{ لِنَجْعَلَهَا } أي : الجارية والمراد جنسها ، { لَكُمْ تَذْكِرَةً } تذكركم أول سفينة صنعت وما قصتها وكيف نجى الله عليها من آمن به واتبع رسوله وأهلك أهل الأرض كلهم فإن جنس الشيء مذكر بأصله .
وقوله : { وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } أي : تعقلها أولو الألباب ويعرفون المقصود منها ووجه الآية بها .
وهذا بخلاف أهل الإعراض والغفلة وأهل البلادة وعدم الفطنة فإنهم ليس لهم انتفاع بآيات الله لعدم وعيهم عن الله ، وفكرهم بآيات الله{[1211]}
{ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً } عاد الضمير على الجنس لدلالة المعنى عليه ، أي : وأبقينا لكم من جنسها ما تركبون على تيار الماء في البحار ، كما قال : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْه } [ الزخرف : 12 ، 13 ] ، وقال تعالى : { وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } [ يس : 41 ، 42 ] .
وقال قتادة : أبقى الله السفينة حتى أدركها أوائل هذه الأمة . والأول أظهر ؛ ولهذا قال : { وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } أي : وتفهم هذه النعمة ، وتذكرها أذن واعية .
قال ابن عباس : حافظة سامعة{[29269]} وقال قتادة : { أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } عقلت{[29270]} عن الله فانتفعت بما سمعت من كتاب الله ، وقال الضحاك : { وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } سمعتها أذن ووعت . أي : من له سمع صحيح وعقل رجيح . وهذا عام فيمن فهم ، ووعى .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعة الدمشقي ، حدثنا العباس بن الوليد بن صبح الدمشقي ، حدثنا زيد بن يحيى ، حدثنا علي بن حوشب ، سمعت مكحولا يقول : لما نزل{[29271]} على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سألت ربي أن يجعلها أذُنَ عَلِيّ " . [ قال مكحول ]{[29272]} فكان عَلِيّ يقول : ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط فنسيته .
وهكذا رواه ابن جرير ، عن علي بن سهل ، عن الوليد بن مسلم ، عن علي بن حوشب ، عن مكحول{[29273]} به . وهو حديث مرسل .
وقد قال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا جعفر بن محمد بن عامر ، حدثنا بشر{[29274]} بن آدم ، حدثنا عبد الله بن الزبير أبو محمد - يعني والد أبي أحمد الزبيري - حدثني صالح بن الهيثم ، سمعت بريدة الأسلمي يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : " إني أمرت أن أدنيك ولا أقصيك ، وأن أعلمك وأن تعي ، وحُقّ لك أن تعي " . قال : فنزلت هذه الآية { وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ }
ورواه ابن جرير عن محمد بن خلف ، عن بشر بن آدم ، به{[29275]} ثم رواه ابن جرير من طريق آخر عن داود الأعمى ، عن بُرَيدة ، به . ولا يصح أيضا .
وقوله : لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً يقول : لنجعل السفينة الجارية التي حملناكم فيها لكم تذكرة ، يعني عبرة وموعظة تتعظون بها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً فأبقاها الله تذكرة وعبرة وآية حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة ، وكم من سفينة قد كانت بعد سفينة نوح قد صارت رمادا .
وقوله : وَتَعِيها أُذُنٌ وَاعِيَةٌ يعني حافظة عقلت عن الله ما سمعت . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس وَتَعِيَها أُذُنٌ وَاعِيَةٌ يقول : حافظة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وَتَعِيها أُذُنٌ وَاعِيَة يقول : سامعة ، وذلك الإعلان . ذكر من قال ذلك :
حدثنا نصر بن عليّ ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا خالد بن قيس ، عن قتادة وَتَعِيها أُذُنٌ وَاعِيَةٌ قال : أذن عقلت عن الله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَتَعِيها أُذُنٌ وَاعِيَةٌ أذن عقلت عن الله ، فانتفعت بما سمعت من كتاب الله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة أُذُنٌ وَاعِيَةٌ قال : أذن سمعت ، وعقلت ما سمعت .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : الضحاك يقول في قوله : وَتَعِيَها أُذُنٌ وَاعِيَةٌ سمعتها أذن ووعت .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، عن عليّ بن حوشب ، قال : سمعت مكحولاً يقول : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : وَتَعِيها أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ثم التفت إلى عليّ ، فقال : «سأَلْتُ اللّهَ أنْ يَجْعَلَها أُذُنَكَ » ، قال عليّ رضي الله عنه : فما سمعت شيئا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسيته .
حدثني محمد بن خلف ، قال : ثني بشر بن آدم ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، قال : ثني عبد الله بن رستم ، قال : سمعت بُرَيدة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعليّ : «يا عَليّ إنّ اللّهَ أمَرَنِي أنْ أُدْنِيَكَ وَلا أُقْصِيَكَ ، وأنْ أُعَلّمَكَ ، وأنْ تَعيَ ، وحَقّ على اللّهِ أنْ تَعِيَ » ، قال : فنزلت وَتَعِيها أُذُنٌ وَاعِيَةٌ .
حدثني محمد بن خلف ، قال : حدثنا الحسن بن حماد ، قال : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أبو يحيى التيميّ عن فضيل بن عبد الله ، عن أبي داود ، عن بُرَيدة الأسلميّ ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعليّ : «إنّ اللّهَ أمَرَني أنْ أُعَلّمَكَ وأنْ أُدْنِيَكَ وَلا أجْفُوَكَ وَلا أُقْصِيَكَ » ، ثم ذكر مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَتَعِيها أُذُنٌ وَاعِيَةٌ قال : واعية يحذرون معاصي الله أن يعذّبهم الله عليها ، كما عذّب من كان قبلهم تسمعها فتعيها ، إنما تعي القلوب ما تسمع الاَذان من الخير والشرّ من باب الوعي .
لنجعلها لكم لنجعل الفعلة وهي إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين تذكرة عبرة ودلالة على قدرة الصانع وحكمته وكمال قهره ورحمته وتعيها وتحفظها وعن ابن كثير تعيها بسكون العين تشبيها بكتف والوعي أن تحفظ الشيء في نفسك والإيعاء أن تحفظه في غيرك أذن واعية من شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه بتذكره وإشاعته والتفكر فيه والعمل بموجبه والتنكير للدلالة على قلتها وأن من هذا شأنه مع قلته تسبب لإنجاء الجم الغفيروإدامة نسلهم وقرأ نافع أذن بالتخفيف .
وقوله تعالى : { وتعيها أذن واعية } عبارة عن الرجل الفهم المنور القلب ، الذي يسمع القول فيتلقاه بفهم وتدبر . قال أبو عمران الجوني : { واعية } عقلت عن الله عز وجل . ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه :
«إني دعوت الله تعالى أن يجعلها أذنك يا علي » . قال علي : فما سمعت بعد ذلك شيئاً فنسيته{[11281]} . وقرأ الجمهور : «تعِيها » بكسر العين على وزن تليها . وقرأ ابن كثير في رواية الحلواني وقنبل وابن مصرف : «وتَعْيها » بسكون العين جعل التاء التي هي علامة في المضارع بمنزلة الكاف من كتف إذ حرف المضارع لا يفارق الفعل فسكن تخفيفاً كما يقال : كتف ونحو هذا قول الشاعر :
قالت سليمى اشترْ لنا سويقا{[11282]}*** على أن هذا البيت منفصل ، فهو أبعد لكن ضرورة الشعر تسامح به .