ثم أرسل إليه الرسل ، وأنزل عليه الكتب ، وهداه الطريق الموصلة إلى الله ، ورغبه{[1304]} فيها ، وأخبره بما له عند الوصول إلى الله .
ثم أخبره بالطريق الموصلة إلى الهلاك ، ورهبه منها ، وأخبره بما له إذا سلكها ، وابتلاه بذلك ، فانقسم الناس إلى شاكر لنعمة الله عليه ، قائم بما حمله الله من حقوقه ، وإلى كفور لنعمة الله عليه ، أنعم الله عليه بالنعم الدينية والدنيوية ، فردها ، وكفر بربه ، وسلك الطريق الموصلة إلى الهلاك .
وقوله : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ } أي : بيناه له ووضحناه وبصرناه به ، كقوله : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } [ فصلت : 17 ] ، وكقوله : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } [ البلد : 10 ] ، أي : بينا له طريق الخير وطريق الشر . وهذا قول عكرمة ، وعطية ، وابن زيد ، ومجاهد - في المشهور عنه - والجمهور .
ورُوي عن مجاهد ، وأبي صالح ، والضحاك ، والسدي أنهم قالوا في قوله : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ } يعني خروجه من الرحم . وهذا قول غريب ، والصحيح المشهور الأول .
وقوله : { إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } منصوب على الحال من " الهاء " في قوله : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ } تقديره : فهو في ذلك إما شقي وإما سعيد ، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم ، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل الناس يَغْدو ، فبائع نفسه فموبقها أو مُعْتقها " {[29584]} . وتقدم في سورة " الروم " عند قوله : { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } [ الروم : 30 ] من رواية جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة حتى يُعربَ عنه لسانه ، فإذا أعرب عنه لسانه ، فإما شاكرًا وإما كفورًا " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر ، حدثنا عبد الله بن جعفر ، عن عثمان بن محمد ، عن المقبري ، عن أبي هُرَيرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من خارج يخرج إلا ببابه رايتان : رايةٌ بيد مَلَك ، وراية بيد شَيطان ، فإن خرج لما يُحِبّ اللهُ اتبعَه المَلَك برايته ، فلم يزل تحت راية الملك حتى يرجع إلى بيته . وإن خرج لما يُسخط الله اتبعه الشيطان برايته ، فلم يزل تحت راية الشيطان ، حتى يرجع إلى بيته " {[29585]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن ابن خُثَيم ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن جابر بن عبد الله : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عُجرَة : " أعاذك الله من إمارة السفهاء " . قال : وما إمارة السفهاء ؟ قال : " أمراء يكونون من بعدي ، لا يهتدون بهداي ، ولا يستَنّونَ بسنتي ، فمن صَدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم ، فأولئك ليسوا مني ولست منهم ، ولا يَردُون على حوضي . ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يُعِنهم على ظلمهم ، فأولئك مني وأنا منهم ، وسيردون على حوضي . يا كعب بن عُجرَة ، الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة ، والصلاة قربان - أو قال : برهان - يا كعبَ بنَ عجرَة ، إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سُحْت ، النار أولى به . يا كعب ، الناس غَاديان ، فمبتاعُ نفسَه فمعتقها ، وبائع نفسه فموبقها " .
ورواه عن عَفّان ، عن وُهَيب{[29586]} ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، به{[29587]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّا هَدَيْنَاهُ السّبِيلَ إِمّا شَاكِراً وَإِمّا كَفُوراً * إِنّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : إنّا هَدَيْناهُ السّبِيلَ إنا بينا له طريق الجنة ، وعرّفناه سبيله ، إن شكر ، أو كفر . وإذا وُجّه الكلام إلى هذا المعنى ، كانت إما وإما في معنى الجزاء . وقد يجوز أن تكون إما وإما بمعنى واحد ، كما قال : إمّا يُعَذّبُهُمْ وَإمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ فيكون قوله : إما شاكِرا وَإمّا كَفُورا حالاً من الهاء التي في هديناه فيكون معنى الكلام إذا وُجه ذلك إلى هذا التأويل : إنا هديناه السبيل ، إما شقيا وإما سعيدا . وكان بعض نحويي البصرة يقول ذلك كما قال : «إما العذاب وإما الساعة » كأنك لم تذكر إما قال : وإن شئت ابتدأت ما بعدها فرفعته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إنّا هَدَيْناهُ السّبِيلَ قال : الشقوة والسّعادة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّا هَدَيْناهُ السّبِيلَ إمّا شاكِرا للنعم وإمّا كَفُورا . لها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : مِنْ نُطْفَةٍ أمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ . . . إلى إنّا هَدَيْناهُ السّبِيلَ قال : ننظر أيّ شيء يصنع ، أيّ الطريقين يسلك ، وأيّ الأمرين يأخذ ، قال : وهذا الاختبار .
وقوله تعالى : { إنا هديناه السبيل } يحتمل أن يريد { السبيل } العامة للمؤمن والكافر فذلك يختلق الحواس وموهبة الفطرة ونصب الصنعة الدالة على الصانع ، ف { هديناه } على هذا بمعنى أرشدناه كما يرشد الإنسان إلى الطريق ويوقف عليه ، ويحتمل أن يريد { السبيل } اسم الجنس ، أي هدى المؤمن إيمانه والكافر لكفره ف { هديناه } على هذا معناه أريناه وليس الهدى في هذه الآية بمعنى خلق الهدى والإيمان ، وقوله تعالى : { إما شاكراً وإما كفوراً } حالان وقسمتهما { إما } قاله أبو عمرو الداني ، وقرأ أبو العاج «إما شاكراً وإما كفوراً »{[11497]} وأبو العاج كثير بن عبد الله السلمي شامي ولى البصرة لهشام بن عبد الملك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.