اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لِنَجۡعَلَهَا لَكُمۡ تَذۡكِرَةٗ وَتَعِيَهَآ أُذُنٞ وَٰعِيَةٞ} (12)

قوله : { لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً } ، أي : سفينة نوح - عليه الصلاة والسلام - جعلها الله تذكرة وعظةً لهذه الأمةِ حتى أدركها أوائلهم . في قول قتادة .

قال ابن جريجِ : كانت ألواحُهَا على الجوديِّ ، والمعنى : أبقيتُ لكم الخشباتِ حتى تذكروا ما حلَّ بقوم نوحٍ ، وأنجى الله أباكم ، وكم من سفينةٍ هلكت وصارت تراباً ، ولم يبق منها شيءٌ ، وهذا قولُ الفرَّاءِ .

قال ابنُ الخطيبِ{[57751]} : وهذا ضعيفٌ ، بل الصوابُ ما قاله الزجاج : أن الضمير في قوله : «لنجعلها » يعود إلى «الواقِعَة » التي هي معلومةٌ ، وإن كانت هنا غير مذكورةٍ ، والتقدير : لنجعل نجاةَ المؤمنين وإغراق الكافرين عظةً ، وعبرةً ، ويدل على صحته قوله : { وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } فالضمير في قوله : «وتَعِيهَا » لا يمكن عوده إلى السفينة ، فكذا الضمير الأول .

قوله : «وتَعِيهَا » العامة : على كسر العين وتخفيف التاء ، وهو مضارع «وَعَى » منصوب عطفاً على «لنجْعَلهَا » .

وابن مصرف وأبو عمرو في رواية هارون{[57752]} عنه وقنبل ، قال القرطبي{[57753]} : وحميد والأعرج بإسكانها تشبيهاً له ب «رحم ، وشهد » وإن لم يكن منه ، ولكن صار في اللفظ بمنزلة الفعل الحلقي العين .

قال ابن الخطيب{[57754]} : وروى عن ابن كثيرٍ إسكان العين ، جعل حرف المضارعة مع ما بعده بمنزلةٍ واحدةٍ ، فحذف وأسكن كما أسكن الحرف المتوسط من «فَخْذ وكَبْد وكَتْف » ، وإنما فعل ذلك ؛ لأن حرف المضارعة لا ينفصل من الفعل ، فأشبه ما هو من نفس الكلمة ، وصار كقول من قال : وَهْو وَهْي ، ومثل ذلك { وَيَتَّقْهِ }[ النور : 52 ] في قراءة من سكَّن القاف .

وروي عن حمزة : إخفاء{[57755]} الكسرة .

وروي عن عاصم وحمزة{[57756]} : بتشديد «الياء » .

وهو غلط عليهما ، وإنما سمعهما الراوي يثبتان حركة الياء ، فظنَّها شدة .

وقيل : أجريا الوصل مجرى الوقف فضعِّف الحرفُ ، وهذا لا ينبغي أن يلتفت إليه .

وروي عن حمزة أيضاً ، وموسى{[57757]} بن عبد الله العبسي : «وتعِيهَا » بسكون «الياء » .

وفيه وجهان : الاستئناف ، والعطف على المنصوب ، وإنما سكنا «الياء » استثقالاً للحركة على حرف العلة ، كقراءة :{ تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ }[ المائدة : 89 ] .

فصل في «وعى »

قال الزَّجَّاجُ : يقال : وعيتُ كذا ، أي : حفظتُه في نفسي ، أعيه وعْياً ووعيتُ العلمَ ، ووعيتُ ما قلته كله بمعنى ، وأوعيت المتاع في الوعاء .

قال الزجاجُ : يقال لكل ما حفظته في غير نفسك : أوعيتُه - بالألف - ولما حفظته في نفسك : وعيته ، بغير ألف .

قال ابن الخطيب{[57758]} : واعلم أن وجه التذكير في هذا أن نجاة قومٍ من الغرقِ في السَّفينة ، وتغريق من سواهم يدل على قدرة مدبر العالم ، ونفاذ مشيئته ، ونهاية حكمته ، ورحمته ، وشدة قهره .

«روي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال عند نزول هذه الآية : " سَألْتُ اللَّه أنْ يَجْعلهَا أذنَكَ يا عليُّ " ، قال علي رضي الله عنه : " فما نَسِيتُ شيئاً بعد ذلك " {[57759]} .

فإن قيل : لِمَ قال : «أذُنٌ واعِيَةٌ » على التوحيد والتنكير ؟ .

فالجوابُ : للإيذان بأن الوعاة فيهم قلةٌ ، ولتوبيخ الناس بقلة من يَعِي منهم ، والدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعيت وعقلتْ عن الله ، فهي السَّواد الأعظم عند الله ، وأن سواها لا يلتفت إليهم ، وإن امتلأ العالمُ منهم .

ونظير هذه الآية قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ }[ ق : 37 ] .

قال قتادة : الأذُنُ الواعيةُ أذنٌ عقلتْ عن الله تعالى ، وانتفعت بما سمعت من كتاب الله عز وجل{[57760]} .


[57751]:ينظر: الفخر الرازي 30/94.
[57752]:ينظر: البحر المحيط 8/137، والدر المصون 6/8363.
[57753]:الجامع لأحكام القرآن 18/171.
[57754]:ينظر: الفخر الرازي 30/94.
[57755]:ينظر: البحر المحيط 8/137، والدر المصون 6/363.
[57756]:ينظر السابق.
[57757]:ينظر السابق.
[57758]:ينظر: الفخر الرازي 3/94.
[57759]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/213) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/407) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق شهر بن حوشب عن مكحول به.
[57760]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/213) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/13) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد.