ولما ذكر أن المنافقين ، عاهدوا اللّه ، لا يولون الأدبار ، ونقضوا ذلك العهد ، ذكر وفاء المؤمنين به ، فقال : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ } أي : وفوا به ، وأتموه ، وأكملوه ، فبذلوا مهجهم في مرضاته ، وسبَّلوا أنفسهم في طاعته .
{ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ } أي : إرادته ومطلوبه ، وما عليه من الحق ، فقتل في سبيل اللّه ، أو مات مؤديًا لحقه ، لم ينقصه شيئًُا .
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ } تكميل ما عليه ، فهو شارع في قضاء ما عليه ، ووفاء نحبه ولما يكمله ، وهو في رجاء تكميله ، ساع في ذلك ، مجد .
{ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } كما بدل غيرهم ، بل لم يزالوا على العهد ، لا يلوون ، ولا يتغيرون ، فهؤلاء ، الرجال على الحقيقة ، ومن{[701]} عداهم ، فصورهم صور رجال ، وأما الصفات ، فقد قصرت عن صفات الرجال .
{ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } من الثبات مع الرسول صلى الله عليه وسلم والمقاتلة لإعلاء الدين من صدقني إذا قال لك الصدق ، فإن المعاهد إذا وفى بعهده فقد صدق فيه . { فمنهم من قضى نحبه } نذره بأن قاتل حتى استشهد كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر ، والنحب النذر واستعير للموت لأنه كنذر لازم في رقبة كل حيوان . { ومنهم من ينتظر } الشهادة كعثمان وطلحة رضي الله عنهما . { وما بدلوا } العهد ولا غيروه . { تبديلا } شيئا من التبديل . روي أن طلحة ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حتى أصيبت يده عليه الصلاة والسلام " أوجب طلحة " وفيه تعريض لأهل النفاق ومرض القلب بالتبديل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم نعت المؤمنين فقال: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عهدوا الله عليه} ليلة العقبة بمكة.
{فمنهم من قضى نحبه} أجله فمات على الوفاء يعني حمزة وأصحابه قتلوا يوم أحد، رضي الله عنهم.
{ومنهم من ينتظر} المؤمنين من ينتظر أجله على الوفاء بالعهد، {وما بدلوا} العهد {تبديلا} كما بدل المنافقين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره "مِنَ المُؤْمِنِينَ "بالله ورسوله "رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْه" يقول: أوفوا بما عاهدوه عليه من الصبر على البأساء والضرّاء، وحين البأس، "فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ" يقول: فمنهم من فرغ من العمل الذي كان نذره الله وأوجبه له على نفسه، فاستشهد بعض يوم بدر، وبعض يوم أُحد، وبعض في غير ذلك من المواطن، "وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ" قضاءه والفراغ منه، كما قضى من مضى منهم على الوفاء لله بعهده، والنصر من الله، والظفر على عدوّه. والنّحب: النذر في كلام العرب. وللنحب أيضا في كلامهم وجوه غير ذلك، منها الموت... وقوله: "وَما بَدّلُوا تَبْدِيلاً": وما غيروا العهد الذي عاقدوا ربهم تغييرا، كما غيره المعوّقون القائلون لإخوانهم: هلم إلينا، والقائلون: إن بيوتنا عورة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
شَكَرَ صنيعَهم في المراس، ومدح يقينهم عند شهود الباس، وسماهم رجالاً إثباتاً لخصوصية رتبتهم وتمييزاً لهم من بين أَشكالهم بعلوِّ الحالة والمنزلة، فمنهم مَنْ خرج من دنياه على صدْقه ومنهم مَنْ ينتظر حكم الله في الحياة والممات، ولم يزيغوا عن عهدهم، ولم يراوغوا في مراعاة حدِّهم؛ فحقيقةُ الصدق حِفْظُ العهد وتَرْكُ مجاوزة الحدِّ. ويقال: الصدقُ استواءُ الجهر والسِّرِّ. ويقال: هو الثباتُ عندما يكون الأَمرُ جِدًّا...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قال البخاري: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه قال: لما نسخنا الصُّحُف، فَقَدْتُ آيةً من "سورة الأحزاب "كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري -الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين -: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} انفرد به البخاري دون مسلم..
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان كل من آمن بائعاً نفسه وماله لله، لأن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وكان بعض الراسخين في الإيمان لم يعط الإيمان حقه في القتال في نفسه وماله، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه، أما في ماله فبالخروج عنه كله، وأما في نفسه فيما يقحمها من الأهوال، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول له في بعض المواطن:"الزم مكانك وأمتعنا بنفسك"، "ويقول له ولعمر رضي الله عنهما أنهما من الدين بمنزلة السمع والبصر "وكان أبو بكر رضي الله عنه في ليلة الغار يذكر الطلب فيتأخر، والرصد فيتقدم، وما عن الجوانب فيصير إليها، ومنهم من وفى هذه الغزوة وما قبلها فأراد الله التنويه بذكرهم والثناء عليهم توفية لما يفضل به في حقهم، وترغيباً لغيرهم فأظهر ولم يضمر لئلا يتقيد بالمذكورين سابقاً فيخص هذه الغزوة فقال: {من المؤمنين} أي الكمل {رجال} أي في غاية العظمة عندنا، ثم وصفهم بقوله: {صدقوا}. ولما كان العهد عند ذوي الهمم العلية، والأخلاق الزكية، لشدة ذكرهم له ومحافظتهم على الوفاء به، وتصوره لهم حتى كأنه رجل عظيم قائم تجاههم، يتقاضاهم الصدق، عدى الفعل
إليه فقال: {ما عاهدوا الله} المحيط علماً وقدرة وجلالاً وعظمة {عليه} أي من بيع أنفسهم وأموالهم له بدخولهم في هذا الدين، الذي بنى على ذلك فوفوا به أتم وفاء، وفي هذا إشارة إلى أبي لبابة بن المنذر رضي الله عنه، وكان من أكابر المؤمنين الراسخين في صفة الإيمان حيث زل في إشارته إلى بني قريظة بأن المراد بهم الذبح، كما تقدم في الأنفال في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم} [الأنفال: 27] فذهب من حينه وربط نفسه تصديقاً لصدقه في سارية من سواري المسجد حتى تاب الله عليه وحله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة. ولما ذكر الصادقين، وكان ربما فهم أن الصدق لا يكون إلا بالقتل، قسمهم قسمين مشيراً إلى خلاف ذلك بقوله: {فمنهم من قضى} أي أعطى {نحبه} أي نذره في معاهدته، أنه ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم و يموت دونه، وفرغ من ذلك وخرج من عهدته بأن قتل شهيداً، فلم يبق عليه نذر كحمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير... فالمراد بالنحب هنا العهد الذي هو كالنذر المفضي إلى الموت، وأصل النحب الاجتهاد في العمل، ومن هنا استعمل في النذر لأنه الحامل على ذلك.
{ومنهم} أي الصادقين {من ينتظر} قضاء النحب إما بالنصرة، أو الموت على الشهادة، أو مطلق المتابعة الكاملة.
ولما كان المنافقون ينكرون أن يكون أحد صادقاً فيما يظهر من الإيمان، أكد قوله تعريضاً بهم: {وما بدلوا تبديلاً} أي وما أوقعوا شيئاً من تبديل بفترة أو توان، فهذا تصريح بمدح أهل الصدق، وتلويح بذم أهل النفاق...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذا هو التوازن الذي صاغ ذلك النموذج الفريد في صدر الإسلام. النموذج الذي يذكر عنه القرآن الكريم مواقفه الماضية وحسن بلائه وجهاده، وثباته على عهده مع الله، فمنهم من لقيه، ومنهم من ينتظر أن يلقاه هذا في مقابل ذلك النموذج الكريه، نموذج الذين عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار، ثم ولم يوفوا بعهد الله (وكان عهد الله مسؤولا)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والإخبار عنهم برجال زيادة في الثناء، لأن الرجُل مشتق من الرِّجْل وهي قوة اعتماد الإنسان.
{صدقوا ما عاهدوا الله عليه} أنهم حققوا ما عاهدوا عليه فإن العهد وعد وهو إخبار بأنه يفعل شيئاً في المستقبل فإذا فعله فقد صدق، وفعل الصدق يستعمل قاصراً وهو الأكثر، ويستعمل متعدياً إلى المخبَر بفتح الباء.
وساعة تسمع كلمة {رِجَالٌ.. في القرآن، فاعلم أن المقام مقام جدّ وثبات على الحق، وفخر بعزائم صلبة لا تلين، وقلوب رسخ فيها الإيمان رسوخ الجبال.
وهؤلاء الرجال وفوا العهد الذي قطعوه أمام الله على أنفسهم، بأن يبلوا في سبيل نصرة الإسلام، ولو يصل الأمر إلى الشهادة.. فالمؤمن حين يستصحب مسألة الموت ويستقرئها يرى أن جميع الخلق يموتون من لدن آدم عليه السلام حتى الآن، لذلك تهون عليه حياته ما دامت في سبيل الله، فينذرها ويقدمها لله عن رضا، ولم لا وقد ضحيت بحياة، مصيرها إلى زوال، واشتريت بها حياة باقية وخالدة منعّمة...
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.