{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } : يذكر تعالى أولي الألباب ، ما أنزله من السماء من الماء ، وأنه سلكه ينابيع في الأرض ، أي : أودعه فيها ينبوعا ، يستخرج بسهولة ويسر ، { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ } من بر وذرة ، وشعير وأرز ، وغير ذلك . { ثُمَّ يَهِيجُ } عند استكماله ، أو عند حدوث آفة فيه { فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا } متكسرا { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } يذكرون بها عناية ربهم ورحمته بعباده ، حيث يسر لهم هذا الماء ، وخزنه بخزائن الأرض تبعا لمصالحهم .
ويذكرون به كمال قدرته ، وأنه يحيي الموتى ، كما أحيا الأرض بعد موتها ، ويذكرون به أن الفاعل لذلك هو المستحق للعبادة .
اللّهم اجعلنا من أولي الألباب ، الذين نوهت بذكرهم ، وهديتهم بما أعطيتهم من العقول ، وأريتهم من أسرار كتابك وبديع آياتك ما لم يصل إليه غيرهم ، إنك أنت الوهاب .
يخبر تعالى : أن أصل الماء في الأرض من السماء كما قال تعالى : { وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } [ الفرقان : 48 ] ، فإذا أنزل الماء من السماء كَمَن في الأرض ، ثم يصرفه تعالى في أجزاء الأرض كما يشاء ، ويُنِبُعه عيونًا ما بين صغار وكبار ، بحسب الحاجة إليها ؛ ولهذا قال : { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ } .
قال ابن أبي حاتم - رحمه الله - : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا أبو قتيبة عتبة بن يقظان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ } ، قال : ليس في الأرض ماء إلا نزل من السماء ، ولكن عروق في الأرض تغيره ، فذلك قوله تعالى : { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ } ، فمن سره أن يعود الملح عذاب فليصعده .
وكذا قال سعيد بن جبير ، وعامر الشعبي : أن كل ماء في الأرض فأصله من السماء . وقال سعيد بن جبير : أصله من الثلج يعني : أن الثلج يتراكم على الجبال ، فيسكن في قرارها ، فتنبع العيون من أسافلها .
وقوله : { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ } أي : ثم يخرج بالماء النازل من السماء والنابع من الأرض زرعا { مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ } أي : أشكاله وطعومه وروائحه ومنافعه ، { ثُمَّ يَهِيجُ } أي : بعد نضارته وشبابه يكتهل { فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا } ، قد خالطه اليُبْس ، { ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا } أي : ثم يعود يابسا يتحطم ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ } أي : الذين يتذكرون بهذا فيعتبرون إلى أن الدنيا هكذا ، تكون خَضرةً نضرةً حسناء ، ثم تعود عَجُوزا شوهاء ، والشاب يعود شيخا هَرِما كبيرا ضعيفا قد خالطه اليبس ، وبعد ذلك كله الموت . فالسعيد من كان حاله بعده إلى خير ، وكثيرًا ما يضرب الله تعالى مثل الحياة الدنيا بما ينزل الله من السماء من ماء ، وينبت به زروعا وثمارا ، ثم يكون بعد ذلك حُطاما ، كما قال تعالى : { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا } [ الكهف : 45 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع} فجعله عيونا وركايا.
{في الأرض ثم يخرج به} بالماء {زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج} ييبس.
{فتراه} بعد الخضرة {مصفرا ثم يجعله حطاما} هالكا... هذا مثل ضربه الله في الدنيا كمثل النبت، بينما هو أخضر إذ تغير فيبس ثم هلك، فكذلك تهلك الدنيا بعد بهجتها وزينتها.
{إن في ذلك لذكرى} تفكر {لأولي الألباب}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"ألَمْ تَرَ" يا محمد "أنّ اللّهَ أنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً "وهو المطر "فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الأرْضِ" يقول: فأجراه عيونا في الأرض واحدها ينبوع، وهو ما جاش من الأرض... قال: ثم أنبت بذلك الماء الذي أنزله من السماء فجعله في الأرض عيونا "زرعا مُخْتَلِفا ألْوَانُهُ" يعني: أنواعا مختلفة من بين حنطة وشعير وسمسم وأرز، ونحو ذلك من الأنواع المختلفة، "ثُمّ يَهِيجُ فَتراهُ مُصْفَرّا" يقول: ثم ييبس ذلك الزرع من بعد خُضرته، يقال للأرض إذا يبس ما فيها من الخضر وذوي: هاجت الأرض، وهاج الزرع.
وقوله: "فَتراه مُصْفَرّا" يقول: فتراه من بعد خُضرته ورطوبته قد يبس فصار أصفر، وكذلك الزرع إذا يبس أصفر، "ثُمّ يَجْعَلُهُ حُطاما"، والحُطام: فتات التبن والحشيش، يقول: ثم يجعل ذلك الزرع بعد ما صار يابسا فُتاتا متكسرا.
وقوله: "إنّ فِي ذلكَ لَذِكْرَى لأُولي الألْبابِ" يقول تعالى ذكره: إن في فعل الله ذلك كالذي وصف لذكرى وموعظة لأهل العقول والحجا يتذكرون به، فيعلمون أن من فعل ذلك فلن يتعذّر عليه إحداث ما شاء من الأشياء، وإنشاء ما أراد من الأجسام والأعراض، وإحياء من هلك من خلقه من بعد مماته وإعادته من بعد فنائه، كهيئته قبل فَنائه، كالذي فُعِل بالأرض التي أنزل عليها من بعد موتها الماء، فأنبت بها الزرعَ المختلف الألوان بقدرته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الينابيع هي العيون التي تخرج من الأرض والآبار التي جعلت فيها؛ ليعلم أن المياه الخارجة من الأرض والجارية فيها أصلها من السماء، منزلة منها، وهي طهور على ما أخبر أنه أنزل {من السماء ماء طهورا} [الفرقان: 48]، وإن اختلف طعمه لاختلاف جواهر الأرض، ما لم يخالطه شيء من جواهر من القذارة والنجاسة وغيرها من الألوان التي تخرجه عن أن يكون طهورا، تغيره عن جوهره الذي أنزل من السماء...
ثم جعل الله عز وجل في شربة ذلك الماء معنى ولطفا ما يوافق جميع الأشجار والنبات، وكل خارج من الأرض، وإن اختلفت جواهرها وألوانها وطعومها؛ ليعلم أن من قدر على جعل ما جعل في الماء من اللطف والمعنى الذي يوافق كل شيء من النبات والشجر، وإن اختلفت جواهرها وألوانها وطعومها، لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء. ولا قوة إلا بالله...
أو يقول: إن من تكلف زرع الزراعة في الأرض، وتحمل المؤن العظام إلى أن بلغ المبلغ الذي ينتفع به، وينال منه النفع، تركه لم ينتفع به، أليس يوصف بالسفه وغير الحكمة؟ فكذلك الله سبحانه لما أنشأكم صغارا طفلا، وغذاكم بألوان الأغذية والأطعمة حتى كبرتم، وبلغتم مبلغ الانتفاع بكم، ثم أبلغكم بلا عاقبة تقصد بذلك كان غير حكيم، وقد عرفتموه حكيما، فدل أن المقصود في ذلك كله حتى يكون إنشاؤه إياكم صغارا وتربيته إياكم بألوان الأغذية التي جعل لكم حكمة، وهو البعث، ما لو لا يذلك كان سفها غير حكمة على ما ذكر من إخراج الزرع من الأرض الماء الذي أخرج، ثم تركه فيها حتى صار يابسا، لا ينتفع به كان سفيها غير حكيم. فعلى ذلك ما كان عند أولئك الكفرة أن لا بعث كان ما ذكر، والله أعلم...
وقوله تعالى: {إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب} أي في ما يذكر من إنزال الماء وإدخاله في الأرض وإخراج ما ذكر منها به، وما ذكر موعظة لأولي الألباب، أي لمن انتفع بلبه وعقله لما ذكرنا، وما ذكر لأهل الجنة من الغرف وغير ذلك...
{فسلكه ينابيع في الأرض} أدخله فيها، وجعله ينابيع أي عيونا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى} لتذكيراً وتنبيهاً، على أنه لا بدّ من صانع حكيم، وأن ذلك كائن عن تقدير وتدبير، لا عن تعطيل وإهمال، ويجوز أن يكون مثلاً للدنيا، كقوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا} [يونس: 24]
اعلم أنه تعالى لما وصف الآخرة بصفات توجب الرغبة العظيمة لأولي الألباب فيها وصف الدنيا بصفة توجب اشتداد النفرة عنها، وذلك أنه تعالى بين أنه أنزل من السماء ماء وهو المطر، ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه، ثم يهيج...
{إن في ذلك لذكرى} أن من شاهد هذه الأحوال في النبات علم أن أحوال الحيوان والإنسان كذلك وأنه وإن طال عمره فلا بد له من الانتهاء إلى أن يصير مصفر اللون منحطم الأعضاء والأجزاء، ثم تكون عاقبته الموت، فإذا كانت مشاهدة هذه الأحوال في النبات تذكره حصول مثل هذه الأحوال في نفسه وفي حياته، فحينئذ تعظم نفرته في الدنيا وطيباتها، والحاصل أنه تعالى في الآيات المتقدمة ذكر ما يقوي الرغبة في الآخرة، وذكر في هذه الآية ما يقوي النفرة عن الدنيا، فشرح صفات القيامة يقوي الرغبة في طاعة الله، وشرح صفات الدنيا يقوي النفرة عن الدنيا، وإنما قدم الترغيب في الآخرة على التنفير عن الدنيا؛ لأن الترغيب في الآخرة مقصود بالذات، والتنفير عن الدنيا مقصود بالعرض، والمقصود بالذات مقدم على المقصود بالعرض، فهذا تمام الكلام في تفسير الآية.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبر سبحانه بقدرته على البعث، دل عليها بما يتكرر مشاهدته من مثلها، وخص المصطفى صلى الله عليه وسلم بالخطاب حثاً على تأمل هذا الدليل تنبيهاً على عظمته فقال مقدراً: {ألم تر} مما يدلك على قدرته سبحانه على إعادة ما اضمحل وتمزق، وأرفت وتفرق: {أن الله} الذي له كل صفة كمال.
{أنزل من السماء} التي لا يستمسك الماء فيها إلا بقدرة باهرة تقهره على ذلك.
{ماء} كما تشاهدونه في كل عام {فسلكه} أي في خلال التراب حال كونه {ينابيع} أي عيوناً فائرة {في الأرض} فقهره على الصعود بعد أن غيبه في أعماقها بالفيض والصوب بعد أن كان قسره على الانضباط في العلو ثم أكرهه على النزول على مقدار معلوم وكيفية مدبرة وأمر مقسوم.
ولما كان إخراج النبات متراخياً عن نزول المطر، عبر بثم، وفيها أيضاً تنبيه على تعظيم الأمر فيما تلاها بأنه محل الشاهد فقال: {ثم يخرج} أي الله.
ولما كان اختلاف المسبب مع اتحاد السبب أعجب في الصنعة وأدل على بديع القدرة قال: {مختلفاً ألوانه} أي في الأصناف والكيفيات والطبائع والطعوم وغير ذلك مع اتحاد الماء الذي جمعه من أعماق الأرض بعد أن تفتت فيها وصار تراباً.
ولما كان الإيقاف بعد قوة الإشراف دالاً على القهر ونفوذ الأمر، قال إشارة إلى أن الخروج عن الحد غير محمود في شيء من الأشياء فإنه يعود عليه بالنقص {ثم يهيج} وزاد في تعظيم هذا المعنى للحث على تدبره بإسناده إلى خير الخلق صلى الله عليه وسلم فقال: {فتراه} فيتسبب عن هيجه وهو شدة ثورانه في نموه، بعد التمام بتوقيع الانصرام أنك تراه {مصفراً} آخذاً في الجفاف بعد تلك الزهرة والبهجة والنضرة.
ولما كان السياق لإظهار القدرة التامة، عبر بالجعل مسنداً إليه سبحانه بخلاف آية الحديد التي عبر فيها بالكون؛ لأن السياق ثَم؛ لأن الدنيا عدم فقال: {ثم يجعله حطاماً}.
ولما تم هذا على المنوال البديع الدال بلا شك لكل من رآه على أن فاعله قادر على الإعادة لما يريد بعد الإبادة، كما قدر على الإيجاد من العدم والإفادة لكل ما لم يكن، قال على سبيل التأكيد للتنبيه على أن إنكارهم غاية في الحمق والجمود:
{إن في ذلك} أي التدبير على هذا الوجه {لذكرى} أي تذكيراً عظيماً واضحاً على البعث وما يكون بعده.
{لأولي الألباب} أي العقول الصافية جداً كما نبه عليه بخصوص الخطاب في أول هذا الباب للمنزل عليه هذا الكتاب، وأما غيره وغير من تبعه بإحسان فهم كبهائم الحيوان...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن هذه الظاهرة التي يوجه القرآن إليها الأنظار للتأمل والتدبر، ظاهرة تتكرر في أنحاء الأرض، حتى لتذهب الألفة بجدتها وما فيها من عجائب في كل خطوة من خطواتها. والقرآن يوجه النظر إلى رؤية يد الله وتتبع آثارها في كل خطوة من خطوات الحياة. فهذا الماء النازل من السماء.. ما هو وكيف نزل؟ إننا نمر بهذه الخارقة سراعاً لطول الألفة وطول التكرار. إن خلق الماء في ذاته خارقة. ومهما عرفنا أنه ينشأ من اتحاد ذرتي أيدروجين بذرة أوكسجين تحت ظروف معينة، فإن هذه المعرفة خليقة بأن توقظ قلوبنا إلى رؤية يد الله التي صاغت هذا الكون بحيث يوجد الأيدروجين ويوجد الأوكسجين وتوجد الظروف التي تسمح باتحادهما، وبوجود الماء من هذا الاتحاد. ومن ثم وجود الحياة في هذه الأرض. ولولا الماء ما وجدت حياة. إنها سلسلة من التدبير حتى نصل إلى وجود الماء ووجود الحياة. والله من وراء هذا التدبير، وكله مما صنعت يداه..
ثم نزول هذا الماء بعد وجوده وهو الآخر خارقة جديدة، ناشئة من قيام الأرض والكون على هذا النظام الذي يسمح بتكون الماء ونزوله وفق تدبير الله. ثم تجيء الخطوة التالية لإنزال الماء:... (فسلكه ينابيع في الأرض).. سواء في ذلك الأنهار الجارية على سطح الأرض؛ أو الأنهار الجارية تحت طباقها مما يتسرب من المياه السطحية، ثم يتفجر بعد ذلك ينابيع وعيوناً، أو يتكشف آباراً. ويد الله تمسكه فلا يذهب في الأغوار البعيدة التي لا يظهر منها أبداً!
(ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه).. والحياة النباتية التي تعقب نزول الماء وتنشأ عنه؛ خارقة يقف أمامها جهد الإنسان حسيراً. ورؤية النبتة الصغيرة وهي تشق حجاب الأرض عنها؛ وتزيح أثقال الركام من فوقها؛ وتتطلع إلى الفضاء والنور والحرية؛ وهي تصعد إلى الفضاء رويداً رويداً.. هذه الرؤية كفيلة بأن تملأ القلب المفتوح ذكرى؛ وأن تثير فيه الإحساس بالله الخالق المبدع الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. والزرع المختلف الألوان في البقعة الواحدة. بل في النبتة الواحدة. بل في الزهرة الواحدة إن هو إلا معرض لإبداع القدرة؛ يُشعر الإنسان بالعجز المطلق عن الإتيان بشيء منه أصلاً! هذا الزرع النامي اللدن الرخص الطري بالحياة، يبلغ تمامه، ويستوفي أيامه: (ثم يهيج فتراه مصفراً).. وقد بلغ غايته المقدرة له في ناموس الوجود، وفي نظام الكون، وفي مراحل الحياة، فينضج للحصاد: (ثم يجعله حطاماً).. وقد استوفى أجله، وأدى دوره، وأنهى دورته كما قدر له واهب الحياة..
(إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب).. الذين يتدبرون فيذكرون، وينتفعون بما وهبهم الله من عقل وإدراك...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي انتُقل به إلى غرض التنويه بالقرآن وما احتوى عليه من هدى الإِسلام، وهو الغرض الذي ابتدئت به السورة وانثنى الكلام منه إلى الاستطراد بقوله تعالى: {فاعبد اللَّه مخلصاً له الدين} إلى هنا، فهذا تمهيد لقوله: {أفَمَن شَرَحَ الله صَدرهُ للإسلامِ} إلى قوله: {ذلِكَ هُدَى الله يهْدِي به من يشاءُ} فمُثلت حالة إنزال القرآن واهتداء المؤمنين به والوعدُ بنماء ذلك الاهتداء، بحالة إنزال المطر ونبات الزرع به واكتماله. وهذا التمثيل قابل لتجزئة أجزائه على أجزاء الحالة المشبه بها:
فإِنزال الماء من السماء تشبيه لإِنزال القرآن لإِحياء القلوب، وإسلاكُ الماء ينابيع في الأرض تشبيه لِتبليغ القرآن للناس، وإخراج الزرع المختلف الألوان تشبيه لحال اختلاف الناس من طَيِّب وغيره، ونافع وضار، وهياج الزرع تشبيه لِتكاثر المؤمنين بين المشركين. وأما قوله تعالى: {ثُمَّ يَجْعلُهُ حُطاماً} فهو إدماج للتذكير بحالة الممات واستواءِ الناس فيها من نافع وضار. وفي تعقيب هذا بقوله: {أفَمَن شَرَحَ الله صدرَهُ للإسلامِ} إلى قوله: {وَمَن يُضْلِل الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} إشارة إلى العبرة من هذا التمثيل...
وقريب من تمثيل هذه الآية ما في « الصحيحين» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نَقيَّةٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعُشُب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قيعانٌ لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً فذلك مَثَل من فقُه في دين الله ونفعَه ما بعثني الله به فعَلِم وعَلَّم، ومثَل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلتُ به".
ويجوز أن يكون المعنى أصالةً وإدماجاً على عكس ما بيّنا، فيكونَ عَوْداً إلى الاستدلال على تفرد الله تعالى بالإلهية بدليل من مخلوقاته التي يشاهدها الناس مشاهدة متكررة، فيكونَ قوله تعالى: {ألم ترَ أن الله أنزل من السماءِ ماءً} إلى قوله: {إن في ذلك لذكرى لأولي الألبابِ} متصلاً بقوله تعالى: {خلقكم من نفسٍ واحدةٍ ثمَّ جعَلَ منها زَوجَهَا} المتصل بقوله تعالى: {خَلَق السماواتِ والأرض بالحقِ يُكورُ الليل على النَّهار}، ويكونَ ما بيناه من تمثيل حال نزول القرآن وانتفاع المؤمنين إدماجاً في هذا الاستدلال. وعلى كلا الوجهين أُدمج في أثناء الكلام إيماء إلى إمكان إحياء الناس حياة ثانية...
والكلام استفهام تقريري، والخطاب لكل من يصلح للخطاب فليس المراد به مخاطباً معيَّناً. والرؤية بصرية...