تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا} (3)

ثم أرسل إليه الرسل ، وأنزل عليه الكتب ، وهداه الطريق الموصلة إلى الله ، ورغبه{[1304]} فيها ، وأخبره بما له عند الوصول إلى الله .

ثم أخبره بالطريق الموصلة إلى الهلاك ، ورهبه منها ، وأخبره بما له إذا سلكها ، وابتلاه بذلك ، فانقسم الناس إلى شاكر لنعمة الله عليه ، قائم بما حمله الله من حقوقه ، وإلى كفور لنعمة الله عليه ، أنعم الله عليه بالنعم الدينية والدنيوية ، فردها ، وكفر بربه ، وسلك الطريق الموصلة إلى الهلاك .


[1304]:- في ب: الطريق الموصلة إليه وبينها.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا} (3)

وقوله تعالى : { إنا هديناه السبيل } يحتمل أن يريد { السبيل } العامة للمؤمن والكافر فذلك يختلق الحواس وموهبة الفطرة ونصب الصنعة الدالة على الصانع ، ف { هديناه } على هذا بمعنى أرشدناه كما يرشد الإنسان إلى الطريق ويوقف عليه ، ويحتمل أن يريد { السبيل } اسم الجنس ، أي هدى المؤمن إيمانه والكافر لكفره ف { هديناه } على هذا معناه أريناه وليس الهدى في هذه الآية بمعنى خلق الهدى والإيمان ، وقوله تعالى : { إما شاكراً وإما كفوراً } حالان وقسمتهما { إما } قاله أبو عمرو الداني ، وقرأ أبو العاج «إما شاكراً وإما كفوراً »{[11497]} وأبو العاج كثير بن عبد الله السلمي شامي ولى البصرة لهشام بن عبد الملك .


[11497]:بفتح الهمزة من (أما)، قال أبو حيان في البحر المحيط: "وهي لغة حكاها أبو زيد عن العرب، وهي التي عدها بعض الناس في حروف العطف"، وقال الزمخشري: "وهي قراءة حسنة"، وعلق على كلامه الإمام ناصر الدين أحمد بن المنير فقال في كتابه (الانتصاف): "واستحسانه لهذه القراءة لتخيله أن في التقسيم إشعارا بغرضه الفاسد"، وذلك لأن الزمخشري جعل "أما" هنا للتفصيل وتقسيم الناس إلى شاكر بتوفيق الله تعالى، وكفور بسوء اختياره هو، ولما كان الشكر قليلا قال الله: (شاكرا)، ولما كان كفر النعمة كثيرا قال تعالى: (كفورا) بصيغة المبالغة.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا} (3)

استئناف بياني لبيان ما نشأ عن جملة { نبتليه } [ الإنسان : 2 ] ولتفصيل جملة { فجعلناه سميعاً بصيراً } [ الإنسان : 2 ] ، وتخلُّصّ إلى الوعيد على الكفر والوَعد على الشكر .

وهداية السبيل : تمثيل لحال المرشدِ . و { السبيل } : الطريق الجادة إلى ما فيه النفع بواسطة الرُسل إلى العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة التي هي سبب فوزه بالنعيم الأبدي ، بحال من يدل السائر على الطريق المؤدية إلى مقصده من سَيْره .

وهذا التمثيل ينحل إلى تشبيهاتتِ أجزاءِ الحالة المركَّبَة المشبَّهة بأجزاء الحالة المشبَّه بها ، فالله تعالى كالهادي ، والإِنسان يشبه السائر المتحير في الطريق ، وأعمال الدين تشبه الطريق ، وفوز المتتبع لهدي الله يشبه البلوغ إلى المكان المطلوب .

وفي هذا نداء على أن الله أرشد الإِنسان إلى الحق وأن بعض الناس أدخلوا على أنفسهم ضلالَ الاعتقاد ومفاسدَ الأعمال ، فمن بَرَّأَ نفسه من ذلك فهو الشاكر وغيره الكفور ، وذلك تقسيم بحسب حال الناس في أول البعثة ، ثم ظهر من خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً .

وتأكيد الخبر ب ( إنَّ ) للرد على المشركين الذين يزعمون أن ما يدعوهم إليه القرآن باطل .

و { إِما شاكراً وإما كفوراً } حالان من ضمير الغيبة في { هديناه } ، وهو ضمير { الإِنسان } [ الإنسان : 2 ] .

و { إما } حرف تفصيل ، وهو حرفٌ بسيط عند الجمهور . وقال سيبويه : هو مركب من حرف ( إِنْ ) الشرطية و ( مَا ) النافية . وقد تجردت ( إنْ ) بالتركيب على الشرطية كما تجردت ( مَا ) عن النفي ، فصار مجموع { إِما } حرف تفصيل ، ولا عمل لها في الاسم بعدها ولا تمنع العامل الذي قبلها عن العمل في معموله الذي بعدها فهي في ذلك مثل ( اَلْ ) حرففِ التعريف . وقدر بعض النحاة { إما } الثانية حرفَ عطف وهو تحكم إذ جعلوا الثانية عاطفة وهي أخت الأولى ، وإنما العاطف الواو و { إِما } مقحمة بين الاسم ومعموله كما في قول تأبط شراً :

هُمَا خُطَّتَا إِمَّا إِسارٍ ومِنَّةٍ *** وإِمَّا دَمٍ والموتُ بالحُر أجْدَرُ

فإن الاسمين بعد ( إما ) في الموضعين من البيت مجرورَان بالإِضافة ولذلك حذفت النون من قوله : هما خطتَا ، وذلك أفصح كما جاء في هذه الآية .

قال ابن جنيّ : « أما من جرَّ ( إِسار ) فإنه حذف النون للإِضافة ولم يَعتد ( إِمَّا ) فاصلاً بين المضاف والمضاف إليه ، وعلى هذا تقول : هما إِما غلاما زيدٍ وإما عمرو ، وأجودُ من هذا أن تقول : هما خطتَا إِسارٍ ومنةٍ وإِما خطتا دم ثم قال : وأما الرفع فطريق المذهب ، وظاهر أمره أنه على لغة من حذف النون لغير الإِضافة فقد حُكي ذلك » الخ .

ومقتضى كلامه أن البيت روي بالوجهين : الجرِ والرفع وقريب منه كلام المرزوقي وزاد فقال « وحَذف النون إذا رفعتَ ( إسارُ ) استطالة للاسم كأنه استطال خطتا ببدَلِه وهو قوله : إِما إسار » الخ .

والمعنى : إنا هديناه السبيل في حال أنه متردد أمره بين أحد هذين الوصفين وصففِ شاكر ووصففِ كفور ، فأحدُ الوصفين على الترديد مقارنٌ لحال إرشاده إلى السبيل ، وهي مقارنةٌ عرفية ، أي عَقب التبليغ والتأمل ، فإن أخذ بالهدى كان شاكراً وإن أعرض كان كفوراً كمن لم يأخذ بإرشاد من يهديه الطريق فيأخذ في طريق يلقى به السباع أو اللصوصَ ، وبذلك تم التمثيل الذي في قوله : { إِنا هديناه السبيل } .