والحصونُ صياصيَ .
والقذف : الإلقاء السريع ، أي : جعل الله في قلوبهم الرعب بأمره التكويني فاستسلموا ونزلوا على حكم المسلمين . والفريق الذين قُتلوا هم الرجال وكانوا زهاء سبعمائة والفريق الذين أُسروا هم النساء والصبيان .
والخطاب من قوله { فريقاً تقتلون } إلى آخره . . . للمؤمنين تكملة للنعمة التي أنبأ عنها قوله : { يا أيها الذين ءامنوا اذكروا نِعمة الله عليكم إذْ جاءَتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً } [ الأحزاب : 9 ] الآية ، أي : فأهلكنا الجنود وردهم الله بغيظهن وسلطكم على أحلافهم وأنصارهم . وتقديم المفعول في { فريقاً تقتلون } للاهتمام بذكره لأن ذلك الفريق هم رجال القبيلة الذين بقتلهم يتم الاستيلاء على الأرض والأموال والأسرى ، ولذلك لم يقدم مفعول { تأسرون } إذ لا داعي إلى تقديمه فهو على أصله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.