تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَٰهَرُوهُم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن صَيَاصِيهِمۡ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ فَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ وَتَأۡسِرُونَ فَرِيقٗا} (26)

{ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ } أي عاونوهم { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } أي : اليهود { مِنْ صَيَاصِيهِمْ } أي : أنزلهم من حصونهم ، نزولاً مظفورًا بهم ، مجعولين تحت حكم الإسلام .

{ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } فلم يقووا على القتال ، بل استسلموا وخضعوا وذلوا . { فَرِيقًا تَقْتُلُونَ } وهم الرجال المقاتلون { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا } مَنْ عداهم من النساء والصبيان .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَٰهَرُوهُم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن صَيَاصِيهِمۡ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ فَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ وَتَأۡسِرُونَ فَرِيقٗا} (26)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم ذكر يهود أهل قريظة حيي بن أخطب ومن معه، الذين أعانوا المشركين يوم الخندق على قتال النبي صلى الله عليه وسلم فقال عز وجل {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم} أعانوهم، تعني اليهود أعانوا المشركين على قتال النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.

{من أهل الكتاب} قريظة {من صياصيهم} من حصونهم.

{وقذف في قلوبهم الرعب فريقا} طائفة {تقتلون} فقتل منهم أربعمائة وخمسين رجلا.

{وتأسرون فريقا} وتسبون طائفة سبعمائة وخمسين.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وأنزل الله الذين أعانوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وذلك هو مظاهرتهم إياه، وعنى بذلك بني قريظة، وهم الذين ظاهروا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله "مِنْ أهْلِ الكِتابِ "يعني: من أهل التوراة، وكانوا يهود: وقوله: "منْ صَياصِيهمْ" يعني: من حصونهم...

عن قتادة، قوله: "وأنْزَلَ الّذينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ" وهم بنو قُرَيظة، ظاهروا أبا سفيان وراسلوه، فنكثوا العهد الذي بينهم وبين نبيّ الله. قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش يغسل رأسه، وقد غسلت شقه، إذ أتاه جبرائيل صلى الله عليه وسلم، فقال: عفا الله عنك، ما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة، فانهض إلى بني قريظة، فإني قد قطعت أوتارهم، وفتحت أبوابهم، وتركتهم في زلزال وبلبال قال: فاستلأم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سلك سكة بني غنم، فاتبعه الناس وقد عصب حاجبه بالتراب قال: فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصروهم وناداهم: يا إخوان القردة، فقالوا: يا أبا القاسم ما كنت فحاشا، فنزلوا على حكم ابن معاذ، وكان بينهم وبين قومه حلف، فرجوا أن تأخذه فيهم هوادة، وأومأ إليهم أبو لبابة أنه الذبح، فأنزل الله: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ وتَخُونُوا أماناتكمْ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ" فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وأن تسبى ذراريهم، وأن عقارهم للمهاجرين دون الأنصار، فقال قومه وعشيرته: آثرت المهاجرين بالعقار علينا قال: فإنكم كنتم ذوي عقار، وإن المهاجرين كانوا لا عقار لهم. وذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر وقال: «قَضَى فِيكُمْ بِحُكْمِ اللّهِ»...

وقوله: "وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهُمُ الرّعْبَ" يقول: وألقى في قلوبهم الخوف منكم "فَريقا تَقْتُلُونَ" يقول: تقتلون منهم جماعة، وهم الذين قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم حين ظهر عليهم، "وتَأْسِرُونَ فَرِيقا" يقول: وتأسرون منهم جماعة، وهم نساؤهم وذراريهم الذين سبوا...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

إنّ الحقَّ -سبحانه- إذا أجمل أكمل، وإذا شفى كفى، وإذا وفى أوفى. فأظفر المسلمين عليهم، وأورثهم معاقلَهم، وأذلّ مُتعزِّزَهم، وكفاهم بكلِّ وجهٍ أمرهم، ومكَّنهم من قَتْلِهم وأسرِهم ونهْبِ أَموالهم، وسَبى ذراريهم.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{وقذف} فإن قذف الرعب قبل الإنزال لأن الرعب صار سبب الإنزال، ولكن لما كان الفرح في إنزالهم أكثر، قدم الإنزال على قذف الرعب، والله أعلم.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}: وهو الخوف؛ لأنهم كانوا مالؤوا المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس مَنْ يعلم كمن لا يعلم، فأخافوا المسلمين وراموا قتلهم ليَعزّوا في الدنيا، فانعكس عليهم الحال، وانقلب الفال، انشمر المشركون ففازوا بصفقة المغبون، فكما راموا العز ذلوا، وأرادوا استئصال المسلمين فاستؤصلوا، وأضيف إلى ذلك شقاوة الآخرة، فصارت الجملة أن هذه هي الصفقة الخاسرة؛ ولهذا قال تعالى: {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا}.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما أتم أمر الأحزاب، أتبعه حال الذين ألّبوهم، وكانوا سبباً في إتيانهم كحيي بن أخطب والذين مالأوهم على ذلك، ونقضوا ما كان لهم من عهد، فقال: {وأنزل الذين ظاهروهم}.

ثم بينهم بقوله مبعضاً: {من أهل الكتاب} وهم بنو قريظة ومن دخل معهم في حصنهم من بني النضير كحيي، وكان ذلك بعد إخراج بني قينقاع وبني النضير {من صياصيهم}

ولما كان الإنزال من محل التمنع عجباً، وكان على وجوه شتى، فلم يكن صريحاً في الإذلال، فتشوفت النفس إلى بيان حاله، بين أنه الذل فقال عاطفاً بالواو ليصلح لما قبل ولما بعد: {وقذف في قلوبهم الرعب} أي بعد الإنزال كما كان قذفه قبل الإنزال، فلو قدم القذف على الإنزال لما أفاد هذه الفوائد، ولا اشتدت ملاءمة ما بعده للإنزال.

ولما ذكر ما أذلهم به، ذكر ما تأثر عنه مقسماً له فقال: {فريقاً} فذكره بلفظ الفرقة ونصبه ليدل بادئ بدء على أنه طوع لأيدي الفاعلين: {تقتلون} وهم الرجال، وكان نحو سبعمائة.

ولما بدأ بما دل على التقسيم مما منه الفرقة، وقد أعظم الأثرين الناشئين عن الرعب، أولاه الأثر الآخر ليصير الأثران المحبوبان محتوشين بما يدل على الفرقة فقال: {وتأسرون فريقاً} ولعله أخر الفريق هنا ليفيد التخيير في أمرهم، وقدم في الرجال لتحتم القتل فيهم...

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب} أي الخوف الشديد بحيث أسلموا أنفسهم للقتل وأهليهم وأولادهم للأسر حسبما ينطق به قوله تعالى: {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} أي من غير أن يكون من جهتهم حراك فضلاً عن المخالفة والاستعصاء.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وهكذا يتم استعراض ذلك الحادث الضخم، وقد اشتمل على السنن والقيم والتوجيهات والقواعد التي جاء القرآن ليقيمها في قلوب الجماعة المسلمة وفي حياتها على السواء، وهكذا تصبح الأحداث مادة للتربية؛ ويصبح القرآن دليلا وترجمانا للحياة وأحداثها، ولاتجاهها وتصوراتها، وتستقر القيم وتطمئن القلوب، بالابتلاء وبالقرآن سواء!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والإنزال: الإهباط، أي: من الحصون أو من المعتصمات كالجبال.

والقذف: الإلقاء السريع، أي: جعل الله في قلوبهم الرعب بأمره التكويني فاستسلموا ونزلوا على حكم المسلمين.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ.. وهو جندي من جنود الله، وهذا الرعب الذي ألقاه الله في قلوب الكافرين هو الذي فرقهم، ولم يجعل لكثرة العدد لديهم قيمة، وما فائدة أعداد كثيرة خائفة مذعورة {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ.. (4)} [المنافقون].

أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :

من الهداية: -بيان عاقبة الغدر فإِن قريظة لما غدرت برسول الله انتقم منها فسلط عليها رسوله والمؤمنين فأبادوهم عن آخرهم ولم يبق إلاّ الذين لا ذنب لهم وهم النساء والأطفال.

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَٰهَرُوهُم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن صَيَاصِيهِمۡ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ فَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ وَتَأۡسِرُونَ فَرِيقٗا} (26)

قوله تعالى : { وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ( 26 ) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا } .

لما قدمت جنود الأحزاب إلى المدينة لقتال المسلمين نقض بنو قريظة ما كان من عهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك بتحريض من حُيَيْ بن أخطب النضري ؛ إذ دخل حصنهم ولم يزل بسيدهم كعب بن أسد حتى نقض العهد وكان قد قال له : ويحك قد جئتك بعز الدهر ، أتيتك بقريش وأحابيشها وغطفان وأتباعها ، ولا يزالون ههنا حتى يستأصلوا محمدا وأصحابه . فقال له كعب : بل والله أتيتني بدل الهر ، ويحك يا حيي إنك مشئوم فدعنا منك فلم يزل يفتل في الذروة والغارب حتى أجابه كعب واشترط له حيي ، إن ذهب الأحزاب ولم يكن من أمرهم شيء إن يدخل معهم في الحصن ، فيكو لهم أسوتهم . فلما نقضت قريظة وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ساءه ذلك وشقَّ عليه وعلى المسلمين . فلما رد الله المشركين خائبين خاسرين ، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ظاهرا منصورا ووضع الناس السلاح ، تبدّى جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أوضَعْتَ السلاح . فقال عليه الصلاة والسلام " نعم " قال جبريل : لكن الملائكة لم تضع أسلحته . ثم قال : إن الله يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة . وفي رواية قال : إن الله أمرني أن أزلزل عليهم . فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوره وأمر الناس بالمسير إلى بني قريظة وكانت على أميال من المدينة وذلك بعد صلاة الظهر ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يصلين أحد منك العصر إلا في بني قريظة " .

فسار الناس فأدركتهم الصلاة في الطريق فصلى بعضهم في الطريق وقال آخرون : لا نصليها إلا في بني قريظة فلم يعنِّف واحدا من الفريقين ، وتبعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم ( رضي الله عنه ) وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) . ثم نازلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة ، فلنا طال عليهم الحال نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس ( رضي الله عنه ) لأنهم كانوا حلفاء في الجاهلية واعتقدوا أنه يحسن إليهم في ذلك كما فعل عبد الله ابن سلول في مواليه بني قينقاع حين استطلقهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فظن هؤلاء أن سعدا سيفعل فيهم كما فعل أبيّ في أولئك . لكن سعدا ( رضي الله عنه ) كان قد أصابه سهم في أكحله{[3723]} أيام الخندق فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزله في قبة في المسجد ليعوده من قريب . وكتب الله على بني قريظة أن ينزلوا على حكمه باختيارهم طلبا من تلقاء أنفسهم . وعند ذلك استدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ليحكم فيهم . فلما أقبل وهو راكب على حمار جعل الأوس يلوذون به ويقولون : يا سعد إنهم مواليك فأحسن فيهم ، ويرققونه عليهم ويُعطّفونه وهو ساكت لا يرد عليهم . فلما أكثروا عليه قال ( رضي الله عنه ) : لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومةُ لائم ، فعرفوا أنه غير مستبقيهم ، فلما جلس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن هؤلاء – وأشار إليهم – قد نزلوا على حكمك فاحكم فيهم بما شئت " فقال ( رضي الله عنه ) : وحكمي نافذ عليهم ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " نعم " فقال ( رضي الله عنه ) : إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم وتُسبي ذريتهم وأموالهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة " ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأخاديد فخُذَّت في الأرض ، وجيء بهم مكتفين ، فضرب أعناقهم ، وكانوا ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة وسبى من لم ينبت منهم مع النساء وأموالهم{[3724]} ولهذا قال تعالى { وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ } يعني أنزل الذين عاونوا الأحزاب من أهل الكتاب وهم بنو قريظة { مِنْ صَيَاصِيهِمْ } أي من قلاعهم أو حصونهم جمع صيصة وهي ما يُتحصّنُ به .

قوله : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } قذف الله في قلوب يهود الخوف والذعر فاستسلموا للقتل والسبي . وهو قوله سبحانه وتعالى : { فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا } أي تقتلون الرجال وتأسرون النساء والذرية . وكان عدد المأسورين ما بين سبعمائة وتسعمائة .


[3723]:الأكحل: عرق في الذراع يُفصد. انظر المصباح المنير ج 2 ص 186
[3724]:تفسير ابن كثير ج 3 ص 478