{ 51 } { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا }
وهذا أيضًا من توسعة اللّه على رسوله ورحمته به ، أن أباح له ترك القسم بين زوجاته ، على وجه الوجوب ، وأنه إن فعل ذلك ، فهو تبرع منه ، ومع ذلك ، فقد كان صلى اللّه عليه وسلم يجتهد في القسم بينهن في كل شيء ، ويقول " اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما لا أملك " .
فقال هنا : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ } [ أي : تؤخر من أردت من زوجاتك فلا تؤويها إليك ، ولا تبيت عندها ]{[717]} { وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } أي : تضمها وتبيت عندها .
{ و } مع ذلك لا يتعين هذا الأمر { مَنِ ابْتَغَيْتَ } أي : أن تؤويها { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ } والمعنى أن الخيرة بيدك في ذلك كله [ وقال كثير من المفسرين : إن هذا خاص بالواهبات ، له أن يرجي من يشاء ، ويؤوي من يشاء ، أي : إن شاء قبل من وهبت نفسها له ، وإن شاء لم يقبلها ، واللّه أعلم ]{[718]}
ثم بين الحكمة في ذلك فقال : { ذَلِكَ } أي : التوسعة عليك ، وكون الأمر راجعًا إليك وبيدك ، وكون ما جاء منك إليهن تبرعًا منك { أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } لعلمهن أنك لم تترك واجبًا ، ولم تفرط في حق لازم .
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } أي : ما يعرض لها عند أداء الحقوق الواجبة والمستحبة ، وعند المزاحمة في الحقوق ، فلذلك شرع لك التوسعة يا رسول اللّه ، لتطمئن قلوب زوجاتك .
{ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : واسع العلم ، كثير الحلم . ومن علمه ، أن شرع لكم ما هو أصلح لأموركم ، وأكثر لأجوركم . ومن حلمه ، أن لم يعاقبكم بما صدر منكم ، وما أصرت عليه قلوبكم من الشر .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ"؛ فقال بعضهم: عنى بقوله: ترجي: تؤخّر، وبقوله: تؤْوي: تضمّ... عن مجاهد، قوله: "تُرْجي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ "قال: تعزل بغير طلاق من أزواجك من تشاء، "وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ" قال: تردّها إليك...
وقال آخرون: معنى ذلك: تطلق وتخلي سبيل من شئت من نسائك، وتمسك من شئت منهنّ فلا تطلق...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: تترك نكاح من شئت، وتنكح من شئت من نساء أمتك... وقيل: إن ذلك إنما جعل الله لنبيه حين غار بعضهنّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وطلب بعضهنّ من النفقة زيادة على الذي كان يعطيها، فأمره الله أن يخيرهنّ بين الدار الدنيا والآخرة، وأن يخلي سبيل من اختار الحياة الدنيا وزينتها، ويمسك من اختار الله ورسوله، فلما اخترن الله ورسوله قيل لهنّ: اقررن الآن على الرضا بالله وبرسوله، قَسَم لكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لم يقسم، أو قسم لبعضكنّ، ولم يقسم لبعضكنّ، وفضل بعضكنّ على بعض في النفقة، أو لم يفضل، سوّى بينكنّ، أو لم يسوّ، فإن الأمر في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس لكم من ذلك شيء. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذُكر مع ما جعل الله له من ذلك، يسوّي بينهنّ في القَسم، إلا امرأة منهنّ أراد طلاقها، فرضيت بترك القسم لها...
قال: "وَمَنِ ابْتَغَيْتَ ممن عزلت": من ابتغى أصابه، ومن عزل لم يصبه، فخيرهنّ بين أن يرضين بهذا، أو يفارقهنّ، فاخترن الله ورسوله، إلا امرأة واحدة بدوية ذهبت. وكان على ذلك صلوات الله عليه، وقد شرط الله له هذا الشرط، ما زال يعدل بينهنّ حتى لقي الله.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره جعل لنبيه أن يرجي من النساء اللواتي أحلهنّ له من يشاء، ويُؤوي إليه منهنّ من يشاء، وذلك أنه لم يحصر معنى الإرجاء والإيواء على المنكوحات اللواتي كنّ في حباله، عندما نزلت هذه الآية دون غيرهنّ ممن يستحدث إيواؤها أو إرجاؤها منهنّ. وإذا كان ذلك كذلك، فمعنى الكلام: تؤخر من تشاء ممن وهبت نفسها لك، وأحللت لك نكاحها، فلا تقبلها ولا تنكحها، أو ممن هنّ في حبالك، فلا تقربها، وتضمّ إليك من تشاء ممن وهبت نفسها لك، أو أردت من النساء التي أحللت لك نكاحهنّ، فتقبلها أو تنكحها، وممن هي في حبالك فتجامعها إذا شئت، وتتركها إذا شئت بغير قَسْم.
وقوله: "وَمَنِ ابْتَغَيْتَ ممّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ" اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: ومن نكحت من نسائك فجامعت ممن لم تنكح، فعزلته عن الجماع، فلا جناح عليك... عن قتادة، في قوله: "وَمَنِ ابْتَغَيْتَ ممّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ" قال: جميعا هذه في نسائه، إن شاء أتى من شاء منهنّ، ولا جناح عليه...
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن استبدلت ممن أرجيت، فخليت سبيله من نسائك، أو ممن مات منهنّ ممن أحللت لك فلا جناح عليك...
وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، تأويل من قال: معنى ذلك: ومن ابتغيت إصابته من نسائك ممّنْ عَزَلْتَ عن ذلك منهنّ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ لدلالة قوله: "ذَلكَ أدْنَى أنْ تَقَرّ أعْيُنُهُنّ" على صحة ذلك، لأنه لا معنى لأن تقرّ أعينهنّ إذا هو صلى الله عليه وسلم استبدل بالميتة أو المطلقة منهنّ، إلا أن يعني بذلك: ذلك أدنى أن تقرّ أعين المنكوحة منهنّ، وذلك مما يدلّ عليه ظاهر التنزيل بعيد.
وقوله: "ذَلكَ أدْنَى أنْ تَقَرّ أعْيُنُهُنّ وَلا يَحْزَنّ" يقول: هذا الذي جعلت لك يا محمد من إذني لك أن ترجي من تشاء من النساء اللواتي جعلت لك إرجاءهنّ، وتؤوي من تشاء منهنّ، ووضعي عنك الحرج في ابتغائك إصابة من ابتغيت إصابته من نسائك، وعزلك عن ذلك من عزلت منهنّ، أقرب لنسائك أن تقرّ أعينهنّ به ولا يَحْزَنّ ويرضين بما آتيتهنّ كلهنّ من تفضيل من فضلت من قسم، أو نفقة وإيثار من آثرت منهم بذلك على غيره من نسائك، إذا هنّ علمن أنه من رضاي منك بذلك، وإذني لك به، وإطلاق مني لا من قِبَلك...
وقوله: "وَاللّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ" يقول: والله يعلم ما في قلوب الرجال من ميلها إلى بعض من عنده من النساء دون بعض بالهوى والمحبة يقول: فلذلك وضع عنك الحرج يا محمد فيما وُضع عنك من ابتغاء من ابتغيت منهنّ، ممن عزلت تفضلاً منه عليك بذلك وتكرمة.
"وكانَ اللّهُ عَلِيما" يقول: وكان الله ذا علم بأعمال عباده، وغير ذلك من الأشياء كلها "حَلِيما" يقول: ذا حلم على عباده، أن يعاجل أهل الذنوب منهم بالعقوبة، ولكنه ذو حلم وأناة عنهم، ليتوب من تاب منهم، وينيب من ذنوبه من أناب منهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ} فيه وعيدٌ لمن لم ترضَ منهنّ بما دبر الله من ذلك، وفوّض إلى مشيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثٌ على تواطؤ قلوبهنّ والتصافي بينهن والتوافق على طلب رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فيه طيب نفسه.
{وَكَانَ الله عَلِيماً} بذات الصدور {حَلِيماً} لا يعاجل بالعقاب.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... لأن سبب هذه الآيات إنما كان تغايراً وقع بين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم عليه فشقي بذلك، ففسح الله له وأنبهن بهذه الآيات.
{والله يعلم ما في قلوبكم} خبر عام، والإشارة به هنا إلى ما كان في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من محبة شخص دون شخص، وكذلك يدخل في المعنى أيضاً المؤمنون.
{حليماً} صفة تقتضي صفحاً وتأنيساً في هذا المعنى، إذ هي خواطر وفكر لا يملكها الإنسان في الأغلب، واتفقت الروايات على أنه عليه السلام عدل بينهن في القسمة حتى مات ولم يمتثل ما أبيح له ضبطاً لنفسه وأخذاً بالفضل، غير أن سودة وهبت نوبتها لعائشة تقمناً لمسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
وَرُوِيَ فِي الصَّحِيحِ "أَنَّ سَوْدَةَ لَمَّا كَبِرَتْ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ اجْعَلْ يَوْمِي مِنْك لِعَائِشَةَ، فَكَانَ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَيْنِ: يَوْمَهَا، وَيَوْمَ سَوْدَةَ".
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، أَيْضًا عن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَأْذِنُ فِي يَوْمِ الْمَرْأَةِ مِنَّا بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْت مِمَّنْ عَزَلْت فَلَا جُنَاحَ عَلَيْك}، فَقِيلَ لَهَا: مَا كُنْت تَقُولِينَ؟ قَالَتْ: كُنْت أَقُولُ: إنْ كَانَ الْأَمْرُ إلَيَّ فَإِنِّي لَا أُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أُوثِرَ عَلَيْك أَحَدًا.
وَبَعْضُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَتَدَاخَلُ مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا، وَهَذَا الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ.
{والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما} أي إن أضمرن خلاف ما أظهرن، فالله يعلم ضمائر القلوب فإنه عليم، فإن لم يعاتبهن في الحال فلا يغتررن فإنه حليم لا يعجل.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} أي: من الميل إلى بعضهن دون بعض، مما لا يمكن دفعه، كما قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قِلابة، عن عبد الله بن يزيد، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول:"اللهم هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" ورواه أهل السنن الأربعة، من حديث حماد بن سلمة -وزاد أبو داود بعد قوله: فلا تلمني فيما تملك ولا أملك: يعني القلب. وإسناده صحيح، ورجاله كلهم ثقات.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
... لما كان التأكيد أوقع في النفس وأنفى للبس، وكان هذا أمراً غريباً لبعده عن الطباع، أكد فقال: {كلهن} أي ليس منهن واحدة إلا هي كذلك راغبة فيك راضية بصحبتك إن آويتها أو أرجأتها، لما لك من حسن العشرة وكرم الأخلاق ومحاسن الشمائل وجميل الصحبة، وإن اخترت فراقها علمت أن هذا أمر من الله جازم، فكان ذلك أقل لحزنها فهو أقرب إلى قرار عينها بهذا الاعتبار.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والإِرجاء حقيقته: التأخير إلى وقت مستقبل.
الإِيواء: حقيقته جعل الشيء آوياً، أي راجعاً إلى مكانه؛ ومقابلة الإِرجاء بالإِيواء تقتضي أن الإِرجاء مراد منه ضد الإِيواء أو أن الإِيواء ضد الإِرجاء، وبذلك تنشأ احتمالات في المراد من الإِرجاء والإِيواء صريحهما وكنايتهما، ويشمل الإِرجاء الصنف الثالث وهن: بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله...، فالإِرجاء تأخير تزوج مَن يحلّ منهن، والإِيواء العقد على إحداهن، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج واحدة بعد نزول هذه الآية، وذلك إرجاء العمل بالإِذن فيهن إلى غير أجل معين، وكذلك إرجاء الصنف الرابع اللاء وهَبْن أنفسهن، سواء كان ذلك واقعاً بعد نزول الآية أم كان بعضه بعد نزولها فإرجاؤهن عدم قبول نكاح الواهبة، والتذييل بقوله: {والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليماً حليماً} كلام جامع لمعنى الترغيب والتحذير؛ ففيه ترغيب النبي صلى الله عليه وسلم في الإِحسان بأزواجه وإمائه والمتعرضات للتزوج به، وتحذير لهن من إضمار عدم الرضى بما يلقَيْنَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} لأنهن يشعرن بأن الله عندما جعل الأمر إليك، فإنه جعل لهن ضمانةً كبيرةً في الحصول على الحياة الكريمة الرحيمة، والمعاملة الحسنة، والميزان العادل الذي لن تختار فيه إلا ما يحقق لهن الرضا والطمأنينة وقرّة العين، لأن إنسانية الرسالة في عمق شخصيتك، وروحانية الشعور الرحيم في قلبك، لا تتحركان إلا بالخير كله والإحسان كله والعدل كله.
الأولى- قوله تعالى : " ترجي من تشاء " قرئ مهموزا وغير مهموز ، وهما لغتان ، يقال : أرجيت الأمر وأرجأته إذا أخرته . " وتؤوي " تضم ، يقال : آوى إليه . ( ممدودة الألف ) ضم إليه . وأوى ( مقصورة الألف ) انضم إليه .
الثانية- واختلف العلماء في تأويل هذه الآية ، وأصح ما قيل فيها . التوسعة على النبي صلى الله عليه وسلم في ترك القسم ، فكان لا يجب عليه القسم بين زوجاته . وهذا القول هو الذي يناسب ما مضى ، وهو الذي ثبت معناه في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : كنت أغار على اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول : أو تهب المرأة نفسها لرجل ؟ فلما أنزل الله عز وجل " ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت " قالت : قلت والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك . قال ابن العربي : هذا الذي ثبت في الصحيح هو الذي ينبغي أن يعول عليه . والمعنى المراد : هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخيرا في أزواجه ، إن شاء أن يقسم قسم ، وإن وشاء أن يترك القسم ترك . فخص النبي صلى الله عليه وسلم بأن جعل الأمر إليه فيه ، لكنه كان يقسم من قبل نفسه دون أن فرض ذلك عليه ، تطييبا لنفوسهن ، وصونا لهن عن أقوال الغيرة التي تؤدي إلى ما لا ينبغي . وقيل : كان القسم واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم ثم نسخ الوجوب عنه بهذه الآية . قال أبو رزين : كان رسول الله قد هم بطلاق بعض نسائه فقلن له : اقسم لنا ما شئت . فكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب ، فكان قسمتهن من نفسه وماله سواء بينهن . وكان ممن أرجى سودة وجويرية وأم حبيبة وميمونة وصفية ، فكان يقسم لهن ما شاء . وقيل : المراد الواهبات . وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قوله : " ترجي من تشاء منهن " قالت : هذا في الواهبات أنفسهن . قال الشعبي : هن الواهبات أنفسهن ، تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم منهن وترك منهن . وقال الزهري : ما علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرجأ أحدا من أزواجه ، بل آواهن كلهن . وقال ابن عباس وغيره : المعنى في طلاق من شاء ممن حصل في عصمته ، وإمساك من شاء . وقيل غير هذا . وعلى كل معنى فالآية معناها التوسعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإباحة . وما اخترناه أصح . والله أعلم .
الثالثة- ذهب هبة الله في الناسخ والمنسوخ إلى أن قوله : " ترجي من تشاء " الآية ، ناسخ لقوله : " لا يحل لك النساء من بعد " [ الأحزاب : 52 ] الآية . وقال : ليس في كتاب الله ناسخ تقدم المنسوخ سوى هذا . وكلامه يضعف من جهات . وفي " البقرة " عدة المتوفي عنها أربعة أشهر وعشر ، وهو ناسخ للحول وقد تقدم عليه{[12885]} .
الرابعة- قوله تعالى : " ومن ابتغيت ممن عزلت " " ابتغيت " طلبت ، والابتغاء الطلب . و " عزلت " أزلت ، والعزلة الإزالة ، أي إن أردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن من القسمة وتضمها إليك فلا بأس عليك في ذلك . كذلك حكم الإرجاء ، فدل أحد الطرفين على الثاني .
الخامسة- قوله تعالى : " فلا جناح عليك " أي لا ميل ، يقال : جنحت السفينة أي مالت إلى الأرض . أي لا ميل عليك باللوم والتوبيخ .
السادسة- قوله تعالى : " ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن " قال قتادة وغيره : أي ذلك التخيير الذي خيرناك في صحبتهن أدنى إلى رضاهن إذ كان من عندنا ، لأنهن إذا علمن أن الفعل{[12886]} من الله قرت أعينهن بذلك ورضين ، لأن المرء إذا علم أنه لا حق له في شيء كان راضيا بما أوتي منه وإن قل . وإن علم أن له حقا لم يقنعه ما أوتي منه ، واشتدت غيرته عليه وعظم حرصه فيه . فكان ما فعل الله لرسوله من تفويض الأمر إليه في أحوال أزواجه أقرب إلى رضاهن معه ، وإلى استقرار أعينهن بما يسمح به لهن ، دون أن تتعلق قلوبهن بأكثر منه وقرئ : " تقر أعينهن " بضم التاء ونصب الأعين . " وتقر أعينهن " على البناء للمفعول . وكان -عليه السلام مع هذا يشدد على نفسه في رعاية التسوية بينهن ، تطييبا لقلوبهن كما قدمناه - ويقول : ( اللهم هذه قدرتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) يعني قلبه ، لإيثاره عائشة رضي الله عنها دون أن يكون يظهر ذلك في شيء من فعله . وكان في مرضه الذي توفي فيه يطاف به محمولا على بيوت أزواجه ، إلى أن استأذنهن أن يقيم في بيت عائشة . قالت عائشة : أول ما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة ، فاستأذن أزواجه أن يمرض في بيتها - يعني في بيت عائشة - فأذن له . . . الحديث ، خرجه الصحيح . وفي الصحيح أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت : إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتفقد{[12887]} ، يقول : ( أين أنا اليوم أين أنا غدا ) استبطاء ليوم عائشة رضي الله عنها . قالت : فلما كان يومي قبضه الله تعالى بين سحري ونحري{[12888]} ، صلى الله عليه وسلم .
السابعة- على الرجل أن يعدل بين نسائه لكل واحدة منهن يوما وليلة ، هذا قول عامة العلماء . وذهب بعضهم إلى وجوب ذلك في الليل دون النهار . ولا يسقط حق الزوجة مرضها ولا حيضها ، ويلزمه المقام عندها في يومها وليلتها وعليه أن يعدل بينهن في مرضه كما يفعل في صحته ، إلا أن يعجز عن الحركة فيقيم حيث غلب عليه المرض ، فإذا صح استأنف القسم . والإماء والحرائر والكتابيات والمسلمات في ذلك سواء . قال عبد الملك : للحرة ليلتان وللأمة ليلة . وأما السراري فلا قسم بينهن وبين الحرائر ، ولا حظ لهن فيه .
الثامنة- ولا يجمع بينهن في منزل واحد إلا برضاهن ، ولا يدخل لإحداهن في يوم الأخرى وليلتها لغير حاجة . واختلف في دخوله لحاجة وضرورة ، فالأكثرون على جوازه ، مالك وغيره . وفي كتاب ابن حبيب منعه . وروى ابن بكير عن مالك عن يحيى بن سعيد أن معاذ بن جبل كانت له امرأتان ، فإذا كان يوم هذه لم يشرب من بيت الأخرى الماء . قال ابن بكير : وحدثنا مالك عن يحيى بن سعيد أن معاذ بن جبل كانت له امرأتان ماتتا في الطاعون ، فأسهم بينهما أيهما تدلى أول .
التاسعة-قال مالك : ويعدل بينهن في النفقة والكسوة إذا كن معتدلات الحال ، ( ولا يلزم ذلك في المختلفات المناصب ، وأجاز مالك أن يفضل إحداهما في الكسوة على غير وجه الميل . فأما الحب والبغض فخارجان عن الكسب فلا يتأتى العدل فهما ، وهو المعني بقوله صلى الله عليه وسلم في قسمه ( اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) . أخرجه النسائي وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها . وفي كتاب أبي داود " يعني القلب " ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " {[12889]} [ النساء : 129 ] وقوله تعالى : " والله يعلم ما في قلوبكم " . وهذا هو وجه تخصيصه بالذكر هنا ، تنبيها منه لنا على أنه يعلم ما في قلوبنا من ميل بعضنا إلى بعض من عندنا من النساء دون بعض ، وهو العالم بكل شيء " لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء " {[12890]} [ آل عمران : 5 ] " يعلم السر وأخفى " {[12891]} [ طه : 7 ] لكنه سمح في ذلك ، إذ لا يستطيع العبد أن يصرف قلبه عن ذلك الميل ، وإلى ذلك يعود قوله : " وكان الله غفورا رحيما " . وقد قيل في قوله : " ذلك أدنى أن تقر أعينهن "
العاشرة- أي ذلك أقرب ألا يحزن إذا لم يجمع إحداهن مع الأخرى ويعاين الأثرة والميل . وروى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ) " ويرضين بما آتيتهن كلهن " توكيد للضمير ، أي ويرضين كلهن . وأجاز أبو حاتم والزجاج " ويرضين بما آتيتهن كلهن " على التوكيد للمضمر الذي في " آتيتهن " . والفراء لا يجيزه ؛ لأن المعنى ليس عليه ، إذ كان المعنى وترضى كل واحدة منهن ، وليس المعنى بما أعطيتهن كلهن . النحاس : والذي قاله حسن .
الحادية عشرة- قوله تعالى : " والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما " خبر عام ، والإشارة إلى ما في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من محبة شخص دون شخص . وكذلك يدخل في المعنى أيضا المؤمنون . وفي البخاري عن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل ، فأتيته فقلت : أي الناس أحب إليك ؟ فقال : ( عائشة ) فقلت : من الرجال ؟ قال : ( أبوها ) قلت : ثم من ؟ قال : ( عمر بن الخطاب . . . ) فعد رجالا . وقد تقدم القول في القلب بما فيه كفاية في أول " البقرة " {[12892]} ، وفي أول هذه السورة{[12893]} . يروى أن لقمان الحكيم كان عبدا نجارا قال له سيده : اذبح شاة وائتني بأطيبها بضعتين ، فأتاه باللسان والقلب . ثم أمره بذبح شاة أخرى فقال له : ألق أخبثها بضعتين ، فألقى اللسان والقلب . فقال : أمرتك أن تأتيني بأطيبها بضعتين فأتيتني باللسان والقلب ، وأمرتك أن تلقي بأخبثها بضعتين فألقيت اللسان والقلب ؟ فقال : ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ، ولا أخبث منهما إذا خبثا .