وقوله : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ، كقوله : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } [ الفرقان : 2 ] وكقوله : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى . الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى . وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [ الأعلى : 1 - 3 ] أي : قدر قدرا ، وهدى الخلائق إليه ، ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمةُ السنة على إثبات قَدَر الله السابق لخلقه ، وهو علمه الأشياء قبل كونها وكتابته لها قبل برئها ، وردّوا بهذه الآية وبما {[27800]} شاكلها من الآيات ، وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات على الفرْقة القَدرية الذين نبغوا {[27801]} في أواخر عصر الصحابة . وقد تكلمنا على هذا المقام مفصلا وما ورد فيه من الأحاديث في شرح " كتاب الإيمان " من " صحيح البخاري " رحمه الله ، ولنذكر هاهنا الأحاديث المتعلقة بهذه الآية الكريمة :
قال أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان الثوري ، عن زياد بن إسماعيل السهمي ، عن محمد بن عباد بن جعفر ، عن أبي هُرَيرَة قال : جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر ، فنزلت : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ . إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } .
وهكذا رواه مسلم والترمذي وابن ماجه ، من حديث وكيع ، عن سفيان الثوري ، به {[27802]} .
وقال البزار : حدثنا عمرو بن على ، حدثنا الضحاك بن مَخْلَد ، حدثنا يونس بن الحارث ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : ما نزلت هذه الآيات : { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ . يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ . إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ، إلا في أهل القدر{[27803]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سهل{[27804]} بن صالح الأنطاكي ، حدثني قُرَّة بن حبيب ، عن كنانة حدثنا جرير بن حازم ، عن سعيد بن عمرو بن جَعْدَةَ ، عن ابن زُرَارة ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية : { ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ . إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ، قال : " نزلت في أناس من أمتي يكونون في آخر الزمان يكذبون بقدر الله " {[27805]} .
وحدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا مَرْوان بن شجاع الجزَري ، عن عبد الملك بن جُرَيْج ، عن عطاء بن أبي رَبَاح ، قال : أتيت ابن عباس وهو يَنزع من زمزم ، وقد ابتلّت أسافل ثيابه ، فقلت له : قد تُكُلّم في القدر . فقال : أو [ قد ] {[27806]} فعلوها ؟ قلت : نعم . قال : فوالله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم : { ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ . إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ، أولئك شرار هذه الأمة ، فلا تعودوا مرضاهم ولا تُصَلّوا على موتاهم ، إن رأيت أحدا منهم فقأت عينيه بأصبعيّ هاتين .
وقد رواه الإمام أحمد من وجه آخر ، وفيه مرفوع ، فقال :
حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا الأوزاعي ، عن بعض إخوته ، عن محمد بن عُبَيد المكي ، عن عبد الله بن عباس ، قال : قيل له : إن رجلا قدم علينا يُكَذّب بالقدر فقال : دلوني عليه - وهو أعمى - قالوا : وما تصنع به يا أبا عباس قال : والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لأعضَّنّ أنفه حتى أقطعه ، ولئن وقعت رقبته في يدي لأدقنها ، فإني{[27807]} سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كأني بنساء بني فِهْر يَطُفْنَ بالخزرج ، تصطفق ألياتهن مشركات ، هذا أول شرك هذه الأمة ، والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قَدّر خيرا ، كما أخرجوه من أن يكون قدر شرا " {[27808]} .
ثم رواه أحمد عن أبي المغيرة ، عن الأوزاعي ، عن العلاء بن الحجاج ، عن محمد بن عبيد ، فذكر مثله{[27809]} . لم يخرجوه .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثني أبو صخر ، عن نافع قال : كان لابن عمر صديق من أهل الشام يكاتبه{[27810]} ، فكتب إليه عبد الله بن عمر : إنه بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر ، فإياك أن تكتب إليّ ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر " .
رواه أبو داود ، عن أحمد بن حنبل ، به{[27811]} .
وقال أحمد : حدثنا أنس بن عياض ، حدثنا عمر بن عبد الله مولى غُفْرَة ، عن عبد الله بن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لكل أمة مجوس ، ومجوس أمتي الذين يقولون : لا قدر . إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم " {[27812]} .
لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه .
وقال أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا رِشْدِين ، عن أبي صخر حُمَيد بن زياد ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " سيكون في هذه الأمة مسخ ، ألا وذاك في المكذبين بالقدر والزنديقية " .
ورواه الترمذي وابن ماجه ، من حديث أبي صخر حميد بن زياد ، به {[27813]} . وقال الترمذي : حسن صحيح غريب .
وقال أحمد : حدثنا إسحاق بن الطباع ، أخبرني مالك ، عن زياد بن سعد ، عن عمرو بن مسلم ، عن طاوس اليماني قال : سمعت ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل شيء بقدرن حتى العجز والكيس " .
ورواه مسلم منفردا به ، من حديث مالك {[27814]} {[27815]} .
وفي الحديث الصحيح : " استعن بالله ولا تعجز ، فإن أصابك أمر فقل : قَدَّرُ الله وما شاء فعل ، ولا تقل : لو أني فعلت لكان كذا ، فإن لو تفتح عمل الشيطان " {[27816]} .
وفي حديث ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء ، لم يكتبه الله لك ، لم ينفعوك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يكتبه الله عليك ، لم يضروك . جفّت الأقلام وطويت الصحف " {[27817]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن سَوَّار ، حدثنا الليث{[27818]} ، عن معاوية ، عن أيوب بن زياد ، حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة ، حدثني أبي قال : دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت ، فقلت : يا أبتاه ، أوصني واجتهد لي . فقال : أجلسوني . فلما أجلسوه قال : يا بني ، إنك لما تطعم طعم الإيمان ، ولم تبلغ حق حقيقة العلم بالله ، حتى تؤمن بالقدر خيره وشره . قلت : يا أبتاه ، وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره ؟ قال : تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك . يا بني ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أول ما خلق الله القلم . ثم قال له : اكتب . فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة " يا بني ، إن متَّ ولستَ على ذلك دخلت النار{[27819]} .
ورواه الترمذي عن يحيى بن موسى البَلْخِي ، عن أبي داود الطيالسي ، عن عبد الواحد بن سليم ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن الوليد بن عبادة ، عن أبيه ، به . وقال : حسن صحيح غريب{[27820]} .
وقال سفيان الثوري ، عن منصور ، عن رِبْعِي بن خِرَاش ، عن رجل ، عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، بعثني بالحق ، ويؤمن بالموت ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر خيره وشره " .
وكذا رواه الترمذي من حديث النضر بن شُمَيْل ، عن شعبة ، عن منصور ، به {[27821]} . ورواه من حديث أبي داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن {[27822]} منصور ، عن ربعي ، عن علي ، فذكره وقال : " هذا عندي أصح " . وكذا رواه ابن ماجه من حديث شريك ، عن منصور ، عن ربعي ، عن علي ، به {[27823]} .
وقد ثبت في صحيح مسلم من رواية عبد الله بن وهب وغيره ، عن أبي{[27824]} هانئ الخولاني ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة " زاد ابن وهب : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } [ هود : 7 ] . ورواه الترمذي وقال : حسن صحيح غريب{[27825]} .
واختلف الناس في قوله تعالى : { إنا كل شيء خلقناه بقدر } ، فقرأ جمهور الناس : «إنا كلَّ » بالنصب ، والمعنى : خلقنا كل شيء خلقناه بقدر ، وليست { خلقناه } في موضع الصفة لشيء ، بل هو فعل دال على الفعل المضمر ، وهذا المعنى يقتضي أن كل شيء مخلوق ، إلا ما قام دليل العقل على أنه ليس بمخلوق كالقرآن والصفات . وقرأ أبو السمال ورجحه أبو الفتح : «إنا كلُّ » بالرفع على الابتداء ، والخبر : { خلقناه بقدر } .
قال أبو حاتم : " هذا هو الوجه في العربية ، وقراءتنا بالنصب مع الجماعة " {[10790]} ، وقرأها قوم من أهل السنة بالرفع ، والمعنى عندهم على نحو ما عند الأولى أن كل شيء فهو مخلوق بقدر سابق ، و : { خلقناه } على هذا ليست صفة لشيء ، وهذا مذهب أهل السنة ، ولهم احتجاج قوي بالآية على هذين القولين{[10791]} ، وقالت القدرية وهم الذين يقولون : لا قدر ، والمرء فاعل وحده أفعاله-{[10792]} . القراءة «إنا كلُّ شيء خلقناه » برفع «كلُّ » : و { خلقناه } في موضع الصفة ب «كلَّ » ، أي أن أمرنا وشأننا كلُّ شيء خلقناه فهو بقدر وعلى حد ما في هيئته وزمنه وغير ذلك ، فيزيلون بهذا التأويل موضع الحجة عليهم بالآية .
وقال ابن عباس : إني أجد في كتاب الله قوماً يسحبون في النار على وجوههم لأنهم كانوا يكذبون بالقدر ، ويقولون : المرء يخلق أفعاله ، وإني لا أراهم ، فلا أدري أشيء مضى قبلنا أم شيء بقي ؟ .
وقال أبو هريرة : خاصمت قريش رسول الله في القدر فنزلت هذه الآية{[10793]} ، قال أبو عبد الرحمن السلمي : فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل ؟ أفي شيء نستأنفه ؟ أم في شيء قد فرغ منه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اعملوا ، فكل ميسر لما خلق له ، سنيسره لليسرى وسنيسره للعسرى »{[10794]} ، وقال أنس بن مالك : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «القدرية يقولون الخير والشر بأيدينا ، ليس لهم في شفاعتي نصيب ولا أنا منهم ولا هم مني »{[10795]} .