{ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
هذا بيان للمضاعفة التي ذكرها الله في قوله { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة } وهنا قال : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } أي : في طاعته ومرضاته ، وأولاها إنفاقها في الجهاد في سبيله { كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة } وهذا إحضار لصورة المضاعفة بهذا المثل ، الذي كان العبد يشاهده ببصره فيشاهد هذه المضاعفة ببصيرته ، فيقوى شاهد الإيمان مع شاهد العيان ، فتنقاد النفس مذعنة للإنفاق سامحة بها مؤملة لهذه المضاعفة الجزيلة والمنة الجليلة ، { والله يضاعف } هذه المضاعفة { لمن يشاء } أي : بحسب حال المنفق وإخلاصه وصدقه وبحسب حال النفقة وحلها ونفعها ووقوعها موقعها ، ويحتمل أن يكون { والله يضاعف } أكثر من هذه المضاعفة { لمن يشاء } فيعطيهم أجرهم بغير حساب { والله واسع } الفضل ، واسع العطاء ، لا ينقصه نائل ولا يحفيه سائل ، فلا يتوهم المنفق أن تلك المضاعفة فيها نوع مبالغة ، لأن الله تعالى لا يتعاظمه شيء ولا ينقصه العطاء على كثرته ، ومع هذا فهو { عليم } بمن يستحق هذه المضاعفة ومن لا يستحقها ، فيضع المضاعفة في موضعها لكمال علمه وحكمته .
هذا مثل ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته ، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، فقال : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } قال سعيد بن جبير : في طاعة الله . وقال مكحول : يعني به : الإنفاق في الجهاد ، من رباط الخيل وإعداد السلاح وغير ذلك ، وقال شبيب بن بشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : الجهاد والحج ، يضعف الدرهم فيهما إلى سبعمائة ضعف ؛ ولهذا قال الله تعالى : { كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ }
وهذا المثل أبلغ في النفوس ، من ذكر عدد السبعمائة ، فإن هذا فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عز وجل ، لأصحابها ، كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة ، وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف ، قال الإمام أحمد :
حدثنا زياد بن الربيع أبو خِدَاش ، حدثنا واصل مولى ابن عيينة ، عن بشار بن أبي سيف الجرمي ، عن عياض بن غطيف قال : دخلنا على أبي عبيدة [ بن الجراح ]{[4401]} نعوده من شكوى أصابه - وامرأته تُحَيْفَة قاعدة عند رأسه - قلنا : كيف بات أبو عبيدة ؟ قالت : والله لقد بات بأجر ، قال أبو عبيدة : ما بت بأجر ، وكان مقبلا بوجهه على الحائط ، فأقبل على القوم بوجهه ، وقال : ألا تسألوني عما قلت ؟ قالوا : ما أعجبنا ما قلت فنسألك عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة ، ومن أنفق على نفسه وأهله ، أو عاد مريضا أو مازَ أذى ، فالحسنة بعشر أمثالها ، والصوم جنة ما لم يخرقها ، ومن ابتلاه الله عز وجل ، ببلاء في جسده فهو له حطة " .
وقد روى النسائي في الصوم بعضه من حديث واصل به ، ومن وجه آخر موقوفا{[4402]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن سليمان ، سمعت أبا عمرو الشيباني ، عن ابن مسعود : أن رجلا تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لتأتين يوم القيامة بسبعمائة ناقة مخطومة " .
ورواه مسلم والنسائي ، من حديث سليمان بن مِهْران ، عن الأعمش ، به{[4403]} . ولفظ مسلم : جاء رجل بناقة مخطومة ، فقال : يا رسول الله ، هذه في سبيل الله . فقال : " لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة " .
حديث آخر : قال أحمد : حدثنا عمرو بن مَجْمَع أبو المنذر الكندي ، أخبرنا إبراهيم الهجري ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله عز وجل ، جعل حسنة ابن آدم بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ، إلا الصوم ، والصوم لي وأنا أجزي به ، وللصائم فرحتان : فرحة عند إفطاره وفرحة يوم القيامة ، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " {[4404]} .
حديث آخر : قال [ الإمام ]{[4405]} أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل عمل ابن آدم يضاعف ، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، إلى ما شاء{[4406]} الله ، يقول الله : إلا الصوم ، فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع طعامه وشهوته من أجلي ، وللصائم فرحتان : فرحة عند فطره ، وفرحة عند لقاء ربه ، ولخُلُوف فِيه {[4407]} أطيب عند الله من ريح المسك . الصوم جنة ، الصوم جنة " . وكذا رواه مسلم ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، وأبي سعيد الأشج ، كلاهما عن وكيع ، به{[4408]} .
حديث آخر : قال أحمد : حدثنا حسين بن علي ، عن زائدة ، عن الركين ، عن يُسَيْر بن عميلة{[4409]} عن خريم بن فاتك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أنفق نفقة في سبيل الله تضاعف بسبعمائة{[4410]} ضعف " {[4411]} .
حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح ، حدثنا ابن وهب ، عن يحيى بن أيوب وسعيد بن أبي أيوب ، عن زبان بن فائد ، عن سهل بن معاذ ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الصلاة والصيام والذكر يضاعف على النفقة في سبيل الله سبعمائة ضعف " {[4412]} .
حديث آخر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هارون بن عبد الله بن مروان ، حدثنا ابن أبي فديك ، عن الخليل بن عبد الله ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أرسل بنفقة في سبيل الله ، وأقام في بيته{[4413]} فله بكل درهم سبعمائة درهم يوم القيامة ومن غزا{[4414]} في سبيل الله ، وأنفق في جهة ذلك{[4415]} فله بكل درهم{[4416]} سبعمائة ألف درهم " . ثم تلا هذه الآية : { وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } وهذا حديث غريب{[4417]} .
وقد تقدم حديث أبي عثمان النهدي ، عن أبي هريرة في تضعيف الحسنة إلى ألفي ألف حسنة ، عند قوله : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] .
حديث آخر : قال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن عبيد الله بن العسكري البزاز ، أخبرنا الحسن بن علي بن شبيب ، أخبرنا محمود بن خالد الدمشقي ، أخبرنا أبي ، عن عيسى بن المسيب ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : لما نزلت هذه الآية : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه } قال النبي صلى الله عليه وسلم : " رب زد أمتي " قال : فأنزل الله : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } قال : " رب زد أمتي " قال : فأنزل الله : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] .
وقد رواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه ، عن حاجب بن أركين ، عن أبي عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز المقرئ ، عن أبي إسماعيل المؤدب ، عن عيسى بن المسيب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، فذكره{[4418]} .
وقوله هاهنا : { وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } أي : بحسب إخلاصه في عمله { وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أي : فضله واسع كثير أكثر من خلقه ، عليم بمن يستحق ومن لا يستحق .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله}: في طاعة الله عز وجل.
{كمثل حبة أنبتت}: أخرجت {سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع}: لتلك الأضعاف، {عليم} بما تنفقون...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذه الآية مردودة إلى قوله: {مَنْ ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أضْعافا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. والآيات التي بعدها إلى قوله: {مَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} من قصص بني إسرائيل وخبرهم مع طالوت وجالوت، وما بعد ذلك من نبأ الذي حاجّ إبراهيم مع إبراهيم، وأمر الذي مرّ على القرية الخاوية على عروشها، وقصة إبراهيم ومسألته ربه ما سأل مما قد ذكرناه قبل اعتراض من الله تعالى ذكره بما اعترض به من قصصهم بين ذلك احتجاجا منه ببعضه على المشركين الذين كانوا يكذبون بالبعث وقيام الساعة، وحضّا منه ببعضه للمؤمنين على الجهاد في سبيله الذي أمرهم به في قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. يعرّفهم فيهم أنه ناصرهم وإن قلّ عددهم وكثر عدد عدوّهم، ويعدهم النصرة عليهم، ويعلمهم سنته فيمن كان على منهاجهم من ابتغاء رضوان الله أنه مؤيدهم، وفيمن كان على سبيل أعدائهم من الكفار بأنه خاذلهم ومفرّق جمعهم وموهن كيدهم، وقطعا منه ببعض عذر اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما أطلع نبيه عليه من خفيّ أمورهم، ومكتوم أسرار أوائلهم وأسلافهم التي لم يعلمها سواهم، ليعلموا أن ما أتاهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، وأنه ليس بتخرّص ولا اختلاق، وإعذارا منه به إلى أهل النفاق منهم، ليحذروا بشكهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم أن يحلّ بهم من بأسه وسطوته، مثل الذي أحلهما بأسلافهم الذين كانوا في القرية التي أهلكها، فتركها خاوية على عروشها. ثم عاد تعالى ذكره إلى الخبر عن الذي يقرض الله قرضا حسنا، وما عنده له من الثواب على قرضه؛ فقال: {مَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ}: مثل الذين ينفقون أموالهم على أنفسهم في جهاد أعداء الله بأنفسهم وأموالهم. {كَمَثَلِ حَبّةٍ}: من حبات الحنطة أو الشعير، أو غير ذلك من نبات الأرض التي تسنبل سنبلة بذرها زارع. «فأنبتت»: فأخرجت، {سَبْعَ سَنَابِلَ في كُلّ سُنْبُلَةٍ مائة حَبّة}: فكذلك المنفق ماله على نفسه في سبيل الله، له أجره سبعمائة ضعف على الواحد من نفقته. فإن قال قائل: وهل رأيت سنبلة فيها مائة حبة أو بلغتك فضرب بها المثل المنفق في سبيل الله ماله؟ قيل: إن يكن ذلك موجودا فهو ذاك، وإلا فجائز أن يكون معناه: كمثل سنبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، إن جعل الله ذلك فيها. ويحتمل أن يكون معناه: في كل سنبلة مائة حبة يعني أنها إذا هي بذرت أنبتت مائة حبة، فيكون ما حدث عن البذر الذي كان منها من المائة الحبة مضافا إليها لأنه كان عنها. {وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ}؛ فقال بعضهم: الله يضاعف لمن يشاء من عباده أجر حسناته بعد الذي أعطى المنفق في سبيله من التضعيف الواحدة سبعمائة. فأما المنفق في غير سبيله، فلا نفقه ما وعده من تضعيف السبعمائة بالواحدة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: والله يضاعف لمن يشاء من المنفقين في سبيله على السبعمائة إلى ألفي ألف ضعف. والذي هو أولى بتأويل قوله: {وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}: والله يضاعف على السبعمائة إلى ما يشاء من التضعيف لمن يشاء من المنفقين في سبيله، لأنه لم يجر ذكر الثواب والتضعيف لغير المنفق في سبيل الله فيجوز لنا توجيه ما وعد تعالى ذكره في هذه الآية من التضعيف إلى أنه عدة منه على العمل على غير النفقة في سبيل الله.
{وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}: والله واسع أن يزيد من يشاء من خلقه المنفقين في سبيله على أضعاف السبعمائة التي وعده أن يزيده، عليم من يستحقّ منهم الزيادة... وقال آخرون: معنى ذلك: والله واسع لتلك الأضعاف، عليم بما ينفق الذين ينفقون أموالهم في طاعة الله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل ضرب مثل النفقة في سبيل الله بالحبة التي ذكر وجهين:
أحدهما: أن يبارك في تلك النفقة، فتزداد، وتنمو، على ما بارك في حبة واحدة، فصارت سبعمئة وأكثر.
والثاني: قال تعالى: {ويربي الصدقات} [البقرة: 276] رأوا: الصدقة تتلف، وتتلاشى في أيدي الفقراء، فقالوا: كيف يربي، وهي تالفة؟ فقال: يربي كما أربي الحبة في الأرض بعد ما تلفت فيها، وفسدت، فصارت مئة وزيادة. فعلى ذلك الصدقة في طاعة الله والنفقة في ما يربي، وإن كانت في ظاهرها تالفة... والله أعلم.
وقوله تعالى: {والله واسع عليم}؛ قيل: {واسع} غني، وقيل: {واسع} جواد، يوسع على من يشاء...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
من عادات العرب في البيان: التنبيه على الشيء بذكر نظيره وضرب مثل فيه، دون التعرض له في نفسه، وهو في الإفادة كالتعرض له، كقوله عز وجل {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل} الآية. عرف به تضعيف الحسنات في مقابلة الإنفاق، ونزل في الإفادة منزلة تصريحه في قوله عز وجل: {وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون}...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ} لا بد من حذف مضاف، أي مثل نفقتهم كمثل حبة، أو مثلهم كمثل باذر حبة. والمنبت هو الله، ولكن الحبة لما كانت سبباً أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء. ومعنى إنباتها سبع سنابل، أن تخرج ساقاً يتشعب منها سبع شعب، لكل واحدة سنبلة وهذا التمثيل تصوير للإضعاف، كأنها ماثلة بين عيني الناظر.
فإن قلت: كيف صحّ هذا التمثيل والممثل به غير موجود؟ قلت: بل هو موجود في الدخن والذرة وغيرهما، وربما فرخت ساق البرة في الأراضي القوية المقلة فيبلغ حبها هذا المبلغ، ولو لم يوجد لكان صحيحاً على سبيل الفرض والتقدير.
{والله يضاعف لِمَن يَشَاءُ}: يضاعف تلك المضاعفة لمن يشاء، لا لكل منفق، لتفاوت أحوال المنفقين. أو يضاعف سَبع المائة ويزيد عليها أضعافها لمن يستوجب ذلك...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه الآية لفظها بيان مثل بشرف النفقة في سبيل الله وبحسنها، وضمنها التحريض على ذلك، وهذه الآية في نفقة التطوع، وسبل الله كثيرة، وهي جميع ما هو طاعة وعائد بمنفعة على المسلمين والملة، وأشهرها وأعظمها غناء الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا، والحبة اسم جنس لكل ما يزدرعه ابن آدم ويقتاته، وأشهر ذلك البر، وكثيراً ما يراد بالحب. وقد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة، وأما في سائر الحبوب فأكثر، ولكن المثال وقع بهذا القدر، وقد ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشر أمثالها، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد حَسنتها بسبعمائة ضعف، وبين ذلك الحديث الصحيح.
اعلم أنه سبحانه لما ذكر من بيان أصول العلم بالمبدأ وبالمعاد ومن دلائل صحتهما ما أراد، أتبع ذلك ببيان الشرائع والأحكام والتكاليف. فالحكم الأول: في بيان التكاليف المعتبرة في إنفاق الأموال، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في كيفية النظم وجوه؛
الأول: قال القاضي رحمه الله: إنه تعالى لما أجمل في قوله {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة} فصل بعد ذلك في هذه الآية تلك الأضعاف، وإنما ذكر بين الآيتين الأدلة على قدرته بالإحياء والإماتة من حيث لولا ذلك لم يحسن التكليف بالإنفاق، لأنه لولا وجود الإله المثيب المعاقب، لكان الإنفاق في سائر الطاعات عبثا، فكأنه تعالى قال لمن رغبه في الإنفاق قد عرفت أني خلقتك وأكملت نعمتي عليك بالإحياء والأقدار وقد علمت قدرتي على المجازاة والإثابة، فليكن علمك بهذه الأحوال داعيا إلى إنفاق المال، فإنه يجازي القليل بالكثير، ثم ضرب لذلك الكثير مثلا، وهو أن من بذر حبة أخرجت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، فصارت الواحدة سبعمائة...
الوجه الثاني: في بيان النظم ما ذكره الأصم، وهو أنه تعالى ضرب هذا المثل بعد أن احتج على الكل بما يوجب تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ليرغبوا في المجاهدة بالنفس والمال في نصرته وإعلاء شريعته...
والوجه الثالث: لما بين تعالى أنه ولي المؤمنين، وأن الكفار أولياؤهم الطاغوت بين مثل ما ينفق المؤمن في سبيل الله وما ينفق الكافر في سبيل الطاغوت...
المسألة الثالثة: معنى {ينفقون أموالهم في سبيل الله} يعني في دينه... ويدخل فيه الواجب والنفل من الإنفاق في الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الإنفاق في الجهاد على نفسه وعلى الغير، ومن صرف المال إلى الصدقات، ومن إنفاقها في المصالح، لأن كل ذلك معدود في السبيل الذي هو دين الله وطريقته لأن كل ذلك إنفاق في سبيل الله...
ثم قال: {والله يضاعف لمن يشاء} وليس فيه بيان كمية تلك المضاعفة، ولا بيان من يشرفه الله بهذه المضاعفة، بل يجب أن يجوز أنه تعالى يضاعف لكل المتقين، ويجوز أن يضاعف لبعضهم من حيث يكون إنفاقه أدخل في الإخلاص، أو لأنه تعالى بفضله وإحسانه يجعل طاعته مقرونة بمزيد القبول والثواب. ثم قال: {والله سميع} أي واسع القدرة على المجازاة على الجود والافضال عليهم، بمقادير الإنفاقات، وكيفية ما يستحق عليها، ومتى كان الأمر كذلك لم يصر عمل العامل ضائعا عند الله تعالى...
لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :
قيل: إن المقصود من الآية أنه إذا علم الإنسان الطالب للزيادة أنه إذا بذر حبة واحدة أخرجت له سبعمائة حبة ما كان ينبغي له ترك ذلك، ولا التقصير فيه فكذلك ينبغي لمن طلب الأجر عند الله في الآخرة أن لا يترك الإنفاق في سبيل الله، إذا علم أنه يحصل له بالواحد عشرة ومائة وسبعمائة...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
مناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه لما ذكر قصة المارِّ على قرية وقصة إبراهيم، وكانا من أدل دليل على البعث، ذكر ما ينتفع به يوم البعث، وما يجد جدواه هناك... وهو الإنفاق في سبيل الله... كما أعقب قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت بقوله: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً}... فكذلك أعقب هنا ذكر الإحياء والإماتة بذكر النفقة في سبيل الله، لأن ثمرة النفقة في سبيل الله إنما تظهر حقيقة يوم البعث: {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً} واستدعاء النفقة في سبيل الله مذكر بالبعث، وخاض على اعتقاده، لأنه لو لم يعتقد وجوده لما كان ينفق في سبيل الله.
وفي تمثيل النفقة بالحبة المذكورة إشارة أيضاً إلى البعث، وعظيم القدرة، إذ حبة واحدة يخرج الله منها سبعمائة حبة، فمن كان قادراً على مثل هذا الأمر العجاب، فهو قادر على إحياء الموات، ويجامع ما اشتركا فيه من التغذية والنمو...
وقيل: واختص هذا العدد لأن السبع أكثر أعداد العشرة، والسبعين أكثر أعداد المائة، وسبع المائة أكثر أعداد الألف، والعرب كثيراً ما تراعي هذه الأعداد. قال تعالى: {سبع سنابل} و {سبع ليال} و {سبع سنبلات} و {سبع بقرات} و {سبع سموات} و {سبع سنين} و {ان نستغفر لهم سبعين مرة} {ذرعها سبعون ذراعاً} وفي الحديث: « إلى سبعمائة ضعف» « إلى سبعة آلاف» « إلى ما لا يحصي عدده إلاَّ الله».
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
شبه الله سبحانه نفقة المنفق في سبيله – سواء أكان المراد به الجهاد أم جميع سبل الخير، من كل – بمن بذر بذرا فأنبتت كل حبة منه سبع سنابل اشتملت كل سنبلة على مائة حبة. والله يضاعف لمن يشاء فوق ذلك، بحسب حال المنفق وأيمانه وإخلاصه وإحسانه، ونفع نفقته وقدرها. ووقوعها موقعها. فإن ثواب الإنفاق يتفاوت بحسب ما يقوم بالقلب من اليمان والإخلاص، والتثبيت عند النفقة، وإخراج المال بقلت ثابت، قد انشرح صدره بإخراجه، وسمحت به نفسه، وخرج من قلبه قبل خروجه من يده، فهو ثابت القلب عند إخراجه، غير ولا هلع، ولا مُتْبِعُهُ نفسه، ترجف يده وفؤاده. ويتفاوت بحسب نفع الإنفاق بحسب مصادفته لموقعه، وبحسب طيب المنفق وزكائه.
وتحت هذا المثل من الفقه: أنه سبحانه شبه الإنفاق بالبذر، فالمنفق ماله الطيب لله، لا لغيره، باذر ماله في أرض زكية، فغلتُه بحسب بذره، وطيب أرضه وتعاهد البذر بالسقي، ونفى الدغل، والنبات الغريب عنه، فإذا اجتمعت هذه الأمور ولم يحرق الزرع نار، ولا لحقته جائحة جاء أمثال الجبال، وكان مثله كمثل جنة بربوة. وهي المكان المرتفع الذي تكون الجنة فيه نصب الشمس والرياح فتربى الأشجار هناك أتم تربية. فنزل عليها من السماء مطر عظيم القطر، متتابع، فرواها ونماها. فأتت أكلها ضعفي ما يؤتيه غيرها، لسبب ذلك الوابل فإن لم يصبها وابل فطل، أي مطر صغير القطر يكفيها، لكرم منبتها، تزكو على الطل، وتنمو عليه، مع أن في ذكر نوعي الوابل والطل إشارة إلى نوعي الإنفاق الكثير والقليل، فمن الناس من يكون إنفاقه وابلا، ومنهم من يكون إنفاقه طلا، والله لا يضيع مثقال ذرة. فإن عرض لهذا العامل ما يحرق أعماله، ويبطل حسناته، كان بمنزلة رجل له {جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت} [التقرة: 266] فإذا كان يوم استيفاء الأعمال وإحراز الأجور، وجد هذا العامل عمله قد أصابه ما أصال صاحب هذه الجنة. فحسرته حينئذ أضد من حسرة هذا على جنته.
فهذا مثل ضربه الله سبحانه للحسرة بسلب النعمة عند شدة الحاجة إليها، مع عظم قدرها ومنفعتها. والذي ذهب عنه قد أصابه الكبر والضعف، فهو أحوج ما كان إلى نعمته. ومع هذا فله ذرية ضعفاء، لا يقدرون على نفقته. والقيام بمصالحه بل هم في عياله، فحاجته إلى جنته أضد ما كانت لضعفه وضعف ذريته. فكيف يكون حال هذا إذا كان له بستان عظيم فيه من جميع الفواكه والثمر، وسلطان ثمره أجل الفواكه وأنفعها، وهو ثمر النخيل والأعناب، فمغله يقوم بكفايته وكفاية ذريته، فأصبح يوما وقد وجده محترقاً كله كالصريم. فأي حسرة أعظم من حسرته؟
قال ابن عباس رضي الله عنه: هذا مثل الذي يختم له بالفساد في آخر عمره. وقال مجاهد: هذا مثل المفرط في طاعة الله حتى يموت. وقال السدي: هذا مثل المرائي في نفقته الذي ينفق لغير الله، ينقطع عنه أحوج ما يكون إليه. وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين. قال: قل يا ابن أخي، ولا تحقر نفسك. قال: ضرب مثلا لعمل. قال: لأي عمل؟ قال: لرجل غني يعمل بالحسنات، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله كلها. قال الحسن: هذا مثل، قل والله من يعقله من الناس: شيخ كبير ضعف جسمه، و كثر صبيانه، فقد جنته أحوج ما كان إليها، وإن أحدكم والله لأفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا.
فصل فإن عرض لهذه الأعمال من الصدقات ما يبطلها من المن والأذى والرياء. فالرياء يمنع انعقادها سببا للثواب، والمن والأذى: يبطل الثواب التي [كانت] سببا له فمثل صاحبها، وبطلان عمله {كمثل صفوان} وهو الحجر الأملس عليه تراب {فأصابه وابل} وهو المطر الشديد {فتركه صلدا} لا شيء عليه. وتأمل أجزاء هذا المثل البليغ وانطباقها على أجزاء المثل به، تعرف عظمة القرآن وجلالته. فإن الحجر في مقابلة قلب هذا المرائي المان والمؤذي. فقلبه في قسوة عن الإيمان والإخلاص والإحسان بمنزلة الحجر. والعمل الذي عمله لغير الله بمنزلة التراب الذي على ذلك الحجر. فقسوة ما تحته وصلابته تمنعه من النبات والثبات عند نزول الوابل. فليس له مادة متصلة بالذي يقبل الماء وينبت الكلأ. وكذلك المرائي ليس له ثبات عند وابل الأمر والنهي، والقضاء والقدر. فإذا نزل عليه وابل الوحي تكشف عنه ذلك التراب اليسير الذي كان عليه: فبرز ما تحته حجرا صلدا لا نبات فيه. وهذا مثل ضربه الله سبحانه لعمل المرائي ونفقته، لا يقدر يوم القيامة على ثواب شيء منه، أحوج ما كان إليه وبالله التوفيق.
وهذه الآية كالتفسير والبيان لمقدار الأضعاف التي يضاعفها للمقرض، ومثل سبحانه بهذا المثل إحضارا لصورة التضعيف في الأذهان بهذه الحبة التي غيبت في الأرض فأنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة حتى كأن القلب ينظر إلى هذا التضعيف ببصيرته كما تنظر العين إلى هذه السنابل التي من الحبة الواحدة فينضاف الشاهد العياني إلى الشاهد الإيماني القرآني فيقوى إيمان المنفق وتسخو نفسه بالإنفاق.
وتأمل كيف جمع السنبلة في هذه الآية على «سنابل»، وهي من جموع الكثرة إذ المقام مقام تكثير وتضعيف وجمعها على «سنبلات» في قوله تعالى: {وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات} [يوسف: 43]. فجاء بها على جمع القلة لأن السبعة قليلة ولا مقتضى للتكثير.
وقوله تعالى: {والله يضاعف لمن يشاء}. قيل المعنى: والله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء، لا لكل منفق، بل يختص برحمته من يشاء وذلك لتفاوت أحوال الإنفاق في نفسه ولصفات المنفق وأحواله، في شدة الحاجة وعظيم النفع وحسن الموقع.
وقيل: {والله يضاعف لمن يشاء} فوق ذلك فلا يقتصر به على السبعمائة بل يجاوز في المضاعفة هذا المقدار إلى أضعاف كثيرة.
واختلف في تفسير الآية. فقيل: مثل نفقة الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة. وقيل: مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل باذر حبة، ليطابق الممثل للممثل به. فهاهنا أربعة أمور: (منفق، ونفقة، وباذر، وبذر)، فذكر سبحانه من كل شق أهم قسميه فذكر من شق الممثل «المنفق»، إذ المقصود ذكر حاله وشأنه وسكت عن ذكر النفقة لدلالة اللفظ عليها، وذكر من شق الممثل به «البذر» إذ هو المحل الذي حصلت فيه المضاعفة، وترك ذكر الباذر لأن القرض لا يتعلق بذكره، فتأمل هذه البلاغة والفصاحة والإيجاز المتضمن لغاية البيان. وهذا كثير في أمثال القرآن، بل عامتها ترد على هذا النمط.
ثم ختم الآية باسمين من أسمائه الحسنى مطابقين لسياقها وهما «الواسع» و«العليم» فلا يستبعد العبد هذه المضاعفة ولا يضيق عنها عطنه فإن المضاعف (سبحانه) واسع العطاء، واسع الغنى، واسع الفضل، ومع ذلك فلا يظن أن سعة عطائه تقتضي حصولها لكل منفق فإنه عليم بمن تصلح له هذه المضاعفة وهو أهل لها، ومن لا يستحقها ولا هو أهل لها، فإن كرمه وفضله تعالى لا يناقض حكمته بل يضع فضله مواضعه لسعته ورحمته ويمنعه من ليس من أهله بحكمته وعلمه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أعاد الأستاذ الإمام التذكير هنا بأن من سنة القرآن الحكيم مزج آيات الأحكام بآيات المواعظ والعبر والتوحيد، ليقرر أمر الحكم وينصر النفوس على القيام به، ثم قال ما معناه بتصرف: قد قلنا مرارا إن أمر الإنفاق في سبيل الله أشق الأمور على النفوس، لاسيما إذا اتسعت دائرة المنفعة فيما ينفق فيه، وبعدت نسبة من ينفق عليه عن المنفق، فإن كل إنسان يسهل عليه الإنفاق على نفسه وأهله وولده إلا أفراد من أهل الشح المطاع وهذا النوع من الإنفاق لا يوصف صاحبه بالسخاء ومن كان له نصيب من السخاء سهل عليه الإنفاق بقدر هذا النصيب فمن كان له أدنى نصيب فإنه يرتاح إلى الإنفاق على ذوي القربى والجيران. فإذا زاد أنفق على أهل بلده فأمته فالناس كلهم وذلك منتهى الجود والسخاء. وإنما يصعب على المرء الإنفاق على منفعة من يبعد عنه، لأنه فطر على أن لا يعمل عملا لا يتصور لنفسه فائدة منه وأكثر النفوس جاهلة باتصال منافعها ومصالحها بالبعداء عنها فلا تشعر بأن الإنفاق في وجوه البر العامة كإزالة الجهل بنشر العلم ومساعدة العجزة والضعفاء وترقية الصناعات وإنشاء المستشفيات والملاجئ وخدمة الدين المهذب للنفوس هو الذي تقوم به المصالح العامة حتى تكون كلها سعيدة عزيزة فعلمهم الله تعالى أن ما ينفقونه في المصالح يضاعف لهم أضعافا كثيرة فهو مفيد لم في آخرتهم أيضا.
فذكر أولا أن الإنفاق في سبيل الله بمنزلة إقراضه تعالى ووعد بمضاعفته أضعافا كثيرة ثم ضرب الأمثال وذكر قصص الذين بذلوا أموالهم وأرواحهم في سبيله ثم ذكر البعث وإحياء الموتى وانتهاءهم إلى الدار التي يوفون فيها أجورهم في يوم لا تنفع فيه فدية ولا خلة ولا شفاعة وإنما تنفعهم أعمالهم التي أهمها الإنفاق في سبيله ثم ضرب المثل للمضاعفة. أي بعد أن قرر أمر البعث بالدلائل والأمثال. إذ كان الإيمان به أقوى البواعث على بذل المال.
قال: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله} وهي ما يوصل إلى مرضاته من المصالح العامة لاسيما ما كان نفعه أعم وأثره أبقى:
{كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة} أي كمثل أبرك بذر في أخصب أرض نما أحسن نمو فجاءت غلته مضاعفة سبع مئة ضعف وذلك منتهى الخصب والنماء. أي أن هذا المنفق يلقى جزاءه في الدنيا مضاعفا أضعافا كثيرة. كما قال في آية سابقة، فالتمثيل للتكثير لا للحصر ولذلك قال: {والله يضاعف لمن يشاء} فيزيده على ذلك زيادة لا تقدر ولا تحصر. فذلك العدد لا مفهوم له وقيل يضاعف تلك المضاعفة التي ضرب لها المثل...
{والله واسع عليم} لا ينحصر فضله ولا يحد عطاؤه: {عليم} بمن يستحق المضاعفة من المخلصين الذين يهديهم إخلاصهم إلى وضع النفقات في مواضعها التي يكثر نفعا وتبقى فائدتها زمنا طويلا، كالمنفقين في إعلاء شأن الحق وتربية الأمم على آداب الدين وفضائله التي تسوقهم إلى سعادة المعاش والمعاد، حتى إذا ما ظهرت آثار نفقاتهم النافعة في قوة ملتهم وسعة انتشار دينهم وسعادة أفراد أمتهم عاد عليهم من بركات ذلك وفوائده ما هو فوق ما أنفقوا بدرجات لا يمكن حصرها.
وقد قال الأستاذ الإمام رحمه الله في الدرس: إن المراد بالإنفاق هنا الإنفاق في خدمة الدين. وقال في وقت آخر: إن كلمة في سبيل الله تشتمل جميع المصالح العامة وهو ما جرينا عليه...
أقول: ومن أراد كمال البيان في ذلك فليعتبر بما يراه في الأمم العزيزة التي ينفق أفرادها ما ينفقون في إعلاء شأنها بنشر العلوم وتأليف الجمعيات الدينية الخيرية وغير ذلك من الأعمال التي تقوم بها المصالح العامة، إذ يرى كل فرد من أفراد أدنى طبقاتها عزيزا بها محترما باحترامها مكفولا بعنايتها كأن أمته ودولته متمثلتان في شخصه...
ومن حيث إن الناس يقتدي بعضهم ببعض بمقتضى الجبلة والفطرة فكل من بذل شيئا في سبيل الله كان إماما وقدوة لمن يبذل بعده وإن لم يقصدوا الاقتداء به لأن الناس يتأثر بعضهم بفعل بعض من حيث لا يشعرون. والفضل الأكبر في هذه الأمة لمن يبدأ بالإنفاق في عمل نافع لم يسبق إليه. أولئك واضعو سنن الخير والفائزون بأكبر المضاعفة لأن لهم أجورهم ومثل أجور من اقتدى بسنتهم. فقد أخرج مسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من سن في الإسلام حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها" الحديث...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
كانت الدروس الثلاثة الماضية في هذا الجزء تدور -في جملتها- حول إنشاء بعض قواعد التصور الإيماني؛ وإيضاح هذا التصور؛ وتعميق جذوره في نواح شتى. وكان هذا محطا في خط السورة الطويلة؛ التي تعالج -كما أسلفنا- إعداد الجماعة المسلمة للنهوض بتكاليف دورها في قيادة البشرية. ومنذ الآن إلى قرب نهاية السورة يتعرض السياق لإقامة قواعد النظام الاقتصادي الاجتماعي الذي يريد الإسلام أن يقوم عليها المجتمع المسلم؛ وأن تنظم بها حياة الجماعة المسلمة. إنه نظام التكافل والتعاون الممثل في الزكاة المفروضة والصدقات المتروكة للتطوع. وليس النظام الربوي الذي كان سائدا في الجاهلية. ومن ثم يتحدث عن آداب الصدقة. ويلعن الربا، ويقرر أحكام الدين والتجارة في الدروس الآتية في السورة. وهي تكون في مجموعها جانبا أساسيا من نظام الاقتصاد الإسلامي والحياة الاجتماعية التي تقوم عليها. وبين الدروس الثلاثة الآتية صلة وثيقة فهي ذات موضوع واحد متشعب الأطراف.. موضوع النظام الاقتصادي الإسلامي. وفي هذا الدرس نجد الحديث عن تكليف البذل والإنفاق، ودستور الصدقة والتكافل. والإنفاق في سبيل الله هو صنو الجهاد الذي فرضه الله على الأمة المسلمة، وهو يكلفها النهوض بأمانة الدعوة إليه، وحماية المؤمنين به، ودفع الشر والفساد والطغيان، وتجريده من القوة التي يسطو بها على المؤمنين، ويفسد بها في الأرض، ويصد بها عن سبيل الله، ويحرم البشرية ذلك الخير العظيم الذي يحمله إليها نظام الإسلام، والذي يعد حرمانها منه جريمة فوق كل جريمة، واعتداء أشد من الاعتداء على الأرواح والأموال.
ولقد تكررت الدعوة إلى الإنفاق في السورة. فالآن يرسم السياق دستور الصدقة في تفصيل وإسهاب. يرسم هذا الدستور مظللا بظلال حبيبة أليفة؛ ويبين آدابها النفسية والاجتماعية. الآداب التي تحول الصدقة عملا تهذيبيا لنفس معطيها؛ وعملا نافعا مربحا لآخذيها؛ وتحول المجتمع عن طريقها إلى أسرة يسودها التعاون والتكافل، والتواد والتراحم؛ وترفع البشرية إلى مستوى كريم:المعطي فيه والآخذ على السواء.
ومع أن التوجيهات التي وردت في هذا الدرس تعد دستورا دائما غير مقيد بزمن ولا بملابسات معينة، إلا أنه لا يفوتنا أن نلمح من ورائه أنه جاء تلبية لحالات واقعة كانت النصوص تواجهها في الجماعة المسلمة يومذاك -كما أنها يمكن أن تواجهها في أي مجتمع مسلم فيما بعد- وأنه كانت هناك نفوس شحيحة ضنينة بالمال تحتاج إلى هذه الإيقاعات القوية، والإيحاءات المؤثرة؛ كما تحتاج إلى ضرب الأمثال، وتصوير الحقائق في مشاهد ناطقة كيما تبلغ إلى الأعماق! كان هناك من يضن بالمال. فلا يعطيه إلا بالربا. وكان هناك من ينفقه كارها أو مرائيا. وكان هناك من يتبع النفقة بالمن والأذى. وكان هناك من يقدم الرديء من ماله ويحتجز الجيد.. وكل هؤلاء إلى جانب المنفقين في سبيل الله مخلصين له، الذين يجودون بخير أموالهم، وينفقون سرا في موضع السر وعلانية في موضع العلانية في تجرد وإخلاص ونقاء.. كان هؤلاء وكان أولئك في الجماعة المسلمة حينذاك. وإدراك هذه الحقيقة يفيدنا فوائد كثيرة..
يفيدنا أولا في إدراك طبيعة هذا القرآن ووظيفته. فهو كائن حي متحرك. ونحن نراه في ظل هذه الوقائع يعمل ويتحرك في وسط الجماعة المسلمة؛ ويواجه حالات واقعة فيدفع هذه ويقر هذه؛ ويدفع الجماعة المسلمة ويوجهها. فهو في عمل دائب، وفي حركة دائبة.. إنه في ميدان المعركة وفي ميدان الحياة.. وهو العنصر الدافع المحرك الموجه في الميدان!
ونحن أحوج ما نكون إلى الإحساس بالقرآن على هذا النحو؛ وإلى رؤيته كائنا حيا متحركا دافعا. فقد بعد العهد بيننا وبين الحركة الإسلامية والحياة الإسلامية والواقع الإسلامي؛ وانفصل القرآن في حسنا عن واقعه التاريخي الحي؛ ولم يعد يمثل في حسنا تلك الحياة التي وقعت يوما ما على الأرض، في تاريخ الجماعة المسلمة؛ ولم نعد نذكر أنه كان في أثناء تلك المعركة المستمرة هو "الأمر اليومي "للمسلم المجند؛ وهو التوجيه الذي يتلقاه للعمل والتنفيذ.. مات القرآن في حسنا.. أو نام.. ولم تعد له تلك الصورة الحقيقية التي كانت له عند نزوله في حس المسلمين. ودرجنا على أن نتلقاه إما ترتيلا منغما نطرب له، أو نتأثر التأثر الوجداني الغامض السارب! وإما أن نقرأه أورادا أقصى ما تصنع في حس المؤمنين الصادقين منا أن تنشئ في القلب حالة من الوجد أو الراحة أو الطمأنينة المبهمة المجملة.. والقرآن ينشئ هذا كله. ولكن المطلوب -إلى جانب هذا كله- أن ينشئ في المسلم وعيا وحياة. نعم المطلوب أن ينشئ حالة وعي يتحرك معها القرآن حركة الحياة التي جاء لينشئها. المطلوب أن يراه المسلم في ميدان المعركة التي خاضها، والتي لا يزال مستعدا لأن يخوضها في حياة الأمة المسلمة. المطلوب أن يتوجه إليه المسلم ليسمع منه ماذا ينبغي أن يعمل -كما كان المسلم الأول يفعل- وليدرك حقيقة التوجيهات القرآنية فيما يحيط به اليوم من أحداث ومشكلات وملابسات شتى في الحياة؛ وليرى تاريخ الجماعة المسلمة ممثلا في هذا القرآن، متحركا في كلماته وتوجيهاته؛ فيحس حينئذ أن هذا التاريخ ليس غريبا عنه. فهو تاريخه. وواقعه اليوم هو امتداد لهذا التاريخ. وما يصادفه اليوم من أحداث هو ثمرة لما صادف أسلافه، مما كان القرآن يوجههم إلى التصرف فيه تصرفا معينا. ومن ثم يحس أن هذا القرآن قرآنه هو كذلك. قرآنه الذي يستثيره فيما يعرض له من أحداث وملابسات؛ وأنه هو دستور تصوره وتفكيره وحياته وتحركاته الآن وبعد الآن بلا انقطاع.
ويفيدنا ثانيا في رؤية حقيقة الطبيعة البشرية الثابتة المطردة تجاه دعوة الإيمان وتكاليفها. رؤيتها رؤية واقعية من خلال الواقع الذي تشير إليه الآيات القرآنية في حياة الجماعة المسلمة الأولى.. فهذه الجماعة التي كان يتنزل عليها القرآن، ويتعهدها رسول الله [ص] كان فيها بعض مواضع الضعف والنقص التي تقتضي الرعاية والتوجيه والإيحاء المستمر ولم يمنعها هذا أن تكون خير الأجيال جميعا.. وإدراك هذه الحقيقية ينفعنا.
ينفعنا لأنه يرينا حقيقة الجماعات البشرية بلا غلو ولا مبالغة ولا هالات ولا تصورات مجنحة! وينفعنا لأنه يدفع عن نفوسنا اليأس من أنفسنا حين نرى أننا لم نبلغ تلك الآفاق التي يرسمها الإسلام ويدعو الناس إلى بلوغها. فيكفي أن نكون في الطريق، وأن تكون محاولتنا مستمرة ومخلصة للوصول..
وينفعنا في إدراك حقيقة أخرى:وهي أن الدعوة إلى الكمال يجب أن تلاحق الناس، ولا تفتر ولا تني ولا تيئس إذا ظهرت بعض النقائص والعيوب. فالنفوس هكذا. وهي ترتفع رويدا رويدا بمتابعة الهتاف لها بالواجب، ودعوتها إلى الكمال المنشود، وتذكيرها الدائم بالخير، وتجميل الخير لها وتقبيح الشر، وتنفيرها من النقص والضعف، والأخذ بيدها كلما كبت في الطريق، وكلما طال بها الطريق!
ويفيدنا ثالثا في الاستقرار إلى هذه الحقيقة البسيطة التي كثيرا ما نغفل عنها وننساها:وهي أن الناس هم الناس؛ والدعوة هي الدعوة؛ والمعركة هي المعركة.. إنها أولا وقبل كل شيء معركة مع الضعف والنقص والشح والحرص في داخل النفس. ثم هي معركة مع الشر والباطل والضلال والطغيان في واقع الحياة. والمعركة بطرفيها لا بد من خوضها. ولا بد للقائمين على الجماعة المسلمة في الأرض من مواجهتها بطرفيها كما واجهها القرآن أول مرة وواجهها رسول الله [ص] ولا بد من الأخطاء والعثرات. ولا بد من ظهور الضعف والنقص في مراحل الطريق؛ ولا بد من المضي أيضا في علاج الضعف والنقص كلما أظهرتهما الأحداث والتجارب. ولا بد من توجيه القلوب إلى الله بالأساليب التي اتبعها القرآن في التوجيه.. وهنا نرجع إلى أول الحديث. نرجع إلى استشارة القرآن في حركات حياتنا وملابساتها. وإلى رؤيته يعمل ويتحرك في مشاعرنا وفي حياتنا كما كان يعمل ويتحرك في حياة الجماعة الأولى... والأن نواجه النصوص القرآنية في هذا الدرس تفصيلا: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة. والله يضاعف لمن يشاء. والله واسع عليم}... إن الدستور لا يبدأ بالفرض والتكليف؛ إنما يبدأ بالحض والتأليف.. إنه يستجيش المشاعر والانفعالات الحية في الكيان الإنساني كله.. إنه يعرض صورة من صور الحياة النابضة النامية المعطية الواهبة: صورة الزرع. هبة الأرض أو هبة الله. الزرع الذي يعطي أضعاف ما يأخذه، ويهب غلاته مضاعفة بالقياس إلى بذوره. يعرض هذه الصورة الموحية مثلا للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله:...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله} تشبيه حال جزائهم وبركتهم، والصلة مؤذنة بأنّ المراد خصوص حال إنفاقهم بتقدير مَثَلُ نفقةِ الدين. وقد شبه حالُ إعطاء النفقة ومصادفتها موقعها وما أعطي من الثواب لهم بحال حبَّة أنبتت سبع سنابل إلخ، أي زُرعت في أرض نقية وتراب طيّب وأصابها الغيث فأنبتت سبع سنابل. وحذف ذلك كله إيجازاً لظهور أنّ الحبّة لا تنبت ذلك إلاّ كذلك، فهو من تشبيه المعْقول بالمحسوس والمشبه به هيأة معلومة، وجعل أصل التمثيل في التضعيف حبّة لأنّ تضعيفها من ذاتها لا بشيء يزاد عليها، وقد شاع تشبيه المعروف بالزرع وتشبيه الساعي بالزارع، وفي المثل « رُب ساع لقاعد وزَارع غيرِ حاصد». ولما كانت المضاعفة تنسب إلى أصل وحدة، فأصل الوحدة هنا هي ما يثيبُ الله به على الحسنات الصغيرة، أي ما يقع ثواباً على أقلّ الحسنات كمن همّ بحسنة فلم يعملها، فإنّه في حسنة الإنفاق في سبيل الله يكون سبعمائة ضعف.
قال الواحدي في أسباب النزول وغيرُه: إنّ هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف؛ ذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك حث الناس على الإنفاق في سبيل الله. وكان الجيشُ يومئذ بحاجة إلى الجهاز وهو جيش العُسْرة فجاءه عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف، وقال عثمان بن عفان: « عَلَيّ جهاز من لا جهاز له» فجَهّز الجيش بألف بعير بأقْتَابها وأحْلاسِهَا وقيل جاء بألف دينار ذهباً فصبّها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعنى قوله: {والله يضاعف لمن يشاء} أنّ المضاعفة درجات كثيرة لا يعلمها إلاّ الله تعالى؛ لأنّها تترتّب على أحوال المتصدّق وأحوال المتصدّق عليه وأوقات ذلك وأماكنه. وللإخلاص وقصد الامتثال ومحبة الخير للناس والإيثار على النفس وغير ذلك مما يحفّ بالصدقة والإنفاق، تأثير في تضعيف الأجر، والله واسع عليم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن الجهاد في سبيل الحق له ميادين ثلاثة:
أولها: الإقناع بالحجة والبرهان، كما قال سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" (النحل 125) وإن ذلك الجدال مع أهل الشر الذين مردت نفوسهم على النفاق والمغالبة بالباطل ليس أمرا سهلا يسيرا، بل هو أمر الأمور؛ لأن التقاء العقل الذي أناره نور الحق بالعقل الذي طمس الله على بصيرته ليس من الأمور التي يستطيعها كل العقلاء.
و الميدان الثاني من ميادين الجهاد: الجهاد المسلح، بمنع اعتداء الباطل، وخضد شوكته وفل حدته، وحمله على الجادة، ومنع أهله أن يفتنوا الناس في دينهم، وإن ذلك أظهر ميادين الجهاد، وهو باب من أبواب الجنة.
و الميدان الثالث من ميادين الجهاد: البر وإعطاء المال، وبذله مع طيبة النفس ببذله وعطائه، وإذا كان المال قد سمي النفيس، فلأنه قطعة من نفس من يبذله، وإن بذل المال هو الذي يقوي وحدة المؤمنين؛ لأنه من التعاون بين الفقير والغني، والتعاون جماع كل القوى، وفوق ذلك فإن إمداد الجند بالمال، إنما هو إمداد بذخيرة القتال، وعدة النزال، والمال في الحروب من عصبها، كما هو عصب كل إصلاح في الأمة...
و قد ذكر سبحانه وتعالى قصص القتال بين الحق والباطل، وكيف ينتصر الحق مع الإيمان به وقلة العدد والعدد، وينهزم الباطل مع كثرة العدد، وذكر عمل المرسلين، وتبليغهم رسالات ربهم، وذكر من ذلك مجادلة إبراهيم خليله لطاغية من طغاة الدنيا. و في هذه الآية الكريمة يذكر سبحانه ميدان الجهاد الثالث، وهو ميدان الصدقة غير الممنونة ولا الممنوعة...
وسبيل الله، هي سبيل النفع العام، والجهاد في سبيل الله وإعطاء السائل والمحروم أو بعبارة عامة: الإنفاق في سبيل كل خير، لا يقصد بالإنفاق فيه كل وجوه البر والنفع، ولكن إذا اجتمعت مع أبواب البر الأخرى، كان المقصود بها الإنفاق في الجهاد في سبيل الله، وهو الإنفاق على المحاربين والغزاة وإعداد العدة، كما هو في آية الصدقات في التوبة: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل} (التوبة 60)... ولذلك كان الغالب على هذا اللفظ أن يكون الإنفاق في سبيل الجهاد، وكل ما يعد القوة المدافعة عن الأمة...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
- تمثيل لأجر الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، فهم كمن زرع زرعاً الحبة منه تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. وتعقيب على ذلك بسبيل الحثّ، فالله يضاعف أجر الأعمال الصالحة ما يشاء من فضله وهو واسع الفضل عليم بأعمال الناس ونواياهم...
- تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله من دون منّ ولا أذى. سواء أكان بالإشارة أم بالكلام أم بالعمل، فهؤلاء لهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يلقوا لديه ما يخيفهم أو يحزنهم.
- ونهي عن المنّ والأذى وتنبيه على أن الكلمة الطيبة وإظهار الرأفة والعاطفة للمحتاج إلى الصدقة خير من الصدقة إذا أعطيت مع المنّ والأذى، وأن الله غني عن مثل هذه الصدقات حليم لا يتعجل بالغضب على مستحقه الذي يمنّ ويؤذي في سياق ما يعطيه من صدقات.
- وتشديد ثان في النهي عن ذلك فهو مبطل لأجر الصدقة، وحري بالمؤمنين أن لا يصدر ذلك منهم. ومثل الذي يحدث منه كمثل من ينفق ماله رياء، ولا يكون مؤمنا بالله واليوم الآخر، وتمثيل صدقات هؤلاء وأولئك بالتراب القليل الذي تحته صخر فمهما نزل عليه من وابل المطر لا يصلح للنبات والنماء ولا يلبث الوابل أن يجرفه وتظهر من تحته الصخرة صلداء ملساء، ولا يمكن أن ينتفعوا بأي شيء مما أنفقوه؛ لأنه ليس صادراً منهم عن حبّ التقرب إلى الله وابتغاء الخير لذاته وهؤلاء هم جاحدون ساءت نياتهم وخبثت سرائرهم فليس لهم إلى هدى الله ورضائه من سبيل.
- وتمثيل للذين ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله ورضائه وإيقاناً ورغبة صادقة في فعل الخير فهم كأرض بستان سمينة جيدة تنبت نباتها حسنا وتؤتي أكلها مضاعفاً سواء أكان المطر الذي ينزل عليها وابلاً أو طلاً.
- وتساؤل على سبيل التمثيل عما إذا كان أحد يودّ لنفسه أن تكون له جنة من نخيل وأعناب جيدة النماء والثمر وفيها المياه الكافية فتهب عليها ريح سموم فتحرقها في وقت يكون فيه في آخر عمره غير مستطيع إصلاح ما فسد منها وله ذرية ضعفاء ليس لهم طاقة على هذا الإصلاح، كأنما أريد بذلك تشبيه الإنفاق رياءً ومع المنّ والأذى كالنار المحرقة التي تعصف بأجره حين يكون في موقفه الحرج أمام الله في ظرف لا يكون إمكان لتلافي الأمر فيه.
- وأمر موجه إلى المسلمين بوجوب التصدق من أحسن ما يكون عندهم من مال وغلّة. ونهي عن قصد اختيار الرديء الفاسد الذي لا يقبلون هم أنفسهم أن يأخذوه إلا بثمن بخس ومع الغضاضة والاستكراه. وتنبيه على أن الله غني عن مثل هذه الصدقات في حين أنه يحمد لمستحق الحمد عمله الطيب. وإشارة تذكيرية إلى أن ما في أيديهم هو مما رزقهم إياه الله فيجب عليهم الإنفاق مما يسر لهم من الكسب ومن ثمرات الأرض الطيبة.
- وتنبيه على أن الإمساك أو الإنفاق من الخبيث الرديء دون الطيب إنما يكون استجابة لوسوسة الشيطان الذي يخوف المرء من الفقر حتى يمنعه عن الإنفاق والذي لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء والمعاصي. في حين أن الله إذ يأمر بالإنفاق من طيب المال وبدون أذى ولا رياء ويحثّ عليه إنما يدعوهم إلى ما فيه خيرهم واعداً إياهم بالرحمة والغفران وزيادة الفضل، وأنه واسع الفضل عليم بنوايا الناس وأعمالهم.
- وتنويه بالذين يفهمون الأمور حق الفهم فذلك هو الحكمة التي يهبها الله لمن يشاء، ومن رزقها فقد رزق الخير الكثير ولا يرزقها وينتفع بها إلا ذوو العقول النيرة والقلوب السليمة.
- وتقرير بأن الله يعلم بكل نفقة ينفقها الناس وبكل نذر يقيدون به أنفسهم في سبيل الخير والبرّ والقربى. ولن يكون للظالمين المجرمين والأشرار نصير عند الله كأنما تحت الجملة القرآنية على حسن النية في الإنفاق والنذور ووفاء الصدقات والنذور التي يقطع المرء على نفسه عهداً بإعطائها دون بخس ولا تقصير. 11- وإشارة إلى أن الصدقات هي فضيلة وخير وقربى في كل حال، سواء أظهرها أصحابها أم أخفوها وهم يعطونها للمحتاجين. واستدراك بأن عطاءها خفية أفضل، وتنبيه على أن الله خبير بأعمال الناس ونواياهم ويكفر عن الصادقين المخلصين ذنوبهم وهفواتهم.
- وخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى السامع إطلاقا بأنه ليس عليه أن يهدي الناس جميعاً فالهدى هدى الله. والتفات في الخطاب إلى المسلمين: فمما ينفقونه إنما هو لخيرهم إما ما كان ابتغاء وجه الله، وأن أجرهم عليه يوفّى دون بخس أو نقص.
- وتنبيه على وجوب الاهتمام لأمر فقراء المسلمين الذين حبسوا على سبيل الله ولم يعد في إمكانهم التكسب والارتزاق من جهة وهم متعففون لا يتشددون في السؤال من جهة أخرى. فواجب إعطاء هؤلاء أعظم وألزم والله عليم بما ينفقه الناس على أمثالهم وموفيهم عليه أجورهم.
- وتنويه أخير بالذين ينفقون أموالهم في كل حال بالليل وبالنهار وبالسر وبالعلن فلهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يكون لهم ما يخيفهم أو يحزنهم. وننبه على أن الآيات وإن كانت بدأت بآية فيها تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وحثّ على ذلك، فإن فيها ما يفيد أن التنويه والحثّ شاملان للذين يتصدقون على الفقراء مطلقاً بحيث يصح أن يقال: إن القرآن اعتبر هذا أيضا إنفاقاً في سبيل الله. وبذلك تكون الآيات فصلاً رائعاً في الإنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء وفضائل ذلك ومستحباته ومكروهاته وآدابه وشروطه. مع التنبيه على أن المتبادر من روح الآيات وفحواها أنها ليست في صدد الزكاة الواجب أداؤها، بل هي في صدد الإنفاق بصورة مطلقة بحيث تشمل الواجب والتطوع معاً...
ويتكلم الحق سبحانه وتعالى عن تلك القضية المهمة في البناء الاجتماعي والبناء الاقتصادي بعد إثبات قضية البعث والإحياء والإماتة لكي تكون ماثلة أمامنا وينتقل بنا الحق سبحانه وتعالى كي يعطينا الكيان الإسلامي الاقتصادي والاجتماعي. فيقول جل شأنه: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم 261} إن الله ينسب المال للبشر المتحركين؛ لأنهم أخذوا هذه الأموال بحركتهم. وفي موضع آخر من القرآن يقول الحق: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} (من الآية 33 سورة النور). إن المال كله مال الله، وقد أخذه الإنسان بالحركة، فاحترام الله هذه الحركة، واحترام الله في الإنسان قانون النفعية، فجعل المال المتبقي من حركتك ملكا لك أيها الإنسان، لكن إن أراد الله هذا المال فسيأخذه، ومن فضل الله على الإنسان أنه سبحانه حين يطلب من الإنسان بعضا من المال المتبقي من حركته فهو يطلبه كقرض، ويرده مضاعفا بعد ذلك... إذن فالإنفاق في سبيل الله يرده الله مضاعفا، ومادام الله يضاعفه فهو يزيد، لذلك لا تحزن ولا تخف على مالك؛ لأنك أعطيته لمقتدر قادر واسع عليم. إنه الحق الذي يقدر على إعطاء كل واحد حسب ما يريد هو سبحانه؛ إنه يعطي على قدر نية العبد وقدر إنفاقه.
وهذه الآية تعالج قضية الشح في النفس الإنسانية؛ فقد يكون عند الإنسان شيء زائد، وتشح به نفسه ويبخل، فيخاف أن ينفق منه فينقص هذا الشيء. وهنا تقول لك قضية الإيمان: أنفق لأنه سبحانه سيزيدك، والحق سيعطيك مثلما يعطيك من الأرض التي تزرعها. أنت تضع الحبة الواحدة. فهل تعطيك حبة واحدة؟ لا. إن حبة القمح تعطي كمية من العيدان وكل عود فيه سنبلة وهي مشتملة على حبوب كثيرة، فإذا كانت الأرض وهي مخلوقة لله تضاعف لك ما تعطيه أفلا يضاعف العطاء لك الذي خلقها؟ وإذا كان بعض من خلق الله يضاعف لك، فما بالك بالله جل وعلا؟...