{ 28 - 29 } { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا }
لما اجتمع نساء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الغيرة ، وطلبن منه النفقة والكسوة ، طلبن منه أمرًا لا يقدر عليه في كل وقت ، ولم يزلن في طلبهن متفقات ، في مرادهن متعنتات ، شَقَّ ذلك على الرسول ، حتى وصلت به الحال إلى أنه آلى منهن شهرًا .
فأراد اللّه أن يسهل الأمر على رسوله ، وأن يرفع درجة زوجاته ، ويُذْهِبَ عنهن كل أمر ينقص أجرهن ، فأمر رسوله أن يخيرهن{[702]} فقال : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي : ليس لكن في غيرها مطلب ، وصرتن ترضين لوجودها ، وتغضبن لفقدها ، فليس لي فيكن أرب وحاجة ، وأنتن بهذه الحال .
{ فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } شيئا مما عندي ، من الدنيا { وَأُسَرِّحْكُنَّ } أي : أفارقكن { سَرَاحًا جَمِيلًا } من دون مغاضبة ولا مشاتمة ، بل بسعة صدر ، وانشراح بال ، قبل أن تبلغ الحال إلى ما لا ينبغي .
ولما تقرر بهذه الوقائع - التي نصر{[55444]} فيها سبحانه وحده بأسباب باطنه سببها ، وأمور خفية رتبها ، تعجز عنها الجيوش المتخيرة المستكثرة ، والملوك المتجبرة{[55445]} المستكبرة - ما قدم من أنه كافي من توكل عليه ، وأقبل بكليته إليه ، وختم بصفة القدرة العامة الدائمة ، تحرر{[55446]} أنه قادر على كل ما يريده ، وأنه لو شاء أجرى مع وليه كنوز الأرض ، وأنه لا يجوز لأحد أن يراعي غيره ولا أن{[55447]} يرمق بوجه ما سواه ، وعلم أن من أقبل إلى هذا الدين فإنما نفع نفسه والفضل لصاحب الدين عليه ، ومن أعرض عنه{[55448]} فإنما وبال إعراضه على نفسه ، ولا ضرر على الدين بإعراض هذا المعرض ، كما أنه لا نفع له{[55449]} بإقبال ذلك{[55450]} المقبل ، وكان قد قضى سبحانه أن من انقطع إليه حماه من الدنيا إكراماً له ورفعاً لمنزلته عن خسيسها إلى نفيس ما عنده ، لأن كل أمرها إلى {[55451]}زوال وتلاش{[55452]} واضمحلال ، ولا يعلق{[55453]} همته بذلك إلا قاصر ضال ، فأخذ سبحانه يأمر أحب الخلق إليه ، وأعزهم منزلة لديه ، المعلوم امتثاله للأمر بالتوكل والإعراض عن كل ما سواه سبحانه{[55454]} وأنه لا يختار من الدنيا غير الكفاف ، والقناعة والعفاف ، بتخيير ألصق{[55455]} الناس به تأديباً لكافة الناس ، فقال على طريق الاستنتاج مما تقدم : { يا أيها النبي } ذاكراً صفة رفعته واتصاله به سبحانه والإعلام بأسرار القلوب ، وخفايا الغيوب ، المقتضية لأن يفرغ فكره لما يتلقاه من المعارف ، ولا يعاق{[55456]} عن شيء من ذلك بشيء من أذى : { قل لأزواجك } أي نسائك : { إن كنتن } أي كوناً راسخاً { تردن } أي اختياراً عليّ { الحياة } ووصفها بما يزهد فيها ذوي الهمم ويذكر من له عقل بالآخرة فقال : { الدنيا } أي ما{[55457]} فيها من السعة والرفاهية{[55458]} والنعمة { وزينتها } أي المنافية لما أمرني به{[55459]} ربي {[55460]}من الإعراض{[55461]} عنه واحتقاره من أمرها لأنها أبغض{[55462]} خلقه إليه ، لأنها قاطعة عنه { فتعالين } أصله أن الآمر يكون أعلى من المأمور ، فيدعوه أن يرفع نفسه إليه ثم كثر حتى صار معناه : أقبل ، وهو هنا كناية عن الإخبار والإراداة بعلاقة أن المخبر يدنو إلى من يخبره { أمتعكن } أي بما أحسن به{[55463]} إليكن { وأسرحكن } أي من حبالة عصمتي { سراحاً جميلاً * } أي ليس فيه مضارة ، ولا نوع حقد ولا مقاهرة
قوله تعالى : { أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً ( 28 ) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا }
ذكر أنن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد تأذى ببعض الزوجات ؛ إذ سألنه شيئا من عرض الدنيا . وقيل : زيادة في النفقة ، فأُمر النبي صلى الله عليه وسلم بتلاوة هذه الآية عليهنّ وتخييرهن بين الدنيا والآخرة .
فقد روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال : دخل أبو بكر يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم ، فأذن لأبي بكر فدخل ، ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له ، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا ، فقال : والله لأقولن شيئا أضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، لو رأيتُ بنتَ خارجة سألتني النفقةََ فقمتُ إليها فوجأتُ{[3726]} عنقها ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " " هن حولي كما ترى يسألنني النفقة " فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها ، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها . كلاهما يقول : تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده ! فقلن : والله لا نسأل الآن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا أبدا ليس عنده ، ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين يوما ، ثم نزلت هذه الآية { أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ } حتى بلغ { لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } قال : فبدأ بعائشة فقال : " يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب ألا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك " قالت : وما هو يا رسول الله ؟ فتلا عليها الآية فقالت : أفيك يا رسول الله أستشير أبوي ! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة ، وأسألك ألا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت . قال : " لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ، ولك بعثني معلما مُيَسرا " . {[3727]}
قوله : { قل لأزواجك } فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم زوجات قد دخل بهن ، وأولهن : خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب . وكانت قبله زوجة لأبي هالة وولدت منه هند بن أبي هالة . وكانت قبل أبي هالة زوجة لعتيق بن عائذ . ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة غيرها حتى ماتت وكانت يوم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أربعين سنة ، وكان لها حين توفيت خمس وستون سنة ، وهي أول امرأة آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع أولاده منها غير إبراهيم .
ثم سودة بنت زمعة العامرية أسلمت قديما وبايعت ، وكانت زوجة لابن عمها واسمه السكران بن عمرو وكلاهما هاجرًا إلى الحبشة فلما قدما مكة مات زوجها . وقيل : مات بالحبشة ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجر بها .
ثم عائشة بنت أبي بكر الصديق ، تزوجها رسول الله بمكة قبل الهجرة بسنتين وقيل بثلاث سنين وبقيت عنده تسع سنوات ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثمان عشرة سنة ولم يتزوج بكرا غيرها .
ثم حفصة بنت عمر بن الخطاب القرشية العدوية ، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلقها فأتاه جبريل فقال : إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوّامة قوّامة ، فراجعها ، توفيت في خلافة عثمان وهي ابنة ستين سنة .
ثم أم سلمة ، واسمها هند بنت أبي أمية المخزومية ، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أربع من الهجرة وكان ابنها عمر صغير . وقد قُبرت بالبقيع وهي ابنة أربع وثمانين سنة .
ثم أم حبيبة ، واسمها رملة بنت أبي سفيان ، كانت زوجة لعبيد الله بن جحش الذي مات بأرض الحبشة على النصرانية فزوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم وأمهرها عنه أربعة آلاف ، وبعث بها إليه مع شرحبيل بن حسنة .
ثم زينب بنت جحش الأسدية ، وكان اسمها بَرَّة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ، تزوجها النبي بالمدينة سنة خمس من الهجرة ، وتوفيت سنة عشرين وهي بنت ثلاث وخمسين .
ثم زينب بنت خذيمة بن الحارث الهلالية ، وكانت تسمى في الجاهلية أم المساكين ؛ لإطعامها إياهم . مكثت عند النبي ثمانية أشهر وتوفيت في حياته ودفنت بالبقيع .
ثم جويرية بنت الحارث المصطلقية أصابها في غزوة بني المصطلق فوقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبها ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها ، توفيت سنة ست وخمسين وهي ابنة خمس وستين .
ثم صفية بنت حيي بن أخطب أصابها النبي يوم خيبر واصطفاها لنفسه وأسلمت وأعتقها . وماتت سنة خمسين ودفنت بالبقيع .
ثم ريحانه بنت زيد بن عمرو من بني النَّضير أعتقها النبي وتزوجها في سنة ستٍّ وماتت وهو راجع من حجة الوداع فدفنها بالبقيع .
ثم ميمونة بنت الحارث الهلالية ، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسَرف على عشرة أميال من مكة سنة سبع من الهجرة ، وهي آخر امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم{[3728]}
قوله : { إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } المراد بالحياة الدنيا وزينتها ، ما فيها من السعة والنضارة ووجوه النعمة .
وذلك أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخيِّر نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره ممن تتحصل لهن عندهم البحبوحة والسعة ، وبين الصبر على ما عنده من ضيق العيش ورقة الحال ولهن عند الله في مقابل ذلك خير الجزاء . فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة . ويذلك اجتمع لهن في كنفِ رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الدنيا من حسن الذكر وطيب الثناء يوم القيامة ، وفي الآخرة ما أعده لهن من عظيم المنزلة في عليين بجوار خير زوج في العالمين . { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } أي أَقبِلن إليّ أعطكن متعة الطلاق . وهي واجبة للتي لم يُدخَل بها ولم يُفرض لها حين العقد صداق . أما سائر المطلقات فمتعتهن مستحبة . والمتعة للمرأة تقدر بدرع{[3729]} وخمار{[3730]} وملحفة{[3731]} وذلك على حسب السعة والإقتار ، وقد مضى تفصيل المتعة في سورة البقرة .
قوله : { وأسرّحكنّ } أي أطلقكن . وتسريح المرأة ، تطليقها . والاسم السراح ، بالفتح{[3732]}
قوله : { سراحا جميلا } أي طلاقا للسُّنة من غير ضِرار ولا منع لها من واجب . وقد اختلف العلماء في كيفية تخيير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه . وثمة قولان في ذلك . أحدهما : أنه خيرهن بإذن الله في البقاء على الزوجية أو الطلاق فاخترنَ البقاء وهو قول عائشة وآخرين .
ثانيها : أنه خيرهن بين الدنيا فيفارقهن ، وبين الآخرة فيمسكهن لتكون لهن المنزلة العليا ، ولكم يخيرهن في الطلاق . وهو قول الحسن وقتادة ، وهو مروي عن علي ( رضي الله عنه ) والقول الأول الراجح ؛ لما روته عائشة من خبر ثابت في الصحيحين قالت : " خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعدّه طلاقا " ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التخيير المأمور به بين البقاء والطلاق .
واختلف العلماء أيضا في المخيرة إذا اختارت زوجها هل يكون ذلك طلقة رجعية أو بائنة أو لا يلزم بذلك شيء ؟ فقد ذهب جمهور العلماء من السلف وغيرهم أنه لا يلزمه طلاق ، لا طلقة واحدة ولا أكثر . وقيل : إن اختارت زوجها فواحدة بائنة . وهو قول الحسن البصري والليث . وروي مثله عن مالك . واحتجوا بأن قوله لها : اختاري ، كناية عن إيقاع الطلاق فإذا ما أضافه إليها وقعت طلقة . والراجح القول الأول ؛ لما أخرجه الصحيحان عن عائشة قالت : " خيرنا رسول الله صلى اله عليه وسلم ، فاخترناه ، فلم يعد علينا طلاقا " قال ابن المنذر : وحديث عائشة يدل على أن المخيرة إذا اختارت زوجها لم يكن ذلك طلاقا .
واختلفوا في المخيرة إذا اختارت نفسها فهل ذلك طلقة رجعية أو بائنة ؟ فقد قيل : طلقة رجعية يملك زوجها رجعتها . وقد روي عن عمر وابن مسعود وابن عباس . وهو قول ابن أبي ليلى والثوري والشافعي .
وقيل : إذا اختارت نفسها فتلك طلقة واحدة بائنة . وهو قول الحنفية . وهي رواية عن مالك{[3733]} .