{ 48 - 50 } { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }
يقول تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ْ } الذي هو القرآن العظيم ، أفضل الكتب وأجلها .
{ بِالْحَقِّ ْ } أي : إنزالا بالحق ، ومشتملا على الحق في أخباره وأوامره ونواهيه . { مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ْ } لأنه شهد لها ووافقها ، وطابقت أخباره أخبارها ، وشرائعه الكبار شرائعها ، وأخبرت به ، فصار وجوده مصداقا لخبرها .
{ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ْ } أي : مشتملا على ما اشتملت عليه الكتب السابقة ، وزيادة في المطالب الإلهية والأخلاق النفسية . فهو الكتاب الذي تتبع كل حق جاءت به الكتب فأمر به ، وحث عليه ، وأكثر من الطرق الموصلة إليه .
وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللاحقين ، وهو الكتاب الذي فيه الحكم والحكمة ، والأحكام الذي عرضت عليه الكتب السابقة ، فما شهد له بالصدق فهو المقبول ، وما شهد له بالرد فهو مردود ، قد دخله التحريف والتبديل ، وإلا فلو كان من عند الله ، لم يخالفه .
{ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ْ } من الحكم الشرعي الذي أنزله الله عليك . { وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ْ } أي : لا تجعل اتباع أهوائهم الفاسدة المعارضة للحق بدلا عما جاءك من الحق فتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير .
{ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ ْ } أيها الأمم جعلنا { شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ْ } أي : سبيلا وسنة ، وهذه الشرائع التي تختلف باختلاف الأمم ، هي التي تتغير بحسب تغير الأزمنة والأحوال ، وكلها ترجع إلى العدل في وقت شرعتها ، وأما الأصول الكبار التي هي مصلحة وحكمة في كل زمان ، فإنها لا تختلف ، فتشرع في جميع الشرائع . { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ْ } تبعا لشريعة واحدة ، لا يختلف متأخرها و[ لا ] متقدمها .
{ وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ْ } فيختبركم وينظر كيف تعملون ، ويبتلي كل أمة بحسب ما تقتضيه حكمته ، ويؤتي كل أحد ما يليق به ، وليحصل التنافس بين الأمم فكل أمة تحرص على سبق غيرها ، ولهذا قال : { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ْ } أي : بادروا إليها وأكملوها ، فإن الخيرات الشاملة لكل فرض ومستحب ، من حقوق الله وحقوق عباده ، لا يصير فاعلها سابقا لغيره مستوليا على الأمر ، إلا بأمرين :
المبادرة إليها ، وانتهاز الفرصة حين يجيء وقتها ويعرض عارضها ، والاجتهاد في أدائها كاملة على الوجه المأمور به . ويستدل بهذه الآية ، على المبادرة لأداء الصلاة وغيرها في أول وقتها ، وعلى أنه ينبغي أن لا يقتصر العبد على مجرد ما يجزئ في الصلاة وغيرها من العبادات من الأمور الواجبة ، بل ينبغي أن يأتي بالمستحبات ، التي يقدر عليها لتتم وتكمل ، ويحصل بها السبق .
{ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ْ } الأمم السابقة واللاحقة ، كلهم سيجمعهم الله ليوم لا ريب فيه . { فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ْ } من الشرائع والأعمال ، فيثيب أهل الحق والعمل الصالح ، ويعاقب أهل الباطل والعمل السيئ .
وأخيرا يصل السياق إلى الرسالة الأخيرة ؛ وإلى الشريعة الأخيرة . . إنها الرسالة التي جاءت تعرض " الإسلام " في صورته النهائية الأخيرة ؛ ليكون دين البشرية كلها ؛ ولتكون شريعته هي شريعة الناس جميعا ؛ ولتهيمن على كل ماكان قبلها وتكون هي المرجع النهائي ؛ ولتقيم منهج الله لحياة البشرية حتى يرث الله الأرض ومن عليها . المنهج الذي تقوم عليه الحياة في شتى شعبها ونشاطها ؛ والشريعة التي تعيش الحياة في إطارها وتدور حول محورها ؛ وتستمد منها تصورها الاعتقادي ، ونظامها الاجتماعي ، وآداب سلوكها الفردي والجماعي . . وقد جاءت كذلك ليحكم بها ، لا لتعرف وتدرس ، وتتحول إلى ثقافة في الكتب والدفاتر ! وقد جاءت لتتبع بكل دقة ، ولا يترك شيء منها ويستبدل به حكم آخر في صغيرة من شئون الحياة أو كبيرة . . فإما هذا وإما فهي الجاهلية والهوى . ولا يشفع في هذه المخالفة أن يقول أحد إنه يجمع بين الناس بالتساهل في الدين . فلو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة . إنما يريد الله أن تحكم شريعته ، ثم يكون من أمر الناس ما يكون :
( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق ، مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ، فاحكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق . لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا . ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة . ولكن ليبلوكم فيما آتاكم ، فاستبقوا الخيرات . إلى الله مرجعكم جميعا ، فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون . وأن احكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم . واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك . فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ، وإن كثيرا من الناس لفاسقون . أفحكم الجاهلية يبغون ؟ ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون ) . .
ويقف الإنسان أمام هذه النصاعة في التعبير ، وهذا الحسم في التقرير ، وهذا الاحتياط البالغ لكل ما قد يهجس في الخاطر من مبررات لترك شيء - ولو قليل - من هذه الشريعة في بعض الملابسات والظروف . .
يقف الإنسان أمام هذا كله ، فيعجب كيف ساغ لمسلم - يدعي الإسلام - أن يترك شريعة الله كلها ، بدعوى الملابسات والظروف ! وكيف ساغ له أن يظل يدعي الإسلام بعد هذا الترك الكلي لشريعة الله ! وكيف لا يزال الناس يسمون أنفسهم " مسلمين " ؟ ! وقد خلعوا ربقة الإسلام من رقابهم ، وهم يخلعون شريعة الله كلها ؛ ويرفضون الإقرار له بالإلوهيه ، في صورة رفضهم الإقرار بشريعته ، وبصلاحية هذه الشريعه في جميع الملابسات والظروف ، وبضرورة تطبيقها كلها في جميع الملابسات والظروف !
( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق ) . .
يتمثل الحق في صدوره من جهى الألوهيه ، وهي الجهه التي تملك حق تنزيل الشرائع ، وفرض القوانين . . ويتمثل الحق في محتوياته ، وفي كل ما يعرض له من شئون العقيده والشريعه ، وفي كل ما يقصه من خير ، وما يحمله من توجيه .
( مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه ) . .
فهو الصورة الأخيرة لدين الله ، وهو المرجع الأخير في هذا الشأن ، والمرجع الأخير في منهج الحياة وشرائع الناس ، ونظام حياتهم ، بلا تعديل بعد ذلك ولا تبديل .
ومن ثم فكل اختلاف يجب أن يرد إلى هذا الكتاب ليفصل فيه . سواء كان هذا الاختلاف في التصور الاعتقادي بين أصحاب الديانات السماويه ، أو في الشريعه التي جاء هذا الكتاب بصورتها الأخيره . أو كان هذا الاختلاف بين المسلمين أنفسهم ، فالمرجع الذي يعودون إليه بآرائهم في شأن الحياه كله هو هذا الكتاب .
ولا قيمه لآراء الرجال ما لم يكن لها أصل تستند إليه من هذا المرجع الأخير .
وتترتب على هذه الحقيقه مقتضياتها المباشره :
( فاحكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ) . .
والأمر موجه ابتداء إلى رسول الله [ ص ] فيما كان فيه من أمر أهل الكتاب الذين يبحثون إليه متحاكمين . ولكنه ليس خاصاً بهذا السبب ، بل هو عام . . وإلى آخر الزمان . . طالما أنه ليس هناك رسول جديد ، ولا رساله جديده ، لتعديل شيء ما في هذا المرجع الأخير !
لقد كمل هذا الدين ، وتمت به نعمة الله على المسلمين . ورضيه الله لهم منهج حياه للناس أجمعين . ولم يعد هنالك من سبيل لتعديل شيء فيه أو تبديله ، ولا لترك شيء من حكمه إلى حكم آخر ، ولا شيء من شريعته إلى شريعة أخرى . وقد علم الله حين رضيه للناس ، أنه يسع الناس جميعاً . وعلم الله حين رضيه مرجعاً أخيراً أنه يحقق الخير للناس جميعاً . وأنه يسع حياة الناس جميعاً ، الى يوم الدين . وأي تعديل في هذا المنهج - ودعك من العدول عنه - هو إنكار لهذا المعلوم من الدين بالضروره . يخرج صاحبه من هذا الدين . ولو قال باللسان ألف مره : إنه من المسلمين !
وقد علم الله أن معاذير كثيره يمكن أن تقوم وأن يبرر بها العدول عن شيء مما أنزل الله واتباع أهواء المحكومين المتحاكمين . . وأن هواجس قد تتسرب في ضرورة الحكم بما أنزل الله كله بلا عدول عن شيء فيه ، في بعض الملابسات والظروف . فحذر الله نبيه [ ص ] في هذه الآيات مرتين من اتباع أهواء المتحاكمين ، ومن فتنتهم له عن بعض ما أنزل الله إليه . .
وأولى هذه الهواجس : الرغبة البشرية الخفية في تأليف القلوب بين الطوائف المتعددة ، والاتجاهات والعقائد المتجمعة في بلد واحد . ومسايرة بعض رغباتهم عند ما تصطدم ببعض أحكام الشريعة ، والميل إلى التساهل في الأمور الطفيفة ، أو التي يبدو أنها ليست من أساسيات الشريعة !
وقد روى أن اليهود عرضوا على رسول الله [ ص ] أن يؤمنوا له إذا تصالح معهم على التسامح في أحكام بعينها منها حكم الرجم . وأن هذا التحذير قد نزل بخصوص هذا العرض . . ولكن الأمر - كما هو ظاهر - أعم من حالة بعينها وعرض بعينه . فهو أمر يعرض في مناسبات شتى ، ويتعرض له أصحاب هذه الشريعة في كل حين . . وقد شاء الله - سبحانه - أن يحسم في هذا الأمر ، وأن يقطع الطريق على الرغبة البشرية الخفية في التساهل مراعة للاعتبارات والظروف ، وتأليفا للقلوب حين تختلف الرغبات والأهواء . فقال لنبيه : إن الله لو شاء لجعل الناس أمة واحدة ؛ ولكنه جعل لكل منهم طريقا ومنهاجا ؛ وجعلهم مبتلين مختبرين فيما آتاهم من الدين والشريعة ، وما آتاهم في الحياة كلها من عطايا . وأن كلا منهم يسلك طريقه ؛ ثم يرجعون كلهم إلى الله ، فينبئهم بالحقيقة ، ويحاسبهم على ما اتخذوا من منهج وطريق . . وأنه إذن لا يجوز أن يفكر في التساهل في شيء من الشريعة لتجميع المختلفين في المشارب والمناهج . . فهم لا يتجمعون : ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة . ولكن ليبلوكم فيما آتاكم . فاستبقوا الخيرات . إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ) .
بذلك أغلق الله - سبحانه - مداخل الشيطان كلها ؛ وبخاصة ما يبدو منها خيرا وتأليفا للقلوب وتجميعا للصفوف ؛ بالتساهل في شيء من شريعة الله ؛ في مقابل إرضاء الجميع ! أو في مقابل ما يسمونه وحدة الصفوف !
إن شريعة الله أبقى وأغلى من أن يضحى بجزء منها في مقابل شيء قدر الله ألا يكون ! فالناس قد خلقوا ولكل منهم استعداد ، ولكل منهم مشرب ، ولكل منهم منهج ، ولكل منهم طريق . ولحكمة من حكم الله خلقوا هكذا مختلفين . وقد عرض الله عليهم الهدى ؛ وتركهم يستبقون . وجعل هذا ابتلاء لهم يقوم عليه جزاؤهم يوم يرجعون إليه ، وهم إليه راجعون ؛
وإنها لتعلة باطلة إذن ، ومحاولة فاشلة ، أن يحاول أحد تجميعهم على حساب شريعة الله ، أو بتعبير آخر على حساب صلاح الحياة البشرية وفلاحها . فالعدول أو التعديل في شريعة الله لا يعني شيئا إلا الفساد في الأرض ؛ وإلا الانحراف عن المنهج الوحيد القويم ؛ وإلا انتفاء العدالة في حياة البشر ؛ وإلا عبودية الناس بعضهم لبعض ، واتخاذ بعضهم لبعض أرباباً من دون الله . . وهو شر عظيم وفساد عظيم . . لا يجوز ارتكابه في محاولة عقيمة لا تكون ؛ لأنها غير ما قدره الله في طبيعة البشر ؛ ولأنها مضادة للحكمة التي من أجلها قدر ما قدر من اختلاف المناهج والمشارع ، والاتجاهات والمشارب . . وهو خالق الخلق وصاحب الأمر الأول فيهم والأخير . وإليه المرجع والمصير . .
إن محاولة التساهل في شيء من شريعة الله ، لمثل هذا الغرض ، تبدو - في ظل هذا النص الصادق الذي يبدو مصداقه في واقع الحياة البشرية في كل ناحية - محاولة سخيفة ؛ لا مبرر لها من الواقع ؛ ولا سند لها من إرادة الله ؛ ولا قبول لها في حس المسلم ، الذي لا يحاول إلا تحقيق مشيئة الله . فكيف وبعض من يسمون أنفسهم " مسلمين " يقولون : إنه لا يجوز تطبيق الشريعة حتى لا نخسر " السائحين " ؟ ! ! ! أي والله هكذا يقولون !
جالت الآيات المتقدّمة جولة في ذكر إنزال التّوراة والإنجيل وآبت منها إلى المقصود وهو إنزال القرآن ؛ فكان كردّ العجز على الصّدر لقوله : { يأيها الرسول لا يُحزنك الّذين يسارعون في الكفر } [ المائدة : 41 ] ليبيّن أنّ القرآن جاء نسخاً لما قبله ، وأنّ مؤاخذة اليهود على ترك العمل بالتّوراة والإنجيل مؤاخذة لهم بعملهم قبل مجيء الإسلام ، وليعلمهم أنّهم لا يطمعون من محمّد صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بينهم بغير ما شرعه الله في الإسلام ، فوقْعُ قوله : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحقّ } إتماماً لترتيب نزول الكُتب السماويّة ، وتمهيداً لقوله : { فاحْكم بينهم بما أنزل الله } . ووقع قوله : { فاحكم بينهم بما أنزل الله } موقع التّخلّص المقصود ، فجاءت الآيات كلّها منتظمة متناسقة على أبدع وجه .
والكتاب الأوّل القرآن ، فتعْريفه للعهد . والكتاب الثّاني جنس يشمل الكتب المتقدّمة ، فتعريفه للجنس . والمُصدّق تقدّم بيانه .
والمهيمن الأظهر أنّ هاءه أصلية وأنّ فعله بوزن فيْعَل كسَيْطَر ، ولكن لم يسمع له فعل مجرّد فلم يسمع هَمَن .
قال أهل اللّغة لا نظير لهذا الفعل إلاّ هَيْنَم إذا دعا أو قرأ ، وبيقر إذا خرَج من الحِجاز إلى الشّام ، وسيطر إذا قَهر . وليس له نظير في وزن مفيعل إلاّ اسم فاعل هذه الأفعال ، وزادوا مُبيطر اسم طبيب الدّواب ، ولم يسمع بَيْطَر ولكن بَطَر ، ومُجيمر اسم جبل ، ذكره امرؤ القيس في قوله :
كأنّ ذرى رأس المُجَيْمِر غُدوة *** من السيل والغثاء فلكة مغزل
وفسّر المهيمن بالعالي والرقيب ، ومن أسمائه تعالى المهيمن .
وقيل : المهيمن مشتقّ من أمِن ، وأصله اسم فاعل من آمنَه عليه بمعنى استحفظه به ، فهو مجاز في لازم المعنى وهو الرقابة ، فأصله مُؤَأْمِن ، فكأنّهم راموا أن يفرّقوا بينه وبين اسم الفاعل من آمَن بمعنى اعتقد وبمعنى آمنه ، لأنّ هذا المعنى المجازي صار حقيقة مستقلّة فقلبوا الهمزة الثّانية ياء وقلبوا الهمزة الأولى هاء ، كما قالوا في أراق هَراق ، فقالوا : هَيْمَن .
وقد أشارت الآية إلى حالتي القرآن بالنّسبة لما قبله من الكتب ، فهو مؤيّد لبعض ما في الشّرائع مُقرّر له من كلّ حكم كانت مصلحته كلّيّة لم تختلف مصلحته باختلاف الأمم والأزمان ، وهو بهذا الوصف مُصَدّق ، أي مُحقّق ومقرّر ، وهو أيضاً مبطل لبعض ما في الشّرائع السالفة وناسخ لأحكام كثيرة من كلّ ما كانت مصالحه جزئيّة مؤقّتة مراعى فيها أحوال أقوام خاصّة .
وقوله : { فاحكم بينهم بما أنزل الله } أي بما أنزل الله إليك في القرآن ، أو بما أوحاه إليك ، أو احكم بينهم بما أنزل الله في التّوراة والإنجيل ما لم ينسخه اللّهُ بحكم جديد ، لأنّ شرع من قبلنا شرع لنا إذا أثبت الله شرعه لِمَنْ قبلنا . فحكم النّبيء على اليهوديين بالرجم حكم بما في التّوراة ، فيحتمل أنّه كان مؤيّداً بالقرآن إذا كان حينئذٍ قد جَاء قوله : « الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما » .
ويحتمل أنّه لم يؤيّد ولكن الله أوحى إلى رسوله أنّ حكم التّوراة في مثلهما الرجم ، فحكم به ، وأطلع اليهود على كتمانهم هذا الحكم . وقد اتّصل معنى قوله : { فاحكم بينهم بما أنزل الله } بمعنى قوله : { وإن حكمتَ فاحكم بينهم بالقسط } [ المائدة : 42 ] ؛ فليس في هذه الآية ما يقتضي نسخ الحكم المفاد من قوله : { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } [ المائدة : 42 ] ، ولكنه بيان سمّاه بعضُ السلف باسم النسخ قبل أن تنضبط حدود الأسماء الاصطلاحيّة .
والنّهي عن اتّباع أهوائهم ، أي أهواء اليهود حين حكّموه طامعين أن يَحكم عليهم بما تَقَرّر من عوائِدهم ، مقصود منه النّهي عن الحكم بغير حكم الله إذا تحاكموا إليه ، إذ لا يجوز الحكم بغيره ولو كان شريعة سابقة ، لأنّ نزول القرآن مهيمناً أبطل ما خالفه ، ونزولَه مصدّقاً أيَّد ما وافقه وزكّى ما لم يخالفه .
والرسول لا يجوز عليه أن يحكم بغير شرع الله ، فالمقصود من هذا النّهي : إمَّا إعلان ذلك ليعلمه النّاس وييأس الطّامعون أن يحكم لهم بما يشتهون ، فخطاب النّبيء صلى الله عليه وسلم بقوله : { ولا تتّبع أهواءهم } [ المائدة : 49 ] مراد به أن يتقرّر ذلك في علم النّاس ، مثل قوله تعالى : { لئنْ أشركت ليحبَطنّ عملك } [ الزمر : 65 ] . وإمَّا تبيين الله لرسوله وجهَ ترجيح أحد الدليلين عند تعارض الأدلّة بأن لا تكون أهواء الخصوم طرُقاً للترجيح ، وذلك أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام لشدّة رغبته في هُدى النّاس قد يتوقّف في فصل هذا التّحكيم ، لأنّهم وعَدوا أنّه إن حكم عليهم بما تقرّر من عوائدهم يؤمنون به . فقد يقال : إنّهم لمّا تراضَوا عليه لِم لا يُحملون عليه مع ظهور فائدة ذلك وهو دخولهم في الإسلام ، فبيّن الله له أنّ أمور الشّريعة لا تهاون بها ، وأنّ مصلحةَ احترام الشّريعة بين أهلها أرجحُ من مصلحة دخول فريق في الإسلام ، لأنّ الإسلام لا يليق به أن يكون ضعيفاً لمريديه ، قال تعالى : { يمُنّون عليكَ أنْ أسلموا قل لا تُمُنّوا عليّ إسلامَكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } [ الحجرات : 17 ] .
وقوله : { لكلَ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } كالتعليل للنّهي ، أي إذا كانت أهواؤهم في متابعة شريعتهم أو عوائدهم فدعهم وما اعتادوه وتمسَّكوا بشرعكم . .
والشرعة والشريعة : الماء الكثير من نهر أو واد . يقال : شريعة الفرات . وسمّيت الديانة شريعة على التشبيه ، لأنّ فيها شفاء النّفوس وطهارتَها . والعرب تشبّه بالماء وأحواله كثيراً ، كما قدمناه في قوله تعالى : { لَعَلِمه الّذين يستنبطونه منهم } في سورة النساء ( 83 ) .
والمنهاج : الطريق الواسع ، وهو هنا تخييل أريد به طريق القوم إلى الماء ، كقول قيس بن الخطيم :
فذكر الرشاء مجرّد تخييل . ويصحّ أن يجعل له رديف في المشبَّه بأن تشبّه العوائد المنتزعة من الشّريعة ، أو دلائل التّفريع عن الشريعة ، أو طرق فهمها بالمنهاج الموصّل إلى السماء .
فمنهاج المسلمين لا يخالف الاتّصال بالإسلام ، فهو كمنهاج المهتدين إلى الماء ، ومنهاج غيرهم منحرف عن دينهم ، كما كانت اليهود قد جعلت عوائد مخالفة لشريعتهم ، فذلك كالمنهاج الموصّل إلى غير المورود . وفي هذا الكلام إبهام أريد به تنبيه الفريقين إلى الفرْق بين حاليهما وبالتّأمّل يظهر لهم .
وقوله : ولو شاء الله لجعلكم أمّة واحدة } . الجعل : التقدير ، وإلاّ فإنّ الله أمر النّاس أن يكونوا أمّة واحدة على دين الإسلام ، ولكنّه رتّب نواميس وجبلاّت ، وسبَّب اهتداء فريق وضلال فريق ، وعلم ذلك بحسب ما خلق فيهم من الاستعداد المعبّر عنه بالتّوفيق أو الخذلان ، والميللِ أو الانصراففِ ، والعزم أو المكابرة . ولا عذر لأحد في ذلك ، لأنّ علم الله غير معروف عندنا وإنّما ينكشف لنا بما يظهر في الحادثات .
والأمّة : الجماعة العظيمة الّذين دينهم ومعتقدهم واحد ، هذا بحسب اصطلاح الشّريعة . وأصل الأمّة في كلام العرب : القوم الكثيرون الّذين يرجعون إلى نسب واحد ويتكلّمون بلسان واحد ، أي لو شاء لخلقكم على تقدير واحد ، كما خلق أنواع الحيوان غير قابلة للزّيادة ولا للتطوّر من أنفسها .
ومعنى { ليبلوكم فيما آتاكم } هو ما أشرنا إليه من خلق الاستعداد ونحوه . والبلاء : الخبرة . والمراد هنا ليظهر أثر ذلك للنّاس ، والمرادُ لازم المعنى على طريق الكناية ، كقول إياس بن قبيصة الطائي :
وأقبلتُ والخطيّ يخطر بيننا *** لأعْلَمَ مَن جَبَانُهَا مِن شجاعها
لم يرد لأعلم فقط ولكن أراد ليظهر لي وللنّاس . ومعناه أنّ الله وَكَل اختيار طرق الخير وأضدادها إلى عقول النّاس وكسبهم حكمة منه تعالى ليتسابَق النّاس إلى إعمال مواهبهم العقليّة فتظهر آثار العلم ويزداد أهل العلم علماً وتقام الأدلّة على الاعتقاد الصّحيح . وكلّ ذلك يظهر ما أودعه الله في جبلّة البشر من الصلاحيّة للخير والإرشاد على حسب الاستعداد ، وذلك من الاختبار . ولذلك قال { ليبلوكم فيما آتاكم } ، أي في جميع ما آتاكم من العقل والنّظر . فيظهر التّفاضل بين أفراد نوع الإنسان حتّى يَبلغ بعضُها درجاتتٍ عالية ، ومن الشرائع الّتي آتاكموها فيظهر مقدارُ عملكم بها فيحصل الجزاء بمقدار العمل .
وفرّع على { ليبلوكم } قوله : { فاستبقوا الخيرات } لأنّ بذلك الاستباق يكون ظهور أثر التّوفيق أوضَح وأجلى .
والاستباق : التسابق ، وهو هنا مجاز في المنافسة ، لأنّ الفاعل للخير لا يمنع غيره من أن يفعل مثل فعله أو أكثر ، فشابه التّسابق . ولتضمين فعل { استبقوا } بمعنى خذوا ، أو ابتدروا ، عدّي الفعل إلى { الخيرات } بنفسه وحقّه أن يعدّى بإلى ، كقوله { سَابقوا إلى مغفرة من ربّكم } [ الحديد : 21 ] . وقوله : { فينبّئكم بما كنتم فيه تختلفون } أي من الاختلاف في قبول الدّين .