ثم أخبر تعالى عنهم ، أنهم جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن ، إناثا ، وجعلوها بنات الله ، وعبدوها معه ، فأخطؤوا خطأ كبيرًا ، في كل مقام من هذه المقامات الثلاث ، فنسبوا إليه تعالى أن له ولدا ، ولا ولد له ! ثم أعطوه أخس القسمين من الأولاد وهو البنات ، وهم لا يرضونها لأنفسهم ، كما قال : { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى } [ النجم : 21 ، 22 ] ، وقال هاهنا : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ } ، أي : عن قولهم وإفكهم ، { أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [ الصافات : 151 - 154 ] .
وقوله : { وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ } ، أي : يختارون لأنفسهم الذكور ، ويأنَفُون لأنفسهم من البنات التي نسبوها إلى الله ، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا ، فإنه { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا } ، أي : كئيبا من الهم ، { وَهُوَ كَظِيمٌ } ، ساكت من شدة ما هو فيه من الحزن .
الواو في قوله تعالى : { وإذا بشر أحدهم بالأنثى } يجوز أن تكون واو الحال .
ويجوز أن تكون الجملة معترضة والواو اعتراضية اقتضى الإطالة بها أنها من تفاريع شركهم ، فهي لذلك جديرة بأن تكون مقصودة بالذكر كأخواتها . وهذا أولى من أن تجعل معطوفة على جملة { ولهم ما يشتهون } [ سورة النحل : 57 ] التي هي في موضع الحال ، لأن ذلك يفيت قصدها بالعدّ . وهذا القصد من مقتضيات المقام وإن كان مآل الاعتبارين واحداً في حاصل المعنى .
والتّعبير عن الإعلام بازدياد الأنثى بفعل { بشر } في موضعين لأنه كذلك في نفس الأمر إذ ازدياد المولود نعمة على الوالد لما يترقّبه من التأنّس به ومزاحِه والانتفاع بخدمته وإعانته عند الاحتياج إليه ، ولما فيه من تكثير نسل القبيلة الموجب عزّتها ، وآصرة الصهر . ثم إن هذا مع كونه بشارة في نفس الأمر فالتّعبير به يفيد تعريضاً بالتهكّم بهم إذ يعُدون البشارة مُصيبة وذلك من تحريفهم الحقائق . والتّعريض من أقسام الكناية والكناية تجامع الحقيقة .
والباء في { بالأنثى } لتعدية فعل البشارة وعلّقت بذات الأنثى . والمراد ؛ بولادتها ، فهو على حذف مضاف معلوم .
وفعل { ظل } من أفعال الكون أخوات كان التي تدلّ على اتّصاف فاعلها بحالة لازمة فلذلك تقتضي فاعلاً مرفوعاً يدعى اسماً وحالاً لازماً له منصوباً يدعى خبراً لأنه شبيه بخبر المبتدإ . وسمّاها النّحاة لذلك نواسخ لأنها تعمل فيما لولاها لكان مبتدأً وخبراً فلما تغيّر معها حكم الخبر سمّيت ناسخة لرفعه ، كما سميت ( إنّ ) وأخواتها و ( ظنّ ) وأخواتها كذلك . وهو اصطلاح تقريبي وليس برشيق .
ويستعمل { ظَلّ } بمعنى صار . وهو المراد هنا .
واسوداد الوجه : مستعمل في لون وجه الكئيب إذ ترهقه غبرة ، فشبّهت بالسّواد مبالغة .
والكظيم : الغضبان المملوء حنقاً . وتقدم في قوله تعالى : { فهو كظيم } في سورة يوسف ( 84 ) ، أي أصبح حنقاً على امرأته . وهذا من جاهليتهم الجهلاء وظلمهم ، إذ يعاملون المرأة معاملة من لو كانت ولادة الذكور باختيارها ، ولماذا لا يحنق على نفسه إذ يلقح امرأته بأنثى ، قالت إحدى نسائهم أنشده الأصمعي تذكر بعلها وقد هجرها لأنها تلد البنات :
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عنهم، فقال سبحانه: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى}، فقيل له: ولدت لك ابنة،
{ظل وجهه مسودا}، يعني: متغيرا،
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَإذَا بُشّرَ أحَدُهُمْ بالأُنثَى ظَلّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ..." يقول: يجعلون لله البنات، ترضونهنّ لي ولا ترضونهنّ لأنفسكم، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا وُلد للرجل منهم جارية أمسكها على هون، أو دسها في التراب وهي حية...
عن قتادة، قوله: "وَإذَا بُشّرَ أحَدهُمْ بالأُنْثى ظَلّ وَجْهَهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ" وهذا صنيع مشركي العرب، أخبرهم الله تعالى ذكره بخبث صنيعهم فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله له، وقضاء الله خير من قضاء المرء لنفسه، ولعمري ما يدري أنه خير، لرُبّ جارية خير لأهلها من غلام. وإنما أخبركم الله بصنيعهم لتجتنبوه وتنتهوا عنه، وكان أحدهم يغذو كلبه ويئد ابنته...
قال ابن عباس: "وَهُوَ كَظِيمٌ" قال: حزين...
عن الضحاك، في قوله: "وَهُوَ كَظِيمٌ" قال: الكظيم: الكميد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعضهم: قول العرب: قبح الله وجهك، و: سود الله وجهك، ليس على إرادة السواد والقبح، ولكن على إرادة ما يكرهون... وقال الحسن: قوله: {ظل وجهه مسودا}، أي: متغيرا من الغم.
{وهو كظيم}، أي: حزين، وهكذا العرف في الناس، أنه إذا اشتد بهم الحزن والغم يظهر ذلك في وجوههم قبحا وسوادا...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
: {وإذا بشر}، لما صرح بالشيء المبشر به، حسن ذكر البشارة فيه، وإلا فالبشارة مطلقة لا تكون إلا في خير،
{ظل وجهه مسوداً}، عبارة عن العبوس والتقطيب الذي يلحق المغموم، وقد يعلو وجه المغموم سواد وربدة، وتذهب شراقته، فلذلك يذكر له السواد، و {كظيم} بمعنى كاظم، كعليم وعالم، والمعنى: أنه يخفي وجده وهمه بالأنثى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم بين حالهم إذا حصل لهم نوع ما جعلوه له سبحانه، فقال تعالى: {وإذا} أي: جعلوا كذا، والحال أنه إذا {بشر أحدهم}، ولما تعين المراد وزال المحذور، جمع بين الخساستين، كما بين آخر الصافات فقال تعالى: {بالأنثى}، أي: قابل هذه البشرى التي تستحق السرور بحصول نسمة تكون سبباً لزيادة هذا النوع، وقد تكون سبب سعادته، دالة على عظمة الله -بضد ما تستحق مما لا يفيده شيئاً، بأن {ظل وجهه}، وكنى عن العبوس والتكدر والغبرة بما يفوز فيه من الغيظ بقوله تعالى: {مسوداً}، أي: من الغم والكراهة، ولعله اختير لفظ "ظل "الذي معناه العمل نهاراً، وإن كان المراد العموم في النهار وغيره، دلالة على شهرة هذا الوصف شهرة ما يشاهد نهاراً. {وهو كظيم}، ممتلئ غيظاً على المرأة، ولا ذنب لها بوجه، والبشارة في أصل اللغة: الخبر الذي يغير البشرة من حزن أو سرور، ثم خص في عرف اللغة بالسرور، ولا تكون إلا بالخبر الأول، ولعله عبر عنه بهذا اللفظ تنبيهاً على تعكيسهم للأمور في جعلهم وسرورهم وحزنهم، وغير ذلك من أمرهم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الواو في قوله تعالى: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى} يجوز أن تكون واو الحال.
ويجوز أن تكون الجملة معترضة والواو اعتراضية اقتضى الإطالة بها أنها من تفاريع شركهم، فهي لذلك جديرة بأن تكون مقصودة بالذكر كأخواتها. وهذا أولى من أن تجعل معطوفة على جملة {ولهم ما يشتهون} [سورة النحل: 57] التي هي في موضع الحال، لأن ذلك يفيت قصدها بالعدّ. وهذا القصد من مقتضيات المقام وإن كان مآل الاعتبارين واحداً في حاصل المعنى.
والتّعبير عن الإعلام بازدياد الأنثى بفعل {بشر} في موضعين لأنه كذلك في نفس الأمر إذ ازدياد المولود نعمة على الوالد لما يترقّبه من التأنّس به ومزاحِه والانتفاع بخدمته وإعانته عند الاحتياج إليه، ولما فيه من تكثير نسل القبيلة الموجب عزّتها، وآصرة الصهر. ثم إن هذا مع كونه بشارة في نفس الأمر فالتّعبير به يفيد تعريضاً بالتهكّم بهم إذ يعُدون البشارة مُصيبة وذلك من تحريفهم الحقائق. والتّعريض من أقسام الكناية والكناية تجامع الحقيقة.
والباء في {بالأنثى} لتعدية فعل البشارة وعلّقت بذات الأنثى. والمراد؛ بولادتها، فهو على حذف مضاف معلوم.
وفعل {ظل} من أفعال الكون أخوات كان التي تدلّ على اتّصاف فاعلها بحالة لازمة فلذلك تقتضي فاعلاً مرفوعاً يدعى اسماً وحالاً لازماً له منصوباً يدعى خبراً لأنه شبيه بخبر المبتدأ. وسمّاها النّحاة لذلك نواسخ لأنها تعمل فيما لولاها لكان مبتدأً وخبراً فلما تغيّر معها حكم الخبر سمّيت ناسخة لرفعه، كما سميت (إنّ) وأخواتها و (ظنّ) وأخواتها كذلك. وهو اصطلاح تقريبي وليس برشيق.
ويستعمل {ظَلّ} بمعنى صار، وهو المراد هنا.
واسوداد الوجه: مستعمل في لون وجه الكئيب إذ ترهقه غبرة، فشبّهت بالسّواد مبالغة.
والكظيم: الغضبان المملوء حنقاً. وتقدم في قوله تعالى: {فهو كظيم} في سورة يوسف (84)، أي أصبح حنقاً على امرأته. وهذا من جاهليتهم الجهلاء وظلمهم، إذ يعاملون المرأة معاملة من لو كانت ولادة الذكور باختيارها، ولماذا لا يحنق على نفسه إذ يلقح امرأته بأنثى، قالت إحدى نسائهم أنشده الأصمعي تذكر بعلها وقد هجرها لأنها تلد البنات: