{ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ }
هذه الآيات الكريمة{[172]} فيها فضيلة{[173]} الشهداء وكرامتهم ، وما منَّ الله عليهم به من فضله وإحسانه ، وفي ضمنها تسلية الأحياء عن قتلاهم وتعزيتهم ، وتنشيطهم للقتال في سبيل الله والتعرض للشهادة ، فقال : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله } أي : في جهاد أعداء الدين ، قاصدين بذلك إعلاء كلمة الله { أمواتا } أي : لا يخطر ببالك وحسبانك أنهم ماتوا وفقدوا ، وذهبت عنهم لذة الحياة الدنيا والتمتع بزهرتها ، الذي يحذر من فواته ، من جبن عن القتال ، وزهد في الشهادة . { بل } قد حصل لهم أعظم مما يتنافس فيه المتنافسون . فهم { أحياء عند ربهم } في دار كرامته .
ولفظ : { عند ربهم } يقتضي علو درجتهم ، وقربهم من ربهم ، { يرزقون } من أنواع النعيم الذي لا يعلم وصفه ، إلا من أنعم به عليهم ،
{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا } نزلت في شهداء أحد . وقيل في شهداء بدر والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد . وقرئ بالياء على إسناده إلى ضمير الرسول ، أو من يحسب أو إلى الذين قتلوا . والمفعول الأول محذوف لأنه في الأصل مبتدأ جائز الحذف عند القرينة . وقرأ ابن عامر قتلوا بالتشديد لكثرة المقتولين . { بل أحياء } أي بل هم أحياء . وقرئ بالنصب على معنى بل أحسبهم أحياء { عند ربهم } ذوو زلفى منه . { يرزقون } من الجنة وهو تأكيد لكونهم أحياء .
وقرأ جمهور القراء : «ولا تحسبن » بالتاء مخاطبة للنبي عليه السلام ، وقرأ حميد بن قيس ، «ولا يحسبن » بالياء على ذكر الغائب ، ورويت عن ابن عمر وذكره أبو عمرو وكأن الفاعل مقدر : ولا يحسبن أحد أو حاسب ، وأرى هذه القراءة بضم الباء فالمعنى : ولا يحسب الناس ، ويحسبن ، معناه يظن ، وقرأ الحسن : «الذين قتّلوا » ، بشد التاء ، وابن عامر من السبعة ، وروي عن عاصم أنه قرأ : «الذين قاتلوا » بألف بين القاف والتاء ، وأخبر الله تعالى في هذه الآية عن الشهداء : أنهم في الجنة يرزقون ، هذا موضع الفائدة ، ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل ، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم ، قال الحسن بن أبي الحسن : ما زال ابن آدم يتحمد حتى صار حياً لا يموت بالشهادة في سبيل الله ، فقوله : { بل أحياء } مقدمة قوله : { يرزقون } إذ لا يرزق إلا الحي ، وهذا كما تقول لمن ذم رجلاً : بل هو رجل فاضل ، فتجيء باسم الجنس الذي تركب عليه الوصف بالفضل ، وقرأ جمهور الناس : «بل أحياءٌ » بالرفع على خبر ابتداء مضمر ، أي هم أحياء ، وقرأ ابن أبي عبلة ، «بل أحياءً » بالنصب ، قال الزجّاج : ويجوز النصب على معنى بل أحسبهم أحياء ، قال أبو علي في الأغفال : ذلك لا يجوز لأن الأمر يقين فلا يجوز أن يؤمر في بمحسبة ، ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة .
قال القاضي : فوجه قراءة ابن أبي عبلة أن تضمر فعلاً غير المحسبة ، اعتقدهم أو اجعلهم وذلك ضعيف إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر ، وقوله { عند ربهم } فيه حذف مضاف تقديره : عند كرامة ربهم ، لأن { عند } تقتضي غاية القرب ، ولذلك لم تصغر قاله سيبويه ، وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أرواح الشهداء على نهر بباب الجنة يقال له بارق ، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً{[3704]} ، وروي عنه عليه السلام أنه قال : ( أرواح الشهداء في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها ) {[3705]} .
قال القاضي رحمه الله : وهؤلاء طبقات وأحوال مختلفة ، يجمعها أنهم يرزقون ، وقال عليه السلام : ، ويروى يعلق بفتح اللام وبالياء ، والحديث معناه في الشهداء خاصة ، لأن أرواح المؤمنين غير الشهداء ، إنما ترى مقاعدها من الجنة دون أن تدخلها ، وأيضاً فإنها لا ترزق ، وتعلق معناه : تصيب العلقة من الطعام ، وفتح اللام هو من التعلق ، وقد رواه الفراء في إصابة العلقة ، وروي عن النبي عليه السلام أنه قال : «إن الله تعالى يطلع إلى الشهداء فيقول : يا عبادي ما تشتهون فأزيدكم ؟ فيقولون يا ربنا لا فوق ما أعطيتنا ، هذه الجنة نأكل منها حيث نشاء ، لكنا نريد أن تردنا إلى الدنيا فنقاتل في سبيلك فنقتل مرة أخرى ، فيقول تعالى : قد سبق أنكم لا تردون »{[3707]} ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله : «ألا أبشرك يا جابر ؟ » قال جابر : قلت بلى يا رسول الله ، قال : «إن أباك حيث أصيب - بأحد - أحياه الله ، ثم قال : ما تحب يا عبد الله بن عمرو أن أفعل بك ؟ قال : يا رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى »{[3708]} ، وقال قتادة رحمه الله : ذكر لنا أن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين أصيبوا -بأحد- فنزلت هذه الآية{[3709]} وقال محمد بن قيس بن مخرمة{[3710]} في حديث إن الشهداء قالوا يا ربنا ألا رسول يخبر نبينا عنا بما أعطيتنا ؟ فقال الله تعالى : أنا رسولكم ، فنزل جبريل بهذه الآيات ){[3711]} .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وكثرت هذه الأحاديث في هذا المعنى ، واختلفت الروايات وجميع ذلك جائز على ما اقتضبته من هذه المعاني{[3712]} وقوله تعالى : { فرحين } نصب في موضع الحال وهو من الفرح بمعنى السرور ، و «الفضل » في هذه الآية : التنعيم المذكور .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.