فلا يستوي المؤمن والكافر ، ولا المهتدي والضال ، ولا العالم والجاهل ، ولا أصحاب الجنة وأصحاب النار ، ولا أحياء القلوب وأمواتها ، فبين هذه الأشياء من التفاوت والفرق ما لا يعلمه إلا اللّه تعالى ، فإذا علمت المراتب ، وميزت الأشياء ، وبان الذي ينبغي أن يتنافس في تحصيله من ضده ، فليختر الحازم لنفسه ، ما هو أولى به وأحقها بالإيثار .
{ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ } سماع فهم وقبول ، لأنه تعالى هو الهادي الموفق { وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } أي : أموات القلوب ، أو كما أن دعاءك لا يفيد سكان القبور شيئا ، كذلك لا يفيد المعرض المعاند شيئا ، ولكن وظيفتك النذارة ، وإبلاغ ما أرسلت به ، قبل منك أم لا .
ولن يستوي عند الله الإيمان والكفر ، والخير والشر ، والهدى والضلال ؛ كما لا يستوي العمى والبصر ، والظلمة والنور ، والظل والحرور ، والحياة والموت ، وهي مختلفة الطبائع من الأساس :
وما يستوي الأعمى والبصير . ولا الظلمات ولا النور . ولا الظل ولا الحرور . وما يستوي الأحياء ولا الأموات . .
وبين طبيعة الكفر وطبيعة كل من العمى والظلمة والحرور والموت صلة . كما أن هناك صلة بين طبيعة الإيمان وطبيعة كل من النور والبصر والظل والحياة . .
إن الإيمان نور ، نور في القلب ونور في الجوارح ، ونور في الحواس . نور يكشف حقائق الأشياء والقيم والأحداث وما بينها من ارتباطات ونسب وأبعاد . فالمؤمن ينظر بهذا النور ، نور الله ، فيرى تلك الحقائق ، ويتعامل معها ، ولا يخبط في طريقه ولا يلطش في خطواته !
والإيمان بصر ، يرى . رؤية حقيقية صادقة غير مهزوزة ولا مخلخلة . ويمضي بصاحبه في الطريق على نور وعلى ثقة وفي اطمئنان .
والإيمان ظل ظليل تستروحه النفس ويرتاح له القلب ، ظل من هاجرة الشك والقلق والحيرة في التيه المظلم بلا دليل !
والإيمان حياة . حياة في القلوب والمشاعر . حياة في القصد والاتجاه . كما أنه حركة بانية . مثمرة . قاصدة . لا خمود فيها ولا همود . ولا عبث فيها ولا ضياع .
والكفر عمى . عمى في طبيعة القلب . وعمى عن رؤية دلائل الحق . وعمى عن رؤية حقيقة الوجود . وحقيقة الإرتباطات فيه . وحقيقة القيم والأشخاص والأحداث والأشياء .
والكفر ظلمة أو ظلمات . فعندما يبعد الناس عن نور الإيمان يقعون في ظلمات من شتى الأنواع والأشكال . ظلمات تعز فيها الرؤية الصحيحة لشيء من الأشياء .
والكفر هاجرة . حرور . تلفح القلب فيه لوافح الحيرة والقلق وعدم الاستقرار على هدف ، وعدم الاطمئنان إلى نشأة أو مصير . ثم تنتهي إلى حر جهنم ولفحة العذاب هناك !
والكفر موت . موت في الضمير . وانقطاع عن مصدر الحياة الأصيل . وانفصال عن الطريق الواصل .
وعجز عن الانفعال والاستجابة الآخذين من النبع الحقيقي ، المؤثرين في سير الحياة !
ولكل طبيعته ولكل جزاؤه ، ولن يستوي عند الله هذا وذاك .
وهنا يلتفت إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يعزيه ويسري عنه ، بتقرير حدود عمله وواجبه في دعوة الله . وترك ما تبقى بعد ذلك لصاحب الأمر يفعل به ما يشاء :
( إن الله يسمع من يشاء ، وما أنت بمسمع من في القبور . إن أنت إلا نذير . إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ، وإن من أمة إلا خلا فيها نذير . وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير . ثم أخذت الذين كفروا . فكيف كان نكير ? ) . .
إن الفوارق أصيلة في طبيعة الكون وفي طبيعة النفس . واختلاف طباع الناس واختلاف استقبالهم لدعوة الله أصيل أصالة الفوارق الكونية في البصر والعمى ، والظل والحرور ، والظلمات والنور ، والحياة والموت . ووراء ذلك كله تقدير الله وحكمته . وقدرته على ما يشاء .
وشبه المؤمنين ب { الأحياء } والكفرة ب { الأموات } من حيث لا يفهمون الذكر ولا يقبلون عليه ، ثم رد الأمر إلى مشيئة الله تعالى بقوله { إن الله يسمع من يشاء } ، وقوله { وما أنت بمسمع من في القبور } تمثيل بما يحسه البشر ويعهده جميعنا من أن الميت الذي في القبر لا يسمع ، وأما الأرواح فلا نقول إنها في القبر بل تتضمن الأحاديث أن أرواح المؤمنين في شجر عند العرش وفي قناديل وغير ذلك{[9713]} ، وأن أرواح الكفرة في سجين ويجوز في بعض الأحيان أن تكون الأرواح عند القبور فربما سمعت وكذلك أهل قليب بدر إنما سمعت أرواحهم ، وكذلك سماع الميت خفق النعال إنما هو برد روحه عليه عند لقاء الملكين{[9714]} .
قال القاضي أبو محمد : فهذه الآية لا تعارض حديث القليب لأن الله تعالى رد على أولئك أرواحهم في القليب ليوبخهم ، وهذا على قول عمر وابنه عبد الله وهو الصحيح إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ما أنتم بأسمع منهم » ، وأما عائشة فمذهبها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسمعهم وأنه إنما قصد توبيخ الأحياء من الكفرة ، وجعلت هذه الآية أصلاً واحتجت بها ، فمثل الله تعالى في هذه الآية الكفرة بالأشخاص التي في القبور{[9715]}- وقرأ الحسن بن أبي الحسن «بمسمع من » على الإضافة .
{ وما يستوي الأحياء ولا الأموات }
وجملة { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } أظهر في هذه الجملة الفعل الذي قدّر في الجملتين اللتين قبلها وهو فعل { يستوي } لأن التمثيل هنا عاد إلى تشبيه حال المسلمين والكافرين إذ شبه حال المسلم بحال الأحياء وحال الكافرين بحال الأموات ، فهذا ارتقاء في تشبيه الحالين من تشبيه المؤمن بالبصير والكافر بالأعمى إلى تشبيه المؤمن بالحي والكافر بالميّت ، ونظيره في إعادة فعل الاستواء قوله تعالى في سورة الرعد ( 16 ) : { قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور } . فلما كانت الحياة هي مبعث المدارك والمساعي كلها وكان الموت قاطعاً للمدارك والمساعي شبه الإِيمان بالحياة في انبعاث خير الدنيا والآخرة منه وفي تلقي ذلك وفهمه ، وشبه الكفر بالموت في الانقطاع عن الأعمال والمدركات النافعة كلها وفي عدم تلقي ما يلقى إلى صاحبه فصار المؤمن شبيهاً بالحي مشابهة كاملة لمَّا خرج من الكفر إلى الإِيمان ، فكأنه بالإِيمان نفخت فيه الحياة بعد الموت كما أشار إليه قوله تعالى في سورة الأنعام ( 122 ) { أو من كان ميّتاً فأحييناه } وكان الكافر شبيهاً بالميت ما دام على كفره .
واكتُفي بتشبيه الكافر والمؤمن في موضعين عن تشبيه الكفر والإِيمان وبالعكس لتلازمهما ، وأوتي تشبيه الكافر والمؤمن في موضعين لكون وجه الشبه في الكافر والمؤمن أوضح ، وعُكس ذلك في موضعين لأن وجه الشبه أوضح في الموضعين الآخرين .
{ إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور }
لما كان أعظم حرمان نشأ عن الكفر هو حرمان الانتفاع بأبلغ كلام وأصدقه وهو القرآن كان حال الكافر الشبيهُ بالموت أوضح شبهاً به في عدم انتفاعه بالقرآن وإعراضه عن سماعه { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والْغوا فيه لعلكم تغلبون } [ فصلت : 26 ] ، وكان حال المؤمنين بعكس ذلك إذ تَلَقّوا القرآن ودرسوه وتفقهوا فيه { الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه أولئك الذين هداهم اللَّه } [ الزمر : 18 ] ، وأعقب تمثيل حال المؤمنين والكافرين بحال الأحياء والأموات بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم معذرة له في التبليغ للفريقين ، وفي عدم قبول تبليغه لدى أحد الفريقين ، وتسلية له عن ضياع وابل نصحه في سباخ قلوب الكافرين فقيل له : إن قبول الذين قبلوا الهدى واستمعوا إليه كان بتهيئة الله تعالى نفوسَهم لقبول الذكر والعلم ، وإن عدم انتفاع المعرضين بذلك هو بسبب موت قلوبهم فكأنهم الأموات في القبور وأنت لا تستطيع أن تُسمع الأموات ، فجاء قوله : { إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور } على مقابلة قوله : { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } مقابلة اللفِّ بالنشر المرتب .
جملة { إن الله يسمع من يشاء } تعليل لجملة { إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب } [ فاطر : 18 ] ، لأن معنى القصر ينحلّ إلى إثبات ونفي فكان مفيداً فريقين : فريقاً انتفع بالإِنذار ، وفريقاً لم ينتفع ، فعلل ذلك ب { إن الله يسمع من يشاء } .
وقوله : { وما أنت بمسمع من في القبور } إشارة إلى الذين لم يشأ الله أن يسمعهم إنذارك .
واستعير { من في القبور } للذين لم تنفع فيهم النذر ، وعبر عن الأموات ب { من في القبور } لأن من في القبور أعرق في الابتعاد عن بلوغ الأصوات لأن بينهم وبين المنادي حاجز الأرض . فهذا إطناب أفاد معنى لا يفيده الإِيجاز بأن يقال : وما أنت بمسمع الموتى .
وجيء بصيغة الجمع { الأحياء } و { الأموات } تفنناً في الكلام بعد أن أورد الأعمى والبصير بالإِفراد لأن المفرد والجمع في المعرف بلام الجنس سواء إذا كان اسماً له أفراد بخلاف النور والظل والحرور ، وأما جمع { الظلمات } فقد علمت وجهه آنفاً .