{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ } أي : قد حصل عندك من وسائل الآخرة ما ليس عند غيرك من الأموال ، فابتغ بها ما عند اللّه ، وتصدق ولا تقتصر على مجرد نيل الشهوات ، وتحصيل اللذات ، { وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } أي : لا نأمرك أن تتصدق بجميع مالك وتبقى ضائعا ، بل أنفق لآخرتك ، واستمتع بدنياك استمتاعا لا يثلم دينك ، ولا يضر بآخرتك ، { وَأَحْسَنُ } إلى عباد اللّه { كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ } بهذه الأموال ، { وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ } بالتكبر والعمل بمعاصي اللّه والاشتغال بالنعم عن المنعم ، { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } بل يعاقبهم على ذلك ، أشد العقوبة .
وقوله : { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } أي : استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة ، في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات ، التي يحصل لك بها الثواب في الدار الآخرة . { وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } أي : مما أباح الله فيها{[22406]} من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح ، فإن لربك عليك حقًّا ، ولنفسك عليك حقًّا ، ولأهلك عليك حقًّا ، ولزورك عليك حقا ، فآت كل ذي حق حقه .
{ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ } أي : أحسن إلى خلقه كما أحسن هو إليك { وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ } أي : لا تكنْ همتك بما أنت فيه أن تفسد به الأرض{[22407]} ، وتسيء إلى خلق الله { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ اللّهُ الدّارَ الاَخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُفْسِدِينَ } .
يقول تعالى ذكره ، مخبرا عن قيل قوم قارون له : لا تبغ يا قارون على قومك ، بكثرة مالك ، والتمس فيما آتاك الله من الأموال خيرات الاَخرة ، بالعمل فيها بطاعة الله في الدنيا . وقوله : وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدّنْيا يقول : ولا تترك نصيبك وحظك من الدنيا ، أن تأخذ فيها بنصيبك من الاَخرة ، فتعمل فيه بما ينجيك غدا من عقاب الله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدّنْيا ، وأحْسِنْ كمَا أحْسَنَ اللّهُ إلَيْكَ يقول : لا تترك أن تعمل لله في الدنيا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن ابن عباس وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدّنْيا قال : أن تعمل فيها لاَخرتك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا قرة بن خالد ، عن عون بن عبد الله وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدّنْيا قال : إن قوما يضعونها على غير موضعها . ولا تنس نصيبك من الدنيا : تعمل فيها بطاعة الله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدّنْيا قال : العمل بطاعته .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال : تعمل في دنياك لاَخرتك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدّنْيا قال : العمل فيها بطاعة الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عيسى الجُرَشِيّ ، عن مجاهد وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدّنْيا قال : أن تعمل في دنياك لاَخرتك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن مجاهد ، قال : العمل بطاعة الله : نصيبه من الدنيا ، الذي يُثاب عليه في الاَخرة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدّنْيا قال : لا تنس أن تقدّم من دنياك لاَخرتك ، فإِنما تجد في آخرتك ما قدّمت في الدنيا ، فيما رزقك الله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا تترك أن تطلب فيها حَظّك من الرزق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدّنْيا : قال الحسن : ما أحلّ الله لك منها ، فإن لك فيه غِنًى وكفاية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن حميد المَعْمَريّ ، عن مَعْمر ، عن قَتادة : وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدّنْيا قال : طَلَب الحَلال .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص ، عن أشعث ، عن الحسن وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدّنْيا : قال : قدّم الفضل ، وأمسك ما يبلغك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : الحلال فيها .
وقوله : وأحْسِنْ كمَا أحْسَنَ اللّهُ إلَيْكَ يقول : وأحسن في الدنيا إنفاق مالك الذي آتاكه الله ، في وجوهه وسبُله ، كما أحسن الله إليك ، فوسع عليك منه ، وبسط لك فيها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأحْسِنْ كمَا أحْسَنَ اللّهُ إلَيْكَ قال : أحسن فيما رزقك الله وَلا تَبْغِ الفَسادَ فِي الأرْضِ يقول : ولا تلتمس ما حرّم الله عليك من البغي على قومك إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُفْسِدِينَ يقول : إن الله لا يحبّ بُغاة البغي والمعاصي .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.