ثم قال تعالى كاشفا عن حقيقة أحوالهم :
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ }
أولئك ، أي : المنافقون الموصوفون بتلك الصفات { الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى } أي : رغبوا في الضلالة ، رغبة المشتري بالسلعة ، التي من رغبته فيها يبذل فيها الأثمان{[52]} النفيسة . وهذا من أحسن الأمثلة ، فإنه جعل الضلالة ، التي هي غاية الشر ، كالسلعة ، وجعل الهدى الذي هو غاية الصلاح بمنزلة الثمن ، فبذلوا الهدى رغبة عنه بالضلالة رغبة فيها ، فهذه تجارتهم ، فبئس التجارة ، وبئس الصفقة صفقتهم{[53]} .
وإذا كان من بذل{[54]} دينارا في مقابلة درهم خاسرا ، فكيف من بذل جوهرة وأخذ عنها درهما ؟ " فكيف من بذل الهدى في مقابلة الضلالة ، واختار الشقاء على السعادة ، ورغب في سافل الأمور عن عاليها{[55]} ؟ " فما ربحت تجارته ، بل خسر فيها أعظم خسارة . { قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }
وقوله : { وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } تحقيق لضلالهم ، وأنهم لم يحصل لهم من الهداية شيء ، فهذه أوصافهم القبيحة .
قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مُرّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى } قال : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى .
وقال [ محمد ]{[1293]} بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى } أي : الكفر بالإيمان .
وقال مجاهد : آمنوا ثمّ كفروا .
وقال قتادة : استحبوا الضلالة على الهدى [ أي : الكفر بالإيمان ]{[1294]} . وهذا الذي قاله قتادة يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } [ فصلت : 17 ]{[1295]} .
وحاصل قول المفسرين فيما تقدم : أن المنافقين عَدَلوا عن الهدى إلى الضلال ، واعتاضوا عن الهدى بالضلالة ، وهو معنى قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى } أي بذلوا الهدى ثمنا للضلالة ، وسواء في ذلك من كان منهم قد حصل له الإيمان ثم رجع عنه إلى الكفر ، كما قال تعالى فيهم : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ } [ المنافقون : 3 ] ، أو أنهم استحبوا الضلالة على الهدى ، كما يكون{[1296]} حال فريق آخر منهم ، فإنهم أنواع وأقسام ؛ ولهذا قال تعالى : { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } أي : ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة ، { وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } أي : راشدين في صنيعهم ذلك .
قال{[1297]} ابن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } قد - والله - رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة ، ومن الجماعة إلى الفرقة ، ومن الأمن إلى الخوف ، ومن السنة إلى البدعة . وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، من حديث يزيد بن زُرَيْع ، عن سعيد ، عن قتادة ، بمثله سواء .
{ أُوْلََئِكَ الّذِينَ اشْتَرُواْ الضّلاَلَةَ بِالْهُدَىَ فَمَا رَبِحَتْ تّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }
قال أبو جعفر : إن قال قائل : وكيف اشترى هؤلاء القوم الضلالة بالهدى ، وإنما كانوا منافقين لم يتقدم نفاقهم إيمان فيقال فيهم باعوا هداهم الذي كانوا عليه بضلالتهم حتى استبدلوها منه ؟ وقد علمت أن معنى الشراء المفهوم اعتياض شيء ببذل شيء مكانه عوضا منه ، والمنافقون الذين وصفهم الله بهذه الصفة لم يكونوا قط على هدى فيتركوه ويعتاضوا منه كفرا ونفاقا ؟ قيل : قد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فنذكر ما قالوا فيه ، ثم نبين الصحيح من التأويل في ذلك إن شاء الله .
حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أُولَئِكَ الّذِينَ اشْتَروا الضّلالَةَ بالهُدَى أي الكفر بالإيمان .
وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : أُولَئِكَ الّذِينَ اشْتَروا الضّلالَةَ بالهُدَى يقول أخذوا الضلالة وتركوا الهدى .
وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : أُولَئِكَ الّذِينَ اشْتَروا الضّلالَةَ بالهُدَى : استحبّوا الضلالة على الهدى .
وحدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : أولَئِكَ الّذِينَ اشْتروا الضّلالَةَ بالهُدَى آمنوا ثم كفروا .
وحدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
قال أبو جعفر : فكأن الذين قالوا في تأويل ذلك : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى ، وجهوا معنى الشراء إلى أنه أخذ المشتري مكان الثمن المشترى به ، فقالوا : كذلك المنافق والكافر قد أخذا مكان الإيمان الكفر ، فكان ذلك منهما شراء للكفر والضلالة اللذين أخذاهما بتركهما ما تركا من الهدى ، وكان الهدى الذي تركاه هو الثمن الذي جعلاه عوضا من الضلالة التي أخذاها .
وأما الذين تأولوا أن معنى قوله : «اشتروا » : «استحبوا » ، فإنهم لما وجدوا الله جل ثناؤه قد وصف الكفار في موضع آخر فنسبهم إلى استحبابهم الكفر على الهدى ، فقال : وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهمْ فاسْتَحَبّوا العَمَى على الهُدَى صرفوا قوله : اشْتَروا الضّلالَةَ بالهُدَى إلى ذلك وقالوا : قد تدخل الباء مكان «على » ، و«على » مكان الباء ، كما يقال : مررت بفلان ومررت على فلان بمعنى واحد ، وكقول الله جل ثناؤه : وَمنْ أهْلِ الكِتابِ مَنْ إنْ تأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤدّهِ إلَيْكَ أي : على قنطار . فكان تأويل الآية على معنى هؤلاء : أولئك الذين اختاروا الضلالة على الهدى . وأراهم وجهوا معنى قول الله جل ثناؤه : اشْتَروا إلى معنى «اختاروا » ، لأن العرب تقول : اشتريت كذا على كذا ، و«استريته » يعنون اخترته عليه . ومن الاشتراء قول أعشى بني ثعلبة :
فقَدْ أُخْرِجُ الكاعبَ المُشْتَرا *** ةَ مِنْ خِدْرِها وأُشْيِعُ القِمَارا
يعني بالمشتراة : المختارة . وقال ذو الرمة في الاشتراء بمعنى الاختيار :
يَذُبّ القَصَايا عَنْ شَراةٍ كأنّها *** جماهيرُ تحتَ المُدْجِنَاتِ الهَوَاضِبِ
يعني بالشّراة : المختارة . وقال آخر في مثل ذلك :
إنّ الشّرَاةَ رُوقَةُ الأمْوَال *** وحَزْرَةُ القَلْبِ خِيارُ المَالِ
قال أبو جعفر : وهذا وإن كان وجها من التأويل فلست له بمختار ، لأن الله جل ثَناؤه قال فَمَا رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فدل بذلك على أن معنى قوله أولَئِكَ الّذِينَ اشْتَروا الضّلالَةَ بالهُدَى معنى الشراء الذي يتعارفه الناس من استبدال شيء مكان شيء وأخذ عوض على عوض .
وأما الذين قالوا : إن القوم كانوا مؤمنين وكفروا ، فإنه لا مؤنة عليهم لو كان الأمر على ما وصفوا به القوم لأن الأمر إذا كان كذلك فقد تركوا الإيمان ، واستبدلوا به الكفر عوضا من الهدى . وذلك هو المعنى المفهوم من معاني الشراء والبيع ، ولكن دلائل أول الاَيات في نعوتهم إلى آخرها دالة على أن القوم لم يكونوا قط استضاءوا بنور الإيمان ولا دخلوا في ملة الإسلام ، أوَ ما تسمع الله جل ثناؤه من لدنه ابتدأ في نعتهم إلى أن أتى على صفتهم إنما وصفهم بإظهار الكذب بألسنتهم بدعواهم التصديق بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، خداعا لله ولرسوله وللمؤمنين عند أنفسهم واستهزاءً في نفوسهم بالمؤمنين ، وهم لغير ما كانوا يظهرون مستبطنون ، لقول الله جل جلاله : { وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وَباليَوْمِ الاَخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } ثم اقتصّ قصصهم إلى قوله : أوْلَئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوا الضّلالَةَ بالهُدَى فأين الدلالة على أنهم كانوا مؤمنين فكفروا ؟ .
فإن كان قائل هذه المقالة ظنّ أن قوله : أُولَئِكَ الّذِينَ اشْتروا الضّلالَةَ بالهُدَى هو الدليل على أن القوم قد كانوا على الإيمان فانتقلوا عنه إلى الكفر ، فلذلك قيل لهم : اشتروا فإن ذلك تأويل غير مسلم له ، إذ كان الاشتراء عند مخالفيه قد يكون أخذ شيء بترك آخر غيره ، وقد يكون بمعنى الاختيار وبغير ذلك من المعاني . والكلمة إذا احتملت وجوها لم يكن لأحد صرف معناها إلى بعض وجوهها دون بعض إلا بحجة يجب التسليم لها .
قال أبو جعفر : والذي هو أولى عندي بتأويل الآية ما روينا عن ابن عباس وابن مسعود من تأويلهما قوله : اشْتَروا الضّلالَةَ بالهُدَى أخذوا الضلالة وتركوا الهدى . وذلك أن كل كافر بالله فإنه مستبدل بالإيمان كفرا باكتسابه الكفر الذي وجد منه بدلاً من الإيمان الذي أمر به . أَوَ ما تسمع الله جل ثناؤه يقول فيمن اكتسب كفرا به مكان الإيمان به وبرسوله : وَمَنْ يَتَبَدّلِ الكُفْرَ بالإيمَانِ فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِيلِ وذلك هو معنى الشراء ، لأن كل مشترٍ شيئا فإنما يستبدل مكان الذي يؤخذ منه من البدل آخر بدلاً منه ، فكذلك المنافق والكافر استبدلا بالهدى الضلالة والنفاق ، فأضلهما الله وسلبهما نور الهدى فترك جميعَهم في ظلمات لا يبصرون .
القول في تأويل قوله تعالى : فَمَا رَبحَتْ تِجارَتُهُمْ .
قال أبو جعفر : وتأويل ذلك أن المنافقين بشرائهم الضلالة بالهدى خسروا ولم يربحوا ، لأن الرابح من التجار المستبدل من سلعته المملوكة عليه بدلاً هو أنفس من سلعته أو أفضل من ثمنها الذي يبتاعها به . فأما المستبدل من سلعته بدلاً دونها ودون الثمن الذي يبتاعها به فهو الخاسر في تجارته لا شك . فكذلك الكافر والمنافق لأنهما اختارا الحيرة والعمى على الرشاد والهدى والخوف والرعب على الحفظ والأمن ، فاستبدلا في العاجل بالرشاد الحيرة ، وبالهدى الضلالة ، وبالحفظ الخوف ، وبالأمن الرعب مع ما قد أعدّ لهما في الاَجل من أليم العقاب وشديد العذاب ، فخابا وخسرا ، ذلك هو الخسران المبين .
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان قتادة يقول .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : فَمَا رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة ، ومن الجماعة إلى الفرقة ، ومن الأمن إلى الخوف ، ومن السنة إلى البدعة .
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : فما وجه قوله : فَمَا رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وهل التجارة مما تربح أو توكس فيقال ربحت أو وُضِعَتْ ؟ قيل : إن وجه ذلك على غير ما ظننت وإنما معنى ذلك : فما ربحوا في تجارتهم لا فيما اشتروا ولا فيما شروا . ولكن الله جل ثناؤه خاطب بكتابه عربا فسلك في خطابه إياهم وبيانه لهم مسلك خطاب بعضهم بعضا وبيانهم المستعمل بينهم . فلما كان فصيحا لديهم قول القائل لاَخر : خاب سعيك ، ونام ليلك ، وخسر بيعك ، ونحو ذلك من الكلام الذي لا يخفى على سامعه ما يريد قائله ، خاطبهم بالذي هو في منطقهم من الكلام فقال : فَمَا رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ إذ كان معقولاً عندهم أن الربح إنما هو في التجارة كما النوم في الليل ، فاكتفى بفهم المخاطبين بمعنى ذلك عن أن يقال : فما ربحوا في تجارتهم ، وإن كان ذلك معناه ، كما قال الشاعر :
وَشَرّ المَنايا مَيّتٌ وَسْطَ أهْلِهِ *** كهُلْكِ الفَتاةِ أسْلَم الحَيّ حاضِرُهْ
يعني بذلك : وشرّ المنايا منية ميت وسط أهله فاكتفى بفهم سامع قيله مراده من ذلك عن إظهار ما ترك إظهاره . وكما قال رؤبة بن العجاج :
حارِثُ قَدْ فَرّجْتَ عَني هَمّي *** فَنامَ لَيْلِي وَتَجَلّى غَمّي
فوصف بالنوم الليل ، ومعناه أنه هو الذي نام . وكما قال جرير بن الخَطَفَي :
وأعْوَرَ مِن نَبَهانَ أما نَهارُهُ فأعْمَى وأمّا لَيْلُهُ فَبَصِيرُ
فأضاف العمى والإبصار إلى الليل والنهار ، ومراده وصف النبهاني بذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : وَما كانُوا مُهْتَدِين .
يعني بقوله جل ثناؤه : وَما كانُوا مُهْتَدِينَ ما كانوا رشداء في اختيارهم الضلالة على الهدى ، واستبدالهم الكفر بالإيمان ، واشترائهم النفاق بالتصديق والإقرار .
{ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } اختاروها عليه واستبدلوها به ، وأصله بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الأعيان ، فإن كان أحد العوضين ناضا تعين من حيث إنه لا يطلب لعينه أن يكون ثمنا وبذله اشتراء ، وإلا فأي العوضين تصورته بصورة الثمن فباذله مشتر وآخذه بائع ، ولذلك عدت الكلمتان من الأضداد ، ثم استعير للإعراض عما في يده محصلا به غيره ، سواء كان من المعاني أو الأعيان ، ومنه قول الشاعر :
أخذت بالجملة رأسا أزعرا *** وبالثنايا الواضحات الدردرا
وبالطويل العمر عمرا جيذرا *** كما اشترى المسلم إذ تنصرا
ثم اتسع فيه فاستعمل للرغبة عن الشيء طمعا في غيره ، والمعنى أنهم أخلوا بالهدى الذي جعله الله لهم بالفطرة التي فطر الناس عليها محصلين الضلالة التي ذهبوا إليها . أو اختاروا الضلالة واستحبوها على الهدى .
{ فما ربحت تجارتهم } ترشيح للمجاز ، لما استعمل الاشتراء في معاملتهم أتبعه ما يشاكله تمثيلا لخسارتهم ، ونحوه :
ولما رأيت النسر عز بن دأية *** وعشش في وكريه جاش له صدري والتجارة : طلب الربح بالبيع والشراء ، والربح : الفضل على رأس المال ، ولذلك سمي شفا ، وإسناده إلى التجارة وهو لأربابها على الاتساع لتلبسها بالفاعل ، أو لمشابهتها إياه من حيث إنها سبب الربح والخسران .
{ وما كانوا مهتدين } لطرق التجارة ، فإن المقصود منها سلامة رأس المال والربح ، وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين لأن رأس مالهم كان الفطرة السليمة ، والعقل الصرف ، فلما اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعدادهم ، واختل عقلهم ، ولم يبق لهم رأس مال يتوسلون به إلى درك الحق ، ونيل الكمال ، فبقوا خاسرين أيسين من الربح فاقدين للأصل .
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ( 16 )
وقوله : { أولئك } إشارة إلى المتقدم ذكرهم( {[268]} ) ، وهو رفع بالابتداء و { الذين } خبره ، و { اشتروا } صلة ل { الذين } ، وأصله اشتريوا تحركت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفاً فحذفت لالتقاء الساكنين ، وقيل استثقلت الضمة على الياء فسكنت وحذفت للالتقاء وحركت الواو بعد ذلك للالتقاء بالساكن بعدها ، وخصت بالضم لوجوه منها أن الضمة أخت الواو وأخف الحركات عليها ، ومنها أنه لما كانت واو جماعة ضمت كما فعل بالنون في «نحنُ » .
ومنها أنها ضمت إتباعاً لحركة الياء المحذوفة قبلها .
قال أبو علي : «صار الضم فيها أولى ليفصل بينها وبين واو » أو «و » لو «إذ هذان يحركان بالكسر »( {[269]} ) .
وقرأ أبو السمال قعنب العدوي( {[270]} ) بفتح الواو في : «اشتروَا الضلالة » .
وقرأها يحيى بن يعمر بكسر الواو . والضلالة والضلال : التلف نقيض الهدى الذي هو الرشاد إلى المقصد .
واختلفت عبارة المفسرين عن معنى قوله : { اشتروا الضلالة بالهدى } فقال قوم : «أخذوا الضلالة وتركوا الهدى »( {[271]} ) .
وقال آخرون : استحبوا الضلالة وتجنبوا الهدى( {[272]} ) كما قال تعالى : { فاستحبوا العمى على الهدى } [ فصلت : 17 ] .
وقال آخرون : الشراء هنا استعارة وتشبيه ، لما تركوا الهدى وهو معرض( {[273]} ) لهم ووقعوا بدله في الضلالة واختاروها شبهوا بمن اشترى فكأنهم دفعوا في الضلالة هداهم إذ كان لهم أخذه . ( {[274]} )
وبهذا المعنى تعلق مالك رحمه الله في منع أن يشتري الرجل على أن يتخير في كل ما تختلف آحاد جنسه ولا يجوز فيه التفاضل . ( {[275]} )
وقال قوم : الآية فيمن كان آمن من المنافقين ثم ارتد في باطنه وعقده ويقرب الشراء من الحقيقة على هذا . ( {[276]} )
وقوله تعالى : { فما ربحت تجارتهم } ختم للمثل بما يشبه مبدأه في لفظة الشراء( {[277]} ) ، وأسند الربح إلى التجارة كما قالوا : «ليل قائم ونهار صائم » . والمعنى فما ربحوا في تجارتهم .
وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة «فما ربحت تجاراتهم » بالجمع .
وقوله تعالى : { وما كانوا مهتدين } قيل المعنى في شرائهم هذا ، وقيل على الإطلاق ، وقيل في سابق علم الله ، وكل هذا يحتمله اللفظ .