{ 59 - 60 ْ } { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ْ }
يقول تعالى - منكرًا على المشركين ، الذين ابتدعوا تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم{[404]} - : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ ْ } يعني أنواع الحيوانات المحللة ، التي جعلها الله رزقا لهم ورحمة في حقهم . { فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا ْ } قل لهم - موبخا على هذا القول الفاسد- : { آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ْ } ومن المعلوم أن الله لم يأذن لهم ، فعلم أنهم مفترون .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : نزلت إنكارًا على المشركين فيما كانوا يحرمون ويحلون من البحائر والسوائب والوصايا ، كقوله تعالى : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا } [ الأنعام : 136 ] الآيات .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، سمعت أبا الأحوص - وهو عوف بن [ مالك بن ]{[14274]} نضلة - يحدث عن أبيه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قَشْف الهيئة ، فقال : " هل لك مال ؟ " قال : قلت : نعم . قال : " من أي المال ؟ " قال : قلت : من كل المال ، من الإبل والرقيق والخيل والغنم . فقال{[14275]} إذا آتاك مالا فَلْيُرَ عليك " . وقال : " هل تنتج إبل قومك صحاحا آذانُها ، فتعمَد إلى موسى فتقطع آذانها ، فتقول : هذه بحر وتشقها ، أو تشق جلودها وتقول : هذه صُرُم ، وتحرمها{[14276]} عليك وعلى أهلك ؟ " قال : نعم . قال : " فإن ما آتاك الله لك حل ، وساعد الله أشد من ساعدك ، وموسى الله أحد من موساك " وذكر تمام الحديث . {[14277]} ثم رواه عن سفيان بن عيينة ، عن أبي الزعراء عمرو بن عمرو ، عن عمه أبي الأحوص{[14278]} وعن بَهْز بن أسد ، عن حماد بن سلمة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أبي الأحوص ، به{[14279]} وهذا حديث جيد قوي الإسناد .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مّآ أَنزَلَ اللّهُ لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركين : أرَأيْتُمْ أيها الناس ما أنْزَلَ الله لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ يقول : ما خلق الله لكم من الرزق فخوّلكموه ، وذلك ما تتغذّون به من الأطعمة فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاما وَحَلالاً يقول : فحللتم بعض ذلك لأنفسكم ، وحرّمتم بعضه عليها وذلك كتحريمهم ما كانوا يحرّمونه من حروثهم التي كانوا يجعلونها لأوثانهم ، كما وصفهم الله به فقال : وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبا فَقالُوا هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكائِنا . ومن الأنعام ما كانوا يحرّمونه بالتبحير والتسيبب ونحو ذلك ، مما قدمناه فيما مضى من كتابنا هذا . يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد آللّهُ أذِنَ لَكُمْ بأن تحرّموا ما حرّمتم منه أمْ على اللّهِ تَفْتَرونَ : أي تقولون الباطل وتكذبون ؟
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : إن أهل الجاهلية كانوا يحرّمون أشياء أحلها الله من الثياب وغيرها ، وهو قول الله : قُلْ أرأيْتُمْ ما أنْزَلَ اللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاما وَحَلالاً وهو هذا ، فأنزل الله تعالى : قُلْ مَنْ حَرّم زِينَةَ اللّهِ التي أخْرَجَ لِعِبادِهِ . . . . الآية .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : قُلْ أرأيْتُمْ ما أنْزَلَ اللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ . . . إلى قوله : أمْ على اللّهِ تَفْتَرُونَ قال : هم أهل الشرك .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قوله : فجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامَا وَحَلالاً قال : الحرث والأنعام .
قال ابن جريج : قال مجاهد : البحائر والسيب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامَا وَحَلالاً قال : في البحيرة والسائبة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قُلْ أرأيْتُمْ ما أنْزَلَ اللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامَا وَحَلالاً . . . الآية ، يقول : كلّ رزق لم أحرّم حرّمتموه على أنفسكم من نسائكم وأموالكم وأولادكم آللّهُ أذِنَ لَكُمْ فيما حرّمتم من ذلك أَمْ عَلىَ الله تَفْتَرُونَ ؟
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : قُلْ أرأيْتُمْ ما أنْزَلَ اللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامَا وَحَلالاً . فقرأ حتى بلغ : أمْ على اللّهِ تَفْتَرُونَ . وقرأ وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا ومُحَرّمٌ على أزْوَاجِنا . وقرأ : وَقالُوا هَذِه أنْعامٌ وحَرْثُ حِجْرٌ . . . حتى بلغ : لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْها . فقال : هذا قوله : جعل لهم رزقا ، فجعلوا منه حراما وحلالاً ، وحرّموا بعضه وأحَلّوا بعضه . وقرأ : ثَمانِيَةَ أزْوَاج منَ الضّأْن اثْنَيْنِ وَمِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذّكَرَيْنِ حَرّمَ أمِ الأُنْثَيَيْنِ أمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أرْحامُ الأُنْثَيَيْنِ أيّ هذين حرّم على هؤلاء الذين يقولون وأحلّ لهؤلاء ؟ نَبّئُونِي بِعِلْمٍ إنْ كُنْتُمْ صَادقِينَ أمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إذْ وَصّاكُمْ اللّهُ بِهَذَا . . . إلى آخر الاَيات .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : قُلْ أرأيْتُمْ ما أنْزَلَ اللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْق فجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامَا وَحَلالاً هو الذي قال الله : وَجَعَلُوا للّهِ مِمّا ذَرأَ مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبا . . . إلى قوله : ساءَ ما يَحْكمونَ .
هذه المخاطبة لكفار العرب الذين جعلوا البحائر والسوائب والنصيب من الحرث والأنعام وغير ذلك مما لم يأذن الله به ، وإنما اختلقوه بأمرهم ، وقوله تعالى : { أنزل } لفظة فيها تجوز ، وإنزال الرزق ، إما أن يكون في ضمن إنزال المطر بالمآل ، أو نزول الأمر به الذي هو ظهور الأثر في المخلوق منه المخترع ، ثم أمر الله نبيه بتوقيفهم على أحد القسمين ، وهو لا يمكنهم ادعاء إذن الله تعالى في ذلك ، فلم يبق إلا أنهم افتروه ، وهذه الآية نحو قوله تعالى : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده }{[6145]} ، ذكر ذلك الطبري عن ابن عباس .