{ 61 - 64 ْ } { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ْ }
يقول تعالى : { وَإِنْ جَنَحُوا ْ } أي : الكفار المحاربون ، أي : مالوا { لِلسَّلْمِ ْ } أي : الصلح وترك القتال .
{ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ْ } أي : أجبهم إلى ما طلبوا متوكلا على ربك ، فإن في ذلك فوائد كثيرة .
منها : أن طلب العافية مطلوب كل وقت ، فإذا كانوا هم المبتدئين في ذلك ، كان أولى لإجابتهم .
ومنها : أن في ذلك إجماما لقواكم ، واستعدادا منكم لقتالهم في وقت آخر ، إن احتيج لذلك .
ومنها : أنكم إذا أصلحتم وأمن بعضكم بعضا ، وتمكن كل من معرفة ما عليه الآخر ، فإن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ، . فكل من له عقل وبصيرة إذا كان معه إنصاف فلا بد أن يؤثره على غيره من الأديان ، لحسنه في أوامره ونواهيه ، وحسنه في معاملته للخلق والعدل فيهم ، وأنه لا جور فيه ولا ظلم بوجه ، فحينئذ يكثر الراغبون فيه والمتبعون له ، . فصار هذا السلم عونا للمسلمين على الكافرين .
يقول تعالى : إذا خفت من قوم خيانة فانبذ إليهم عهدهم على سواء ، فإن استمروا على حربك ومنابذتك فقاتلهم ، { وَإِنْ جَنَحُوا } أي : مالوا { لِلسَّلْمِ } أي : المسالمة والمصالحة والمهادنة ، { فَاجْنَحْ لَهَا } أي : فمل إليها ، واقبل منهم ذلك ؛ ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين ؛ أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأخر .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا فضيل بن سليمان - يعني : النميري - حدثنا محمد بن أبي يحيى ، عن إياس بن عمرو الأسلمي ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه سيكون بعدى اختلاف - أو : أمر - فإن استطعت أن يكون السلم ، فافعل " {[13126]}
وقال مجاهد : نزلت في بني قريظة .
وهذا فيه نظر ؛ لأن السياق كله في وقعة بدر ، وذكرها مكتنف لهذا كله .
وقول ابن عباس ، ومجاهد ، وزيد بن أسلم ، وعطاء الخراساني ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة : إن هذه الآية منسوخة بآية السيف في " براءة " : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ } الآية [ التوبة : 29 ] فيه نظر أيضًا ؛ لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك ، فأما إذا كان العدو كثيفًا ، فإنه تجوز مهادنتهم ، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص ، والله أعلم .
وقوله : { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } أي : صالحهم وتوكل على الله ، فإن الله كافيك وناصرك ،
{ وإن جنحوا } مالوا ومنه الجناح . وقد يعدى باللام وإلى { للسّلم } للصلح أو الاستسلام . وقرأ أبو بكر بالكسر . { فاجنح لها } وعاهد معهم وتأنيث الضمير لحمل السلم على نقيضها فيه . قال :
السِّلم تأخذ منها ما رضيت به *** والحرب يكفيك من أنفاسها جرعُ
وقرئ " فاجنح " بالضم . { وتوكل على الله } ولا تخف من إبطانهم خداعا فيه ، فإن الله يعصمك من مكرهم ويحيقه بهم . { إنه هو السميع } لأقوالهم . { العليم } بنياتهم . والآية مخصوصة بأهل الكتاب لاتصالها بقصتهم وقيل عامة نسختها آية السيف .
وقوله تعالى : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } الآية ، الضمير في { جنحوا } هو للذين نبذ إليهم على سواء ، وجنح الرجل إلى الأمر إذا مال إليه وأعطى يده فيه ، ومنه قيل للأضلاع جوانح لأنها مالت على الحشوة{[5450]} وللخباء جناح وجنحت الإبل إذا مالت أعناقها في السير وقال ذو الرمة :
إذا مات فوق الرحل أحييت روحه*** بذكراك والعيس المراسيل جنح{[5451]}
وجنح الليل إذا أقبل وأمال أطنابه{[5452]} على الأرض ومنه قول النابغة : [ الطويل ]
جوانح قد أيقنَّ أن قبيله*** إذا ما التقى الجمعان أول غالب{[5453]}
أي موائل ، وقال لبيد : [ الوافر ]
جنوح الهالكيِّ على يديه*** مكبّاً يجتلي نُقَبَ النصال{[5454]}
وقرأ جمهور الناس «للسَّلم » بفتح السين وشدها وقرأ عاصم في رواية بكر «للسِّلم » بكسرها وشدها هما لغتان في المسالمة ، ويقال أيضاً «السَّلَم » بفتح السين واللام ولا أحفظها قراءة ، وقرأ جمهور الناس «فاجنَح » بفتح النون وهي لغة تميم ، وقرأ الأشهب العقيلي «فاجنُح » وهي لغة قيس بضم النون ، قال أبو الفتح وهذه القراءة هي القياس ، لأن فعل إذا كان غير متعد فمستقبله{[5455]} يفعل بضم العين أقيس قعد يقعد أقيس من جلس يجلس ، وعاد الضمير في { لها } مؤنثاً إذ السلم بمعنى المسالمة والهدنة ، وقيل السلم مؤنثة كالحرب ذكره النحاس ، وقال أبو حاتم يذكر السلم ، وقال قتادة والحسن بن أبي الحسن وعكرمة وابن زيد : هذه الآية منسوخة بآيات القتال في براءة{[5456]} .
قال القاضي أبو محمد : وقد يحتمل ألا يترتب نسخها بأن يعني بهذه من تجوز مصالحته وتبقى تلك في براءة في عبدة الأوثان وإلى هذا ذهب الطبري وما قالته الجماعة صحيح أيضاً إذا كان الجنوح إلى سلم العرب مستقراً في صدر الإسلام فنسخت ذلك آية براءة ونبذت إليهم عهودهم ، وروي عن ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى : { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون }{[5457]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول بعيد من أن يقوله ابن عباس رضي الله عنه ، لأن الآيتين مبينتان ، وقوله { وتوكل على الله } أمر في ضمنه وعد .
انتقال من بيان أحوال معاملة العدوّ في الحرب : من وفائهم بالعهد ، وخيانتهم ، وكيف يحلّ المسلمون العهد معهم إن خافوا خيانتهم ، ومعاملتهم إذا ظفروا بالخائنين ، والأمر بالاستعداد لهم ؛ إلى بيان أحكام السلم إن طلبوا السلم والمهادنة ، وكفّوا عن حالة الحرب . فأمر الله المسلمين بأن لا يأنفوا من السلم وأن يوافقوا من سأله منهم .
والجنوح : المَيْل ، وهو مشتقّ من جناح الطائِر : لأنّ الطائِر إذا أراد النزول مال بأحد جناحيه ، وهو جناح جانبه الذي ينزل منه ، قال النابغة يصف الطير تتبع الجيش :
قد أيقنَّ أنّ قبيلَه *** إذا ما التقى الجمعان أوَّلُ غالب
فمعنى { وإن جنحوا للسلم } إن مالوا إلى السلم ميل القاصد إليه ، كما يميل الطائِر الجانح . وإنّما لم يقل : وإن طلبوا السلم فأجبهم إليهم ، للتنبيه على أنّه لا يسعفهم إلى السلم حتى يعلم أن حالهم حال الراغب ، لأنّهم قد يظهرون الميل إلى السلم كيداً ، فهذا مقابل قوله : { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء } [ الأنفال : 58 ] فإن نبذ العهد نبذ لحال السلم .
واللام في قوله : { للسلم } واقعة موقع ( إلى ) لتقوية التنبيه على أنّ ميلهم إلى السلم ميل حق ، أي : وإن مالوا لأجل السلم ورغبة فيه لا لغرض آخر غيره ، لأنّ حقّ { جَنح } أن يعدّى ب ( إلى ) لأنّه بمعنى مال الذي يعدّى بإلى فلا تكون تعديته باللام إلاّ لغرض ، وفي « الكشّاف » : أنّه يقال جنح له وإليه .
والسلم بفتح السين وكسرها ضدّ الحرب . وقرأه الجمهور بالفتح ، وقرأه حمزة ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلَف بكسر السين وحقّ لفظه التذكير ، ولكنّه يؤنّث حملاً على ضدّه الحرب وقد ورد مؤنّثاً في كلامهم كثيراً .
والأمر بالتوكّل على الله ، بعد الأمر بالجنوح إلى السلم ، ليكون النبي صلى الله عليه وسلم معتمداً في جميع شأنه على الله تعالى ، ومفوّضاً إليه تسيير أموره ، لتكون مدّة السلم مدّة تقوّ واستعداد ، وليكفيه الله شرّ عدوّه إذا نقضوا العهد ، ولذلك عُقب الأمر بالتوكّل بتذكيره بأنّ الله السميع العليم ، أي السميع لكلامهم في العهد ، العليمُ بضمائرهم ، فهو يعاملهم على ما يعلم منهم . وقوله : { فاجنح لها } جيء بفعل { اجنح } لمشاكلة قوله { جنحوا . . . } .
وطريق القصر في قوله : { هو السميع العليم } أفاد قصر معنى الكمال في السمع والعلم ، أي : فهو سميع منهم ما لا تسمع ويعلم ما لا تعلم . وقصر هذين الوصفين بهذا المعنى على الله تعالى عقب الأمر بالتوكل عليه يفضي إلى الأمر بقصر التوكّل عليه لا على غيره . وفي الجمع بين الأمر بقصر التوكل عليه وبين الأمر بإعداد ما استطاع من القوة للعدوّ : دليل بَيِّن على أنّ التوكّل أمر غير تعاطي أسباب الأشياء ، فتعاطي الأسباب فيما هي من مقدور الناس ، والتوكّل فيما يخرج عن ذلك .
واعلم أنّ ضمير جمع الغائبين في قوله : { وإن جنحوا للسلم } وقع في هذه الآية عقب ذكر طوائف في الآيات قبلَها ، منهم مشركون في قوله تعالى : { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم } [ الأنفال : 48 ] ، ومنهم من قيل : إنّهم من أهل الكتاب ، ومنهم من تردّدت فيهم أقوال المفسّرين : قيل : هم من أهل الكتاب ، وقيل : هم من المشركين ، وذلك قوله : { إن شر الدوآب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم } [ الأنفال : 55 ، 56 ] الآية . قيل : هم قريظة والنضير وبنو قينقاع ، وقيل : هم من المشركين ، فاحتمل أن يكون ضمير { جنحوا } عائداً إلى المشركين . أو عائداً إلى أهل الكتاب ، أو عائداً إلى الفريقين كليهما .
فقيل : عاد ضمير الغيبة في قوله : { وإن جنحوا للسلم } إلى المشركين ، قاله قتادة ، وعكرمة ، والحسن ، وجابر بن زيد ، ورواه عطاء عن ابن عبّاس ، وقيل : عاد إلى أهل الكتاب ، قاله مجاهد .
فالذين قالوا : إنّ الضمير عائِد إلى المشركين ، قالوا : كان هذا في أوّل الأمر حين قلّة المسلمين ، ثم نسخ بآية سورة براءة ( 5 ) { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } الآية . ومن قالوا الضمير عائد إلى أهل الكتاب قالوا هذا حكم باق ، والجنوح إلى السلم إمّا بإعطاء الجزية أو بالموادعة .
والوجه أن يعود الضمير إلى صنفي الكفار : من مشركين وأهل الكتاب ، إذ وقع قبله ذكر الذين كفروا في قوله : { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا } [ الأنفال : 55 ] فالمشركون من العرب لا يقبل منهم إلاّ الإسلام بعد نزول آية براءة ، فهي مخصّصة العمومَ الذي في ضمير { جنحوا } أو مبيّنة إجمالَه ، وليست من النسخ في شيء . قال أبو بكر بن العربي : « أما من قال إنها منسوخة بقوله : { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] فدعوى ، فإنّ شروط النسخ معدومة فيها كما بيّنّاه في موضعه » .
وهؤلاء قد انقضى أمرهم . وأمّا المشركون من غيرهم ، والمجوس ، وأهل الكتاب ، فيجري أمر المهادنة معهم على حسب حال قوّة المسلمين ومصالحهم وأنّ الجمع بين الآيتين أوْلى : فإن دَعَوا إلى السلم قبل منهم ، إذا كان فيه مصلحة للمسلمين . قال ابن العربي : فإذا كان المسلمون في قوّة ومنعة وعدّة :
فلاَ صلح حتى تُطعَن الخيل بالقنا *** وتضربَ بالبيض الرقاقِ الجماجمُ
وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح لانتفاع يجلب به أو ضرّ يندفع بسببه فلا بأس أن يبتدىء المسلمون به إذا احتاجوا إليه ، وأن يجيبوا إذا دُعوا إليه . قد صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهلَ خيبر ، ووادع الضمري ، وصالح أكيد رَدُومة ، وأهلَ نجران ، وهادن قريشاً لعشرة أعوام حتى نَقضوا عهده » .
أمّا ما همّ به النبي صلى الله عليه وسلم من مصالحة عُيَينة بن حصن ، ومن معه ، على أن يعطيهم نصف ثِمار المدينة فذلك قدْ عدَل عنه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن قال سعد بن عبادة ، وسعد بن مُعاذ ، في جماعةِ الأنصار : لا نعطيهم إلاّ السيف .
فهذا الأمر بقبول المهادنة من المشركين اقتضاه حال المسلمين وحاجتهم إلى استجمام أمورهم وتجديد قوتهم ، ثم نسخ ذلك ، بالأمر بقتالهم المشركين حتى يؤمنوا ، في آيات السيف . قال قتادة وعِكرمة : نَسختْ براءة كلّ مواعدة وبقي حكم التخيير بالنسبة لمن عدا مشركي العرب على حسب مصلحة المسلمين .