هذا السؤال الصادر من أهل الكتاب للرسول محمد صلى الله عليه وسلم على وجه العناد والاقتراح ، وجعلهم هذا السؤال يتوقف عليه تصديقهم أو تكذيبهم . وهو أنهم سألوه أن ينزل عليهم القرآن جملة واحدة كما نزلت التوراة والإنجيل ، وهذا غاية الظلم منهم والجهل ، فإن الرسول بشر عبد مدبر ، ليس في يده من الأمر شيء ، بل الأمر كله لله ، وهو الذي يرسل وينزل ما يشاء على عباده كما قال تعالى عن الرسول ، لما ذكر الآيات التي فيها اقتراح المشركين على محمد صلى الله عليه وسلم ، { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا }
وكذلك جعلهم الفارق بين الحق والباطل مجرد إنزال الكتاب جملة أو مفرقا ، مجرد دعوى لا دليل عليها ولا مناسبة ، بل ولا شبهة ، فمن أين يوجد في نبوة أحد من الأنبياء أن الرسول الذي يأتيكم بكتاب نزل مفرقا فلا تؤمنوا به ولا تصدقوه ؟
بل نزول هذا القرآن مفرقا بحسب الأحوال مما يدل على عظمته واعتناء الله بمن أنزل عليه ، كما قال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا }
فلما ذكر اعتراضهم الفاسد أخبر أنه ليس بغريب من أمرهم ، بل سبق لهم من المقدمات القبيحة ما هو أعظم مما سلكوه مع الرسول الذي يزعمون أنهم آمنوا به . من سؤالهم له رؤية الله عيانا ، واتخاذهم العجل إلهًا يعبدونه ، من بعد ما رأوا من الآيات بأبصارهم ما لم يره غيرهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء}، نزلت في اليهود، وذلك أن كعب بن الأشرف، وفنحاص اليهودي، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقا بأنك رسول، فائتنا بكتاب غير هذا، مكتوب في السماء جملة واحدة كما جاء به موسى، فذلك قوله: {يسألك أهل الكتاب...} إلى قوله سبحانه: {فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة}، يعني معاينة، {فأخذتهم الصاعقة}، يعني الموت، {بظلمهم} لقولهم: أرنا الله جهرة معاينة، {ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات}، يعني الآيات التسع، {فعفونا عن ذلك}، فلم نستأصلهم جميعا عقوبة باتخاذهم العجل، {وآتينا موسى سلطانا مبينا}: حجة بينة، يعني اليد والعصى...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"يَسْئَلكَ" يا محمد "أهْلُ الكِتابِ" يعني بذلك: أهل التوراة من اليهود، أنْ تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتابا مِنَ السّماءِ.
واختلف أهل التأويل في الكتاب الذي سأل اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم من السماء؛
فقال بعضهم: سألوه أن ينزل عليهم كتابا من السماء مكتوبا، كما جاء موسى بني إسرائيل بالتوراة مكتوبة من عند الله. عن محمد بن كعب القرظي، قال: جاء أناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن موسى جاء بالألواح من عند الله، فأتنا بالألواح من عند الله حتى نصدّقك فأنزل الله: "يَسْئَلُكَ أهْلُ الكتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتابا مِنَ السّماءِ... إلى قوله: وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتانا عَظِيما".
وقال آخرون: بل سألوه أن ينزّل عليهم كتابا خاصة لهم.
وقال آخرون: بل سألوه أن ينزّل على رجال منهم بأعيانهم كتبا بالأمر بتصديقه واتباعه.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن أهل التوراة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه أن ينزّل عليهم كتابا من السماء آية، معجزة جميع الخلق عن أن يأتوا بمثلها، شاهدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق، آمرة لهم باتباعه. وجائز أن يكون الذي سألوه من ذلك كتابا مكتوبا ينزل عليهم من السماء إلى جماعتهم، وجائز أن يكون ذلك كتبا إلى أشخاص بأعينهم. بل الذي هو أولى بظاهر التلاوة أن تكون مسألتهم إياه ذلك كانت مسألة لينزل الكتاب الواحد إلى جماعتهم لذكر الله تعالى في خبره عنهم الكتاب بلفظ الواحد، بقوله: "يَسْئَلُكَ أهْلُ الكتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتابا مِنَ السّماءِ" ولم يقل: «كتبا».
"فَقَدْ سألُوا مُوسَى أكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ" توبيخ من الله جلّ ثناؤه سائلي الكتاب الذي سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزّله عليهم من السماء في مسألتهم إياه ذلك، وتقريع منه لهم. يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: يا محمد لا يعظمنّ عليك مسألتهم ذلك، فإنهم من جهلهم بالله وجراءتهم عليه واغترارهم بحلمه، لو أنزلتُ عليهم الكتاب الذي سألوك أن تنزله عليهم، لخالفوا أمر الله كما خالفوه بعد إحياء الله أوائلهم من صَعْقتهم، فعبدوا العجل، واتخذوه إلها يعبدونه من دون خالقهم وبارئهم الذي أراهم من قدرته وعظيم سلطانه ما أراهم لأنهم لن يعدوا أن يكونوا كأوائلهم وأسلافهم. ثم قصّ الله من قصتهم وقصة موسى ما قصّ، يقول الله: "فَقَدْ سألُوا مُوسَى أكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ": فقد سأل أسلاف هؤلاء اليهود وأوائلهم موسى عليه السلام أعظم مما سألوك من تنزيل كتاب عليهم من السماء؛ فقالوا له أرِنا اللّهَ جَهْرَةً: أي عيانا نعاينه وننظر إليه...
"فَأخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ": فصعقوا بظلمهم أنفسهم، وظلمهم أنفسهم كان مسألتهم موسى أن يريهم ربهم جهرة، لأن ذلك مما لم يكن لهم مسألته.
"ثُمّ اتّخَذُوا العِجْلَ": ثم اتخذ هؤلاء الذين سألوا موسى ما سألوه من رؤية ربهم جهرة، بعد ما أحياهم الله، فبعثهم من صعقتهم، العِجْلَ الذي كان السامريّ نبذ فيه ما نبذ من القبضة التي قبضها من أثر فرس جبريل عليه السلام، إلها يعبدونه من دون الله.
"مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيّناتُ": من بعد ما جاءت هؤلاء الذين سألوا موسى ما سألوا البيناتُ من الله، والدلالاتُ الواضحات بأنهم لن يروا الله عيانا جهارا. وإنما عنى بالبينات: أنها آيات تبين عن أنهم لن يروا الله في أيام حياتهم في الدنيا جهرة، وكانت تلك الآيات البينات لهم على أن ذلك كذلك، إصعاق الله إياهم عند مسألتهم موسى أن يريهم ربه جهرة، ثم إحياءه إياهم بعد مماتهم مع سائر الآيات التي أراهم الله دلالة على ذلك. يقول الله مقبحا إليهم فعلَهم ذلك وموضحا لعباده جهلهم ونقصَ عقولهم وأحلامهم: ثم أقرّوا للعجل بأنه لهم إله، وهم يرونه عيانا وينظرون إليه جهارا، بعد ما أراهم ربهم من الآيات البينات ما أراهم، أنهم لا يرون ربهم جهرة وعيانا في حياتهم الدنيا، فعكفوا على عبادته مصدّقين بألوهته.
"فَعَفَوْنا عَنْ ذَلِكَ": فعفونا لعَبَدَة العجل عن عبادتهم إياه، وللمصدّقين منهم بأنه إلههم، بعد الذي أراهم الله أنهم لا يرون ربهم في حياتهم من الآيات ما أراهم عن تصديقهم بذلك بالتوبة التي تابوها إلى ربهم بقتلهم أنفسَهم وصبرهم في ذلك على أمر ربهم.
"وآتَيْنا مُوسَى سُلْطانا مُبِينا": وآتينا موسى حجة تبين عن صدقه وحقية نبوّته، وتلك الحجة هي الآيات البينات التي آتاه الله إياها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
"فَقَدْ سألُوا مُوسَى أكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ" يعزي عز وجل صلى الله عليه وسلم ويصبره على أذاهم بقوله، والله أعلم: إنهم سألوا آيات على رسالته، فأتى بها، فلم يؤمنوا به؛ يخبر أن سؤالهم سؤال تعنت لا سؤال استرشاد لأن سؤالهم لو كان سؤال استرشاد لكانوا إذا أوتوا بها قبلوها. ولذلك أخذهم العذاب بقوله تعالى: {فأخذتهم الصاعقة بظلمهم} لأنهم كانوا يسألون سؤال تعنت لا سؤال رشد.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
اشتملت الآية على جنسين من قبيح ما فعلوه: أحدهما سؤالهم الرؤية، والثاني عبادة العجل بعدما ظهرت لهم الآيات الباهرة. فأمّا سؤالهم الرؤية فَذُمُّوا عليه لأنهم اقترحوا عليه ذلك بعد ما قطع عذرهم بإقامة المعجزات، ثم طلبوا الرؤية لا على وجه التعليم، أو على موجب التصديق به، أو على ما تحملهم عليه شدة الاشتياق، و كل ذلك سوء أدب.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
قال الحسن: ولم يكن ذلك سؤال انقياد، وإنما ذلك سؤال تحكم، واقتراح؛ فإنهم لو أنزل عليهم الكتاب جملة، كما سألوا؛ لم يؤمنوا، والله -تعالى- لا ينزل الآيات على اقتراح العباد، وإنما ينزلها على مشيئته.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وإنما اقترحوا ذلك على سبيل التعنت، قال الحسن: ولو سألوه لكي يتبينوا الحق لأعطاهم، وفيما آتاهم كفاية {فَقَدْ سَأَلُواْ موسى} جواب لشرط مقدر. معناه: إن استكبرت ما سألوه منك، فقد سألوا موسى. {أَكْبَرَ مِن ذلك} وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم في أيام موسى وهم النقباء السبعون، لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ومضاهين لهم في التعنت {جَهْرَةً} عياناً بمعنى أرناه نره جهرة {بِظُلْمِهِمْ} بسبب سؤالهم الرؤية. ولو طلبوا أمراً جائزاً لما سموا ظالمين ولما أخذتهم الصاعقة، كما سأل إبراهيم عليه السلام أن يريه إحياء الموتى فلم يسمه ظالماً ولا رماه بالصاعقة، فتباً للمشبهة ورمياً بالصواعق {وَءَاتَيْنا مُوسَى اسلطانا مُّبِيناً} تسلطاً واستيلاء ظاهراً عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم حتى يتاب عليهم فأطاعوه، واحتبوا بأفنيتهم والسيوف تتساقط عليهم فيالك من سلطان مبين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم قال تعالى {فقد سألوا موسى أكبر من ذلك} على جهة التسلية لمحمد عليه السلام، وعرض الأسوة، وفي الكلام متروك يدل عليه المذكور، تقديره: فلا تبال يا محمد عن سؤالهم وتشططهم فإنها عادتهم.
اعلم أن المقصود من الآية بيان ما جبلوا عليه من التعنت،... {وآتينا موسى سلطانا مبينا} يعني أن قوم موسى وإن كانوا قد بالغوا في إظهار اللجاج والعناد معه لكنا نصرناه وقويناه فعظم أمره وضعف خصمه، وفيه بشارة للرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل التنبيه، والرمز بأن هؤلاء الكفار وإن كانوا يعاندونه فإنه بالآخرة يستولي عليهم ويقهرهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبر تعالى بما على المفرقين بين الله ورسله وما لأضدادهم أتبعه بعض ما أرادوا به الفرقة،... فأنزل الله تعالى موبخاً لهم على هذا الكذب مشيراً إلى كذبهم فيه موهياً لسؤالهم محذراً من غوائله مبيناً لكفرهم بالله ورسله: {يسألك}. ولما كانت هذه من أعظم شبههم التي أضلوا بها من أراد الله، وذلك أنهم رأوا أن هذا الكتاب المبين أعظم المعجزات، وأن العرب لم يمكنهم الطعن فيه على وجه يمكن قبوله، فوجهوا مكايدهم نحوه بهذه الشبهة ونحوها، زيفها سبحانه وتعالى أتم تزييف، وفضحهم بسببها غاية الفضيحة، وزاد سبحانه في تبكيتهم بقوله: {أهل الكتاب} إشارة إلى أن العالم ينبغي له أن يكون أبعد الناس من التمويه فضلاً عن الكذب الصريح...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
تقدم في الآيات التي قبل هذه بيان حال الذين يكفرون بالله ورسله ويفرقون بينه تعالى وبين رسله فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض وهم أهل الكتاب الذين جعلوا الدين رياسة وعصبية، لا هداية إلهية، ثم بين هذه الآيات بعض أحوال الإسرائليين منهم في تعنتهم وتعجيزهم وجهلهم بحقيقة الدين، فقال: {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء} بأن ينزل عليهم منها محررا بخط سماوي يشهد أنك رسول الله إليهم، أو ينزل باسم جماعتهم، أو أسماء أفراد معينين من أحبارهم، وهم الذين اقترحوا ذلك-أقوال، وقيل أرادوا أن ينزل عليهم كتاب شريعة هذا النبي جملة واحدة كالألواح التي جاء بها موسى. وفي هذا أن اليهود طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم شريعته كلها جملة واحدة هو كالتوراة. والظاهر أن هذا مما كان يغش به اليهود المسلمين، فالمعروف في التوراة التي عندهم أن الذي جاء به موسى من عند الله تعالى جملة واحدة هو الوصايا العشر منقوشة في لوحين جاء بهما في المرة الأولى فلما رآهم قد عبدوا العجل المصنوع من الحلي في غيبته غضب وألقى اللوحين فكسرهما، ثم أمره الله تعالى بأن ينحت لوحين آخرين وكتب له فيهما تلك الوصايا (راجع الفصل 24 والفصل 31 من سفر الخروج) وأما سائر الأحكام فقد كانت توحى إلى موسى صلى الله عليه وسلم في أوقات متعاقبة، ولم تنزل عليه مكتوبة جملة واحدة.
يقول الله تعالى يسألك أهل الكتاب هذا على سبيل التعنت والتعجيز ولا بقصد طلب الحجة لأجل الاقتناع، وإن تعجب أيها الرسول من سؤالهم وتستنكره وتستكبر عليهم، {فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة} سأله ذلك سلف هؤلاء الذين يسألونك أن تنزل عليهم كتابا من السماء، وإنما الخلف والسلف في الصفات والأخلاق سواء، لأن الأبناء ترث الآباء، والإرث يكون على أشده وأتمه في أمثال هؤلاء اليهود الذين يأبون مصاهرة الغرباء، على أن سنة القرآن في مخاطبة الأمم والحكاية عنها معروفة مما تقدم في شأن اليهود كغيرهم. وهو أن الأمة لتكافلها وتوارثها واتباع خلفها لسلفها تعد كالشخص الواحد فينسب إلى المتأخرين منها ما فعله المتقدمون. ويمكن جريان الكلام هنا على طريق الحقيقة بصرف النظر عن هذه السنة. وذلك أن كلا من السؤالين مسند إلى جنس أهل الكتاب وهو لا يقتضي أن يكون الأفراد الذين أسند إليهم السؤال الأول عين الأفراد الذين أسند إليهم السؤال الثاني.
إن سؤال هؤلاء القوم رؤية الله تعالى جهرة أكبر وأعظم من سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وكل من السؤالين يدل على جهلهم أو عنادهم، أما سؤال إنزال الكتاب فهو يدل على أحد أمرين: إما أنهم لا يفهمون معنى النبوة والرسالة على كثرة ما ظهر فيهم من الأنبياء والرسل، ولا يميزون بين الآيات الصحيحة التي يؤيد الله بها رسله وبين سائر الأمور المستغربة كحيل السحر والشعوذة لمخالفتها للعادة، وقد بينت لهم أنه يقوم فيهم أنبياء كذبة وأن النبي يعرف بدعوته إلى التوحيد والحق والخير لا بمجرد آية أو أعجوبة يعلمها (كما نص على ذلك في أول الثالث عشر من سفر تثنية الاشتراع وغيره) وإما أنهم معاندون يقترحون تعجيزا ومراوغة. وأيا ما قصدوا من هاتين الأمرين فلا فائدة في إجابتهم إلى ما سألوا كما قال تعالى: {ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا أن هذا إلا سحر مبين} [الأنعام:8].
وأما سؤالهم رؤية الله جهرة أي عيانا كما يرى بعضهم بعضا فهو أدل على جهلهم وكفرهم بالله تعالى لأنهم ظنوا أنه جسم محدود تدركه الأبصار، وتحيط به أشعة الأحداق، وقد عوقبوا على جهلهم هذا {فأخذتهم الصاعقة بظلمهم} إذ شبهوا ربهم بأنفسهم إلى ما فوق مرتبتها وقدرها {وما قدروا الله حق قدره} [الزمر:27]. والصاعقة نار جوية، وتشتغل باتحاد الكهرباء الإيجابية بالسلبية، وتقدم تفسير مثل هذا في سورة البقرة (راجع آية 55 {وإذ قتلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نر الله جهرة} في الجزء الأول) وفيه أن هذه الواقعة معروفة في كتبهم وفيها التعبير بالنار بدل الصاعقة. وربما يظن الظان أنها نار خلقها الله تعالى من العدم. ولكن القرآن بين لنا أنها من الصواعق المعتادة أرسلها الله عليهم عند ظلمهم هذا، ولا يمنع ذلك أن تكون حدثت بأسبابها، والله تعالى يوفق أقدارا لأقدار.
{ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات} المثبتة للتوحيد النافية للشرك على يد موسى عليه الصلاة والسلام. وتقدم بيان هذا في تفسير آية (51-92) من سورة البقرة: {فعفونا عن ذلك} الذنب الذي هو اتخاذ العجل حين تابوا منه تلك التوبة النصوح التي قتلوا بها أنفسهم كما بين الله لنا ذلك في سورة البقرة (1:51-54) فراجعه وما قبله في الجزء الأول {وأتينا موسى سلطانا مبينا} أي سلطة ظاهرة بما أخضعناهم له على تمردهم وعصيانهم، حتى في قتل أنفسهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد تركيز تلك القاعدة الأساسية في التصور الإسلامي عن حقيقة الإيمان وحقيقة الكفر، فيما يتعلق بالرسل والرسالات.. يأخذ في استعراض بعض مواقف اليهود في هذا المجال، وفي مجال الجهر بالسوء الذي بدئ به هذا الدرس، مندداً بموقفهم من النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته، وتعنتهم في طلب الآيات والأمارات منه، ويقرن بين موقفهم هذا وما كان لهم من مواقف مع نبيهم موسى -عليه السلام- ثم مع رسول الله من بعده عيسى -عليه السلام- وأمه مريم، فإذا هم جبلة واحدة في أجيالهم المتتابعة.. والسياق يوحد بين الجيل الذي يواجه الرسول صلى الله عليه وسلم، والجيل الذي واجه عيسى عليه السلام.. والجيل الذي واجه موسى كذلك من قبل، ليؤكد هذا المعنى، ويكشف عن هذه الجبلة...والسلطان الذي آتاه الله موسى هو -في الغالب- الشريعة التي تضمنتها الألواح، فشريعة الله سلطان من الله؛ وكل شريعة غير شريعة الله ما أنزل الله بها من سلطان؛ وما جعل فيها من سطوة على القلوب. لذلك تستهين القلوب بالشرائع والقوانين التي يسنها البشر لأنفسهم، ولا تنفذها إلا تحت عين الرقيب وسيف الجلاد. فأما شريعة الله فالقلوب تخضع لها وتخنع؛ ولها في النفس مهابة وخشية..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لمَّا ذكر معاذير أهل الكتابين في إنكارهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أعقبها بذكر شيء من اقتراحهم مجيء المعجزات على وفق مطالبهم. والجملة استئناف ابتدائي.
ومجيء المضارع هنا: إمّا لقصد استحضار حالتهم العجيبة في هذا السؤال حتّى كأنّ السامع يراهم كقوله: {ويَصْنَعُ الفُلْك} [هود: 38]، وقوله: {بل عَجِبْتَ وَيَسْخَرُون} [الصافات: 12]، وقوله: {الله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً} [فاطر: 9]. وإمَّا للدلالة على تكرار السؤال وتجدّده المرّة بعد الأخرى بأن يكونوا ألَحّوا في هذا السؤال لِقصد الإعنات... والمقصود على كلا الاحتمالين التعجيب من هذا السؤال، ولذلك قال بعده: {فقد سألوا موسى}. والسَّائلُون هم اليهود، سألوا معجزة مثلَ معجزة موسى بأن ينزل عليه مثل ما أنزلت الألواح فيها الكلمات العشر على موسى، ولم يريدوا جميع التوراة كما توهّمه بعض المفسّرين فإنّ كتاب التوراة لم ينزل دفعة واحدة. فالمراد بأهل الكتاب هنا خصوص اليهود.
والكتاب هنا إمَّا اسم للشيء المكتوب كما نزلت ألواح موسى، وإمّا اسم لقطعة ملتئمة من أوراق مكتوبة، فيكونون قد سألوا معجزة تغاير معجزة موسى.
والفاء في قوله: {فقد سألوا موسى} فاء الفصيحة دالّة على مقدّر دلّت عليه صيغة المضارع المراد منها التعجيب، أي فلا تعجب من هذا فإنّ ذلك شنشنة قديمة لأسلافهم مع رسولهم إذ سألوه معجزة أعظم من هذا، والاستدلال على حالتهم بحالة أسلافهم من قبيل الاستدلال بأخلاق الأمم والقبائل على أحوال العشائر منهم، وقد تقدّم بيان كثير منه في سورة البقرة.
وفي هذا الكلام تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم ودلالة على جراءتهم، وإظهارُ أنّ الرسل لا تجيء بإجابة مقترحات الأمم في طلب المعجزات بل تأتي المعجزات بإرادة الله تعالى عند تحدّي الأنبياء، ولو أجاب الله المقترحين إلى ما يقترحون من المعجزات لجعل رسله بمنزلة المشعوذين وأصحاب الخنقطرات والسيمياء، إذ يتلقّون مقترحات الناس في المحافل والمجامع العامَّة والخاصّة، وهذا ممَّا يحُطّ من مقدار الرسالة...
وقد يُقبل ذلك من المؤمنين، كما حكى الله عن عيسى: {إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربّك أن يُنزّل علينا مائدة من السماء قال اتّقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئنّ قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين} إلى قوله {قال الله إنّي منزّلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنِّي أعذّبه عذاباً لا أعذّبه أحداً من العالمين} [المائدة: 112، 115]، وقال تعالى: {وما منعنا أن نُرسل بالآيات إلاّ أن كذّب بها الأوّلون وآتينا ثمودَ الناقةَ مُبصرةً فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلاّ تَخْوِيفاً} [الإسراء: 59].
وهم لمّا سألوا موسى أن يريهم الله جهرة ما أرادوا التيمّن بالله، ولا التنعّم بالمشاهدة، ولكنَّهم أرادوا عَجَباً ينظرونه، فلذلك قالوا: {أرِنا الله جهرة}، ولم يقولوا: ليتنا نرى ربّنا. {وجَهْرَة} ضدّ خُفية، أي عَلَناً، فيجوز أن يكون صفة للرؤية المستفادة من (أرنا)، ويجوز أن يكون حالاً من المرفوع في (أرنا): أي حال كونك مجاهراً لنا في رؤيته غير مخف رؤيته.
واستطرد هنا ما لحقهم من جرّاء سؤالهم هذه الرؤية وما ترتّب عليه فقال: {فأخذتهم الصاعقة بظلمهم}، وهو ما حكاه تعالى في سورة البقرة (55) بقوله: {فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون. وكان ذلك إرهاباً لهم وزجراً، ولذلك قال: {بظلمهم} والظلم هو المحكي في سورة البقرة من امتناعهم من تصديق موسى إلى أن يروا الله جهرة، وليس الظلم لمجرّد طلب الرؤية؛ لأنّ موسى قد سأل مثل سؤالهم مرّة أخرى: حكاه الله عنه بقوله: {ولمّا جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّه قال ربّ أرني أنظر إليك} الآية في سورة الأعراف (143). وبيّن أنّهم لم يردعهم ذلك فاتَّخذوا العجل إلهاً من بعد ما جاءتهم البيّنات الدالّة على وحْدانية الله ونفي الشريك وعطفت جملة اتّخاذهم العجل بحرف (ثمّ) المفيد في عطفه الجمل معنى التراخي الرتبي. فإنّ اتّخاذهم العجل إلهاً أعظم جرماً ممّا حكي قبله، ومع ذلك عفا الله عنهم وآتى موسى سلطاناً مبيناً، أي حجّة واضحة عليهم في تمرّدهم، فصار يزجرهم ويؤنّبهم. ومن سلطانه المبين أن أحرق لهم العجل الذي اتّخذوه إلهاً.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تشير الآية الأُولى إِلى طلب أهل الكتاب «اليهود» من النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن ينزل عليهم كتاباً من السماء كاملا وفي دفعة واحدة، فتقول: (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء...).
ولا شك أنّ هؤلاء لم يكونوا صادقين في نواياهم مع النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ الهدف من نزول الكتاب السماوي هو الإِرشاد والهداية والتربية، وقد يتحقق هذا الهدف أحياناً عن طريق نزول كتاب كامل من السماء دفعة واحدة، وأحياناً أُخرى يتحقق الهدف عن طريق نزول الكتاب السماوي على دفعات وبصورة تدريجية.
وبناء على هذا فقد كان الأجدر باليهود أن يطالبوا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدليل ويسألوه عن تعاليم سامية قيمة، لا أن يحددوا له طريقة لنزول الكتب السماوية ويطالبوه بأن ينزل عليهم كتاباً على الطريقة التي عاينوها.
ولهذا السبب فضح الله نواياهم السيئة بعد طلبهم هذا، وأوضح للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ هذا العمل هو ديدن اليهود، وأنّهم معروفون بصلفهم وعنادهم واختلاقهم الأعذار مع نبيّهم الكبير موسى بن عمران (عليه السلام)، فقد طلب هؤلاء من نبيّهم ما هو أكبر وأعجب إذ سألوه أن يريهم الله جهاراً وعلناً! تقول الآية: (فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة...).
وما مصدر هذا الطلب العجيب الغريب البعيد عن المنطق غير الصلف والعناد، فهم بطلبهم هذا قد تبنّوا عقيدة المشركين الوثنيين في تجسيد الله وتحديده، وقد أدى عنادهم هذا إِلى نزول عذاب الله عليهم، صاعقة من السماء أحاطت بهم لما ارتكبوه من ظلم كبير، تقول الآية: (فأخذتهم الصّاعقة بظلمهم).
ثمّ تشير الآية إِلى عمل قبيح آخر ارتكبه اليهود، وذلك حين لجؤوا إِلى عبادة العجل بعد أن شاهدوا بأعينهم المعجزات الكثيرة والدلائل الواضحة، فتقول: (ثمّ اتّخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البيّنات...).
ومع كل هذا الصلف والعناد والشرك، يريهم الله لطفه ورحمته ويغفر لهم لعلهم يرتدعوا عن غيّهم، ويهب لنبيّهم موسى (عليه السلام) ملكاً بارزاً وسلطاناً مبيناً، ويفضح السامري صاحب العجل ويخمد فتنته وفي هذا تقول الآية: (فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطاناً مبيناً).