{ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا } أي : حتى إذا وردوا على النار ، وأرادوا الإنكار ، أو أنكروا ما عملوه من المعاصي ، { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ } عموم بعد خصوص . [ { بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ] أي : شهد عليهم كل عضو من أعضائهم ، فكل عضو يقول : أنا فعلت كذا وكذا ، يوم كذا وكذا . وخص هذه الأعضاء الثلاثة ، لأن أكثر الذنوب ، إنما تقع بها ، أو بسببها .
وقوله : { حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا } أي : وقفوا عليها ، { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } {[25658]} أي : بأعمالهم مما قدموه وأخروه ، لا يُكْتَم منه حرف .
و{ حتى } ابتدائية وهي مفيدة لمعنى الغاية فهي حرف انتهاء في المعنى وحرف ابتداء في اللفظ ، أي أن ما بعدها جملة مستأنفة . و { إذا } ظرف للمستقبل متضمن معنى الشرط وهو متعلق بجوابه ، و { ما } زائدة للتوكيد بعد { إذَا } تفيد توكيد معنى { إذَا } من الارتباط بالفعل الذي بعد { إذا } سواء كانت شرطية كما في هذه الآية أم كانت لمجرد الظرفية كقوله تعالى : { وإذا ما غضبوا هم يغفرون } [ الشورى : 37 ] . ويظهر أن ورود { مَا } بعد { إذا } يقوّي معنى الشرط في { إذا } ، ولعلهُ يكون معنى الشرط حينئذٍ نصاً احتمالاً . وضمير المؤنث الغائب في { جَاءُوهَا } عائد إلى { النَّارِ } ، أي إذا وصلوا إلى جهنم .
وجملة { شَهِدَ عَلَيهِم سَمْعُهُم وأبصارهم } الخ يقتضي كلام المفسرين أنها جواب { إذا } ، فاقتضى الارتباط بين شرطها وجوابها وتعليقها بفعل الجواب . واستشعروا أن الشهادة عليهم تكون قبل أن يوجهوا إلى النار ، فقدَّروا فِعلاً محذوفاً تقديره : وسُئلوا عما كانوا يفعلون فأنكروا فشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم ، يعني : سألهم خزنة النار .
وأحسنُ من ذلك أن نقول : إن جواب { إذا } محذوف للتهويل وحذف مثله كثير في القرآن ، ويكون جملة { شَهِدَ عَلَيهِم سَمْعُهُم } إلى آخرها مستأنفة استئنافاً بيانياً نشأ عن مفاد { حتى } من الغاية لأن السائل يتطلب ماذا حصل بين حشرهم إلى النار وبين حضورهم عند النار فأجيب بأنه { شَهِدَ عَلَيهِم سَمْعُهُم وأبصارهم وَجُلُودُهُم } إلى قوله : { الَّذِي أنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } ويتضمن ذلك أنهم حوسبوا على أعمالهم وأنكروها فشهدت عليهم جوارحهم وأجسادهم . أو أن يكون جواب { إذا } قوله : { فَإِن يَصْبِرُوا فالنَّارُ مَثْوَىً لَهُم } [ فصلت : 24 ] الخ .
وجملة { شَهِدَ عَلَيهِم سَمْعُهُم وأبصارهم } وما عطف عليها معترضة بين الشرط وجوابه . وشهادة جوارحهم وجلودهم عليهم : شهادة تكذيب وافتضاح لأن كون ذلك شهادة يقتضي أنهم لما رأوا النار اعتذروا بإنكار بعض ذنوبهم طمعاً في تخفيف العذاب وإلا فقد علم الله ما كانوا يصنعون وشهدت به الحفظة وقرىء عليهم كتابُهم ، وما أُحضروا للنار إلا وقد تحققت إدانتهم ، فما كانت شهادة جوارحهم إلا زيادة خزي لهم وتحسيراً وتنديماً على سوء اعتقادهم في سعة علم الله .
وتخصيص السمع والأبصار والجلود بالشهادة على هؤلاء دون بقية الجوارح لأن للسمع اختصاصاً بتلقي دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وتلقي آيات القرآن ، فسمعهم يشهد عليهم بأنهم كانوا يصرفونه عن سماع ذلك كما حكى الله عنهم بقوله : { وَفِي ءَاذَانِنَا وَقْرٌ } [ فصلت : 5 ] ، ولأن للأبصار اختصاصاً بمشاهدة دلائل المصنوعات الدالة على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير فذلك دليل وحدانيته في إلهيته ، وشهادة الجلود لأن الجلد يحوي جميع الجسد لتكون شهادة الجلود عليهم شهادة على أنفسها فيظهر استحقاقها للحرق بالنار لبقية الأجساد دون اقتصار على حرق موضع السمع والبصر .
ولذلك اقتصروا في توجيه الملامة على جلودهم لأنها حاوية لجميع الحواس والجوارح ، وبهذا يظهر وجه الاقتصار على شهادة السمع والأبصار والجلود هنا بخلاف آية سورة النور ( 24 ) { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } ، لأن آية النور تصف الذين يرمون المحصنات وهم الذين اختلقوا تهمة الإِفك ومشَوا في المجامع يُشيعونها بين الناس ويشيرون بأيديهم إلى من اتهموه إفكاً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{حتى إذا ما جاءوها} يعني النار وعاينوها، قيل لهم: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون في الدنيا؟ قالوا عند ذلك: {والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام:23] فختم الله على أفواههم، وأوحى إلى الجوارح فنطقت بما كتمت الألسن من الشرك، فذلك قوله: {شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم} وأيديهم وأرجلهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"حتى إذَا ما جاؤوها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وأبْصَارُهُمْ" يقول: حتى إذا ما جاؤوا النار، شهد عليهم سمعهم بما كانوا يصغون به في الدنيا إليه، ويستمعون له، وأبصارهم بما كانوا يبصرون به وينظرون إليه في الدنيا "وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ".
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: (ما) في قوله: {حتى إِذَا مَا جَاءوهَا} ما هي؟ قلت: مزيدة للتأكيد، ومعنى التأكيد فيها: أنّ وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم، ولا وجه لأن يخلو منها، ومثله قوله تعالى: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءامَنْتُمْ بِهِ} [يونس: 51] أي: لا بدّ لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به شهادة الجلود بالملامسة للحرام، وما أشبه ذلك مما يفضي إليها من المحرّمات.
فإن قلت: كيف تشهد عليهم أعضاؤهم وكيف تنطق؟ قلت: الله عزّ وجلّ ينطقها كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلاماً.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{حتى} غاية لهذا الحشر المذكور، وهذا وصف حال من أحوالهم في بعض أوقات القيامة، وذلك عند وصولهم إلى جهنم فإن الله تعالى يستقرهم عند ذلك على أنفسهم ويسألون سؤال توبيخ عن كفرهم فينكرون ذلك ويحسبون أن لا شاهد عليهم، ويظنون السؤال سؤال استفهام واستخبار، فينطق الله تعالى جوارحهم بالشهادة عليهم.
ما رأيت للمفسرين في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر سببا وفائدة، وأقول لا شك أن الحواس خمسة السمع والبصر والشم والذوق واللمس، ولا شك أن آلة اللمس هي الجلد، فالله تعالى ذكر هاهنا من الحواس وهي السمع والبصر واللمس، وأهمل ذكر نوعين وهما الذوق والشم، لأن الذوق داخل في اللمس من بعض الوجوه، لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان والحنك مماسة لجرم الطعام، فكان هذا داخلا فيه فبقي حس الشم وهو حس ضعيف في الإنسان، وليس لله فيه تكليف ولا أمر ولا نهي.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بين إهانتهم بالوزع، بين غايتها فقال: {حتى إذا} وأكد الكلام لإنكارهم مضمونه بزيادة النافي ليكون اجتماعه مع الإثبات نفياً للضد فيفيد غاية القوة بمضمون الخبر في تحقيقه وثباته واتصاله بالشهادة على الفور فقال: {ما جاؤوها} أي النار التي كانوا بها يكذبون.
{شهد عليهم} حين التكوير فيها مركومين بعضهم على بعض.
ولما كان في مقام الترهيب، وكان التفصيل أهول قال: {سمعهم} أفرده لتقارب الناس فيه.
{وأبصارهم} جمع لعظم التفاوت فيها.
{وجلودهم بما} وأثبت الكون بياناً؛ لأنهم كانوا مطبوعين على ما أوجب لهم النار من الأوزار فقال {كانوا يعملون} أي يجددون عمله مستمرين عليه، فكأن هذه الأعضاء تقول في ذلك الحين إقامة للحجة البالغة: أيها الأكوان والحاضرون من الإنس والملائكة والجان، اعلموا أن صاحبي كان يعمل بي كذا وكذا مع الإصرار، فاستحق بذلك النار، وغضب الجبار -ثم يقذف به.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الآن وقد كشف لهم عن سلطان الله في فطرة الكون؛ وسلطان الله في تاريخ البشر، يطلعهم على سلطان الله في ذوات أنفسهم، التي لا يملكون منها شيئاً، ولا يعصمون منها شيئاً من سلطان الله، حتى سمعهم وأبصارهم وجلودهم تطيع الله وتعصيهم في الموقف المشهود، وتكون عليهم بعض الشهود...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
شهادة جوارحهم وجلودهم عليهم: شهادة تكذيب وافتضاح؛ لأن كون ذلك شهادة يقتضي أنهم لما رأوا النار اعتذروا بإنكار بعض ذنوبهم طمعاً في تخفيف العذاب، وإلا فقد علم الله ما كانوا يصنعون وشهدت به الحفظة وقرىء عليهم كتابُهم، وما أُحضروا للنار إلا وقد تحققت إدانتهم، فما كانت شهادة جوارحهم إلا زيادة خزي لهم وتحسيراً وتنديماً على سوء اعتقادهم في سعة علم الله. وتخصيص السمع والأبصار والجلود بالشهادة على هؤلاء دون بقية الجوارح؛ لأن للسمع اختصاصاً بتلقي دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وتلقي آيات القرآن، فسمعهم يشهد عليهم بأنهم كانوا يصرفونه عن سماع ذلك كما حكى الله عنهم بقوله: {وَفِي ءَاذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5]؛ ولأن للأبصار اختصاصاً بمشاهدة دلائل المصنوعات الدالة على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير فذلك دليل وحدانيته في إلهيته، وشهادة الجلود لأن الجلد يحوي جميع الجسد لتكون شهادة الجلود عليهم شهادة على أنفسها فيظهر استحقاقها للحرق بالنار لبقية الأجساد دون اقتصار على حرق موضع السمع والبصر؛ ولذلك اقتصروا في توجيه الملامة على جلودهم لأنها حاوية لجميع الحواس والجوارح، وبهذا يظهر وجه الاقتصار على شهادة السمع والأبصار والجلود هنا بخلاف آية سورة النور (24) {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون}، لأن آية النور تصف الذين يرمون المحصنات وهم الذين اختلقوا تهمة الإِفك ومشَوا في المجامع يُشيعونها بين الناس ويشيرون بأيديهم إلى من اتهموه إفكاً.