هذه الآيات الكريمات مشتملات على المحرمات بالنسب ، والمحرمات بالرضاع ، والمحرمات بالصهر ، والمحرمات بالجمع ، وعلى المحللات من النساء . فأما المحرمات في النسب فهن السبع اللاتي ذكرهن الله .
الأم يدخل فيها كل من لها عليك ولادة ، وإن بعدت ، ويدخل في البنت كل من لك عليها ولادة ، والأخوات الشقيقات ، أو لأب أو لأم . والعمة : كل أخت لأبيك أو لجدك وإن علا .
والخالة : كل أخت لأمك ، أو جدتك وإن علت وارثة أم لا . وبنات الأخ وبنات الأخت أي : وإن نزلت .
فهؤلاء هن المحرمات من النسب بإجماع العلماء كما هو نص الآية الكريمة وما عداهن فيدخل في قوله : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } وذلك كبنت العمة والعم وبنت الخال والخالة .
وأما المحرمات بالرضاع فقد ذكر الله منهن الأم والأخت . وفي ذلك تحريم الأم مع أن اللبن ليس لها ، إنما هو لصاحب اللبن ، دل بتنبيهه على أن صاحب اللبن يكون أبا للمرتضع فإذا ثبتت الأبوة والأمومة ثبت ما هو فرع عنهما كإخوتهما وأصولهم وفروعهم{[204]} .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " فينتشر التحريم من جهة المرضعة ومن له اللبن كما ينتشر في الأقارب ، وفي الطفل المرتضع إلى ذريته فقط . لكن بشرط أن يكون الرضاع خمس رضعات في الحولين كما بينت السنة .
وأما المحرمات بالصهر فهن أربع . حلائل الآباء وإن علوا ، وحلائل الأبناء وإن نزلوا ، وارثين أو محجوبين . وأمهات الزوجة وإن علون ، فهؤلاء الثلاث يحرمن بمجرد العقد .
والرابعة : الربيبة وهي بنت زوجته وإن نزلت ، فهذه لا تحرم حتى يدخل بزوجته كما قال هنا { وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } الآية .
وقد قال الجمهور : إن قوله : { اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } قيد خرج مخرج الغالب لا مفهوم له ، فإن الربيبة تحرم ولو لم تكن في حجره ولكن للتقييد بذلك فائدتان :
إحداهما : فيه التنبيه على الحكمة في تحريم الربيبة وأنها كانت بمنزلة البنت فمن المستقبح إباحتها .
والثانية : فيه دلالة على جواز الخلوة بالربيبة وأنها بمنزلة من هي في حجره من بناته ونحوهن . والله أعلم .
وأما المحرمات بالجمع فقد ذكر الله الجمع بين الأختين وحرمه وحرم النبي صلى الله عليه وسلم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ، فكل امرأتين بينهما رحم محرم لو قدر إحداهما ذكرًا والأخرى أنثى حرمت عليه فإنه يحرم الجمع بينهما ، وذلك لما في ذلك من أسباب التقاطع بين الأرحام .
والفقرة الثالثة في هذا الدرس ، تتناول سائر أنواع المحرمات من النساء . وهي خطوة في تنظيم الأسرة ، وفي تنظيم المجتمع على السواء :
( حرمت عليكم أمهاتكم ، وبناتكم ، وأخواتكم ، وعماتكم ، وخالاتكم ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت ، وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ، وأخواتكم من الرضاعة ، وأمهات نسائكم ، وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن - فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم - وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ، وأن تجمعوا بين الأختين - إلا ما قد سلف - إن الله كان غفورا رحيما ) . ( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم - كتاب الله عليكم - وأحل لكم ما وراء ذلكم . . . ) . .
والمحارم - أي اللواتي يحرم الزواج منهن - معروفة في جميع الأمم ، البدائية والمترقية على السواء . وقد تعددت أسباب التحريم ، وطبقات المحارم عند شتى الأمم ، واتسعت دائرتها في الشعوب البدائية ، ثم ضاقت في الشعوب المترقية .
والمحرمات في الإسلام هي هذه الطبقات المبينة في هذه الآية والآية التي قبلها ، والآية التي بعدها . . وبعضها محرمة تحريما مؤبدا ، وبعضها محرمة تحريما مؤقتا . . وبعضها بسبب النسب ، وبعضها بسبب الرضاعة ، وبعضها بسبب المصاهرة .
وقد الغى الإسلام كل أنواع القيود الأخرى ، التي عرفتها المجتمعات البشرية الأخرى . كالقيود التي ترجع إلى اختلاف الأجناس البشرية وألوانها وقومياتها . والقيود التي ترجع إلى اختلاف الطبقات ومقاماتها الاجتماعية في الجنس الواحد والوطن الواحد . .
والمحرمات بالقرابة في شريعة الإسلام أربع طبقات :
أولاها : أصوله مهما علوا . فيحرم عليه التزوج من أمه وجداته من جهة أبيه أو من جهة أمه مهما علون : ( حرمت عليكم أمهاتكم ) . .
وثانيتها : فروعه مهما نزلوا . فيحرم عليه التزوج ببناته وبنات أولاده ذكورهم وإناثهم مهما نزلوا : ( وبناتكم ) . .
وثالثتها : فروع أبويه مهما نزلوا . فيحرم عليه التزوج بأخته وببنات إخوته وأخواته وببنات أولاد إخوته وأخواته : ( وأخواتكم ) . . ( وبنات الأخ ، وبنات الأخت ) . .
ورابعتها : الفروع المباشرة لأجداده . فيحرم عليه التزوج بعمته وخالته ، وعمة أبيه وعمة جده لأبيه أو أمه ، وعمة أمه وعمة جدته لأبيه أو أمه . . ( وعماتكم وخالاتكم ) . . أما الفروع غير المباشرة للأجداد فيحل الزواج بهم . ولذلك يباح التزاوج بين أولاد الأعمام والعمات وأولاد الأخوال والخالات .
والمحرمات بالمصاهرة خمس : 1 - أصول الزوجة مهما علون . فيحرم على الرجل الزواج بأم زوجته ، وجداتها من جهة أبيها أو من جهة أمها مهما علون . ويسري هذا التحريم بمجرد العقد على الزوجة : سواء دخل بها الزوج أم لم يدخل : ( وأمهات نسائكم ) . .
2- فروع الزوجة مهما نزلن . فيحرم على الرجل الزواج ببنت زوجته ، وبنات أولادها ، ذكورا كانوا أم إناثا مهما نزلوا . ولا يسري هذا التحريم إلا بعد الدخول بالزوجة : ( وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن . فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم ) . .
3- زوجات الأب والأجداد من الجهتين - مهما علوا - فيحرم على الرجل الزواج بزوجة أبيه ، وزوجة أحد أجداده لأبيه أو أمه مهما علوا . . ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ) . . أي ما سلف في الجاهلية من هذا النكاح وقد كانت تجيزه . .
4- زوجات الابناء ، وأبناء الأولاد مهما نزلوا . فيحرم على الرجل الزواج بامرأة ابنه من صلبه ، وامرأة ابن ابنه ، أو ابن بنته مهما نزل : ( وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ) . . وذلك إبطالا لعادة الجاهليةفي تحريم زوجة الابن المتبني . وتحديده بابن الصلب . ودعوة أبناء التبني إلى آبائهم - كما جاء في سورة الأحزاب .
5- أخت الزوجة . . وهذه تحرم تحريما مؤقتا ، ما دامت الزوجة حية وفي عصمة الرجل . والمحرم هو الجمع بين الأختين في وقت واحد : ( وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ) . . أي ما سلف من هذا النكاح في الجاهلية وقد كانت تجيزه . .
ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب والصهر . وهذه تشمل تسع محارم :
1- الأم من الرضاع وأصولها مهما علون : ( وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ) .
2- البنت من الرضاع وبناتها مهما نزلن [ وبنت الرجل من الرضاع هي من أرضعتها زوجته وهي في عصمته ] .
3- الأخت من الرضاع ، وبناتها مهما نزلن ( وأخواتكم من الرضاعة ) .
4- العمة والخالة من الرضاع [ والخالة من الرضاع هي أخت المرضع . والعمة من الرضاع هي أخت زوجها ] .
5- أم الزوجة من الرضاع [ وهي التي أرضعت الزوجة في طفولتها ] وأصول هذه الأم مهما علون . ويسري هذا التحريم بمجرد العقد على المرأة - كما في النسب .
6- بنت الزوجة من الرضاع [ وهي من كانت الزوجة قد أرضعتها قبل أن تتزوج بالرجل ] وبنات أولادها مهما نزلوا . ولا يسري هذا التحريم إلا بعد الدخول بالزوجة .
7- زوجة الأب أو الجد من الرضاع مهما علا [ والأب من الرضاع هو من رضع الطفل من زوجته . فلا يحرم على هذا الطفل الزواج بمن أرضعته فحسب ، وهي أمه من الرضاع . بل يحرم عليه كذلك الزواج بضرتها التي تعتبر زوجة أبيه من الرضاع ] .
8- زوجة الابن من الرضاع مهما نزل .
9- الجمع بين المرأة وأختها من الرضاع ، أو عمتها أو خالتها من الرضاع ، أو أية امرأة أخرى ذات رحم محرم منها من ناحية الرضاع . .
والنوع الأول والثالث من هذه المحرمات ورد تحريمهما نصا في الآية . أما سائر هذه المحرمات فهي تطبيق للحديث النبوي : " يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب " . . [ أخرجه الشيخان ] . .
هذه هي المحرمات في الشريعة الإسلامية ، ولم يذكر النص علة للتحريم - لا عامة ولا خاصة - فكل ما يذكر من علل ، إنما هو استنباط ورأي وتقدير . .
فقد تكون هناك علة عامة . وقد تكون هناك علل خاصة بكل نوع من أنواع المحارم . وقد تكون هناك علل مشتركة بين بعض المحارم .
إن الزواج بين الأقارب يضوي الذرية ، ويضعفها مع امتداد الزمن . لأن استعدادات الضعف الوراثية قد تتركز وتتأصل في الذرية . على عكس ما إذا تركت الفرصة للتلقيح الدائم بدماء أجنبية جديدة ، تضاف استعداداتها الممتازة ، فتجدد حيوية الأجيال واستعداداتها .
أو يقال : إن بعض الطبقات المحرمة كالأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت . وكذلك نظائرهن من الرضاعة . وأمهات النساء ، وبنات الزوجات - الربائب والحجور - يراد أن تكون العلاقة بهن علاقة رعاية وعطف ، واحترام وتوقير ، فلا تتعرض لما قد يجد في الحياة الزوجية من خلافات تؤدي إلى الطلاق والانفصال - مع رواسب هذه الانفصال - فتخدش المشاعر التي يراد لها الدوام .
أو يقال : إن بعض هذه الطبقات كالربائب في الحجور ، والأخت مع الأخت ، وأم الزوجة وزوجة الأب . . لا يراد خدش المشاعر البنوية أو الأخوية فيها . فالأم التي تحس أن ابنتها قد تزاحمها في زوجها ، والبنت والأخت كذلك ، لا تستبقي عاطفتها البريئة تجاه بنتها التي تشاركها حياتها ، أو أختها التي تتصل بها ، أو أمها ، وهي أمها ! وكذلك الأب الذي يشعر أن إبنه قد يخلفه على زوجته . والابن الذي يشعر أن أباه الراحل أو المطلق غريم له ، لأنه سبقه على زوجته ! ومثله يقال في حلائل الأبناء الذين من الأصلاب ، بالنسبة لما بين الابن والأب من علاقة لا يجوز أن تشاب !
أو يقال : إن علاقة الزواج جعلت التوسيع نطاق الأسرة ، ومدها إلى ما وراء رابطة القرابة . ومن ثم فلا ضرورة لها بين الأقارب الأقربين ، الذين تضمهم آصرة القرابة القريبة . ومن ثم حرم الزواج من هؤلاء لانتفاء الحكمة فيه ، ولم يبح من القريبات إلا من بعدت صلته ، حتى ليكاد أن يفلت من رباط القرابة .
وأيا ما كانت العلة ، فنحن نسلم بأن اختيار الله لا بد وراءه حكمة ، ولا بد فيه مصلحة . وسواء علمنا أو جهلنا ، فإن هذا لا يؤثر في الأمر شيئا ، ولا ينقص من وجوب الطاعة والتنفيذ ، مع الرضى والقبول . فالإيمان لا يتحقق في قلب ، ما لم يحتكم إلى شريعة الله ، ثم لا يجد في صدره حرجا منها ويسلم بها تسليما .
ثم تبقى كلمة أخيرة عامة عن هذه المحارم ، ونص التشريع القرآني المبين لها :
إن هذه المحرمات كانت محرمة في عرف الجاهلية - فيما عدا حالتين اثنتين : ما نكح الآباء من النساء ، والجمع بين الأختين . فقد كانتا جائزتين - على كراهة من المجتمع الجاهلي . .
ولكن الإسلام - وهو يحرم هذه المحارم كلها - لم يستند إلى عرف الجاهلية في تحريمها . إنما حرمها ابتداء ، مستندا إلى سلطانه الخاص . وجاء النص : حرمت عليكم أمهاتكم . . إلخ . .
والأمر في هذا ليس أمر شكليات ؛ إنما هو أمر هذا الدين كله . وإدراك العقدة في هذا الأمر هو إدراك لهذا الدين كله ، وللأصل الذي يقوم عليه : أصل الألوهية وإخلاصها لله وحده . .
إن هذا الدين يقرر أن التحليل والتحريم هو من شأن الله وحده ، لأنهما أخص خصائص الألوهية . فلا تحريم ولا تحليل بغير سلطان من الله . فالله - وحده - هو الذي يحل للناس ما يحل ، ويحرم على الناس ما يحرم . وليس لأحد غيره أن يشرع في هذا وذاك ، وليس لأحد أن يدعي هذا الحق . لأن هذا مرادف تماما لدعوى الألوهية !
ومن ثم فإن الجاهلية تحرم أو تحلل ، فيصدر هذا التحريم والتحليل عنها باطلا بطلانا أصليا ، غير قابل للتصحيح ، لأنه لا وجود له منذ الابتداء . فإذا جاء الإسلام إلى ما أحلت الجاهلية أو حرمت ، فهو يحكم ابتداء ببطلانه كلية بطلانا أصليا ، ويعتبره كله غير قائم . بما أنه صادر من جهة لا تملك إصداره - لأنها ليست إلها - ثم يأخذ هو في إنشاء أحكامه إنشاء . فإذا أحل شيئا كانت الجاهلية أو حرم شيئا كانت الجاهلية تحرمه فهو ينشيء هذه الأحكام ابتداء . ولا يعتبر هذا منه اعتمادا لأحكام الجاهلية التي أبطلها كلها ، لأنها هي باطلة ، ثم تصدر من الجهة التي تملك وحدها إصدار هذه الأحكام . . وهي الله . .
هذه النظرية الإسلامية في الحل والحرمة تشمل كل شيء في الحياة الإنسانية ، ولا يخرج عن نطاقها شيء في هذه الحياة . . إنه ليس لأحد غير الله أن يحل أو يحرم ، في نكاح ، ولا في طعام ، ولا في شراب ، ولا في لباس ، ولا في حركة ، ولا في عمل ، ولا في عقد ، ولا في تعامل ، ولا في ارتباط ، ولا في عرف ، ولا في وضع . . إلا أن يستمد سلطانه من الله ، حسب شريعة الله .
وكل جهة أخرى تحرم أو تحلل شيئا في حياة البشر - كبر أم صغر - تصدر أحكامها باطلة بطلانا أصليا ، غير قابل للتصحيح المستأنف . وليس مجيء هذه الأحكام في الشريعة الإسلامية تصحيحا واعتمادا لما كان منها في الجاهلية . إنما هو إنشاء مبتدأ لهذه الأحكام ، مستند إلى المصدر الذي يملك إنشاء الأحكام .
وهكذا أنشأ الإسلام أحكامه في الحل والحرمة ، وهكذا أقام الإسلام أوضاعه وأنظمته . وهكذا نظم الإسلام شعائره وتقاليده . مستندا في إنشائها إلى سلطانه الخاص .
لقد عني القرآن بتقرير هذه النظرية ، وكرر الجدل مع الجاهليين في كل ما حرموه وما حللوه . . عني بتقرير المبدأ . فكان يسأل في استنكار : ( قل : من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ؟ ) . . ( قل : تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ) . . ( قال : لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير . . إلخ ) . .
وكان يردهم بهذه الاستنكارات إلى ذلك المبدأ الأساسي . وهو أن الذي يملك حق التحريم والتحليل هو الله وحده . وليس ذلك لأحد من البشر . . لا فرد ولا طبقة ولا أمة ، ولا الناس أجمعين . . إلا بسلطان من الله . وفق شريعة الله . . والتحليل والتحريم - أي الحظر والإباحة - هو الشريعة ، وهو الدين . فالذي يحلل ويحرم هو صاحب الدين الذي يدين الناس . فإن كان الذي يحرم ويحلل هو الله ، فالناس إذن يدينون لله ، وهم إذن في دين الله . وإن كان الذي يحرم أو يحلل أحدا غير الله ، فالناس إذن يدينون لهذا الأحد ؛ وهم إذن في دينه لا في دين الله .
والمسألة على هذا الوضع هي مسألة الألوهية وخصائصها . وهي مسألة الدين ومفهومه . وهي مسألة الإيمان وحدوده . . فلينظر المسلمون في أنحاء الأرض أين هم من هذا الأمر ؟ أين هم من الدين ؟ وأين هم من الإسلام . . إن كانوا ما يزالون يصرون على ادعائهم للإسلام ! ! !
ويليه الجزء الخامس مبدوءا بقوله تعالى : والمحصنات من النساء .
وقوله تعالى : { حرمت عليكم } الآية ، حكم الله به سبعاً من النسب ، وستاً من بين رضاع وصهر ، وألحقت السنة المأثورة سابعة ، وذلك الجمع بين المرأة وعمتها ، ومضى عليه الإجماع ، وروي عن الأنصار : مثل ذلك ، وجعل السابعة قوله تعالى : { والمحصنات من النساء } [ النساء : 24 ] ، وتحريم الأمهات عام في كل حال لا يتخصص بوجه من الوجوه ، ويسميه أهل العلم – المبهم_أي لا باب فيه ، ولا طريق إليه لانسداد التحريم وقوته ، وكذلك تحريم البنات والأخوات ، فالأم كل من ولدت المرء وإن علت والبنت كل من ولدها وإن سفلت ، والأخت كل من جمعه وإياها صلب أو بطن ، والعمة أخت الأب ، والخالة أخت الأم ، كذلك فيهما العموم والإبهام ، وكذلك عمة الأب وخالته ، وعمة الأم وخالتها ، وكذلك عمة العمة ، وأما خالة العمة فينظر ، فإن كانت العمة أخت أب لأم ، أو لأب وأم فلا تحل خالة العمة ، لأنها أخت الجدة ، وإن كانت العمة إنما هي أخت أب لأب فقط فخالتها أجنبية من بني أخيها ، تحل للرجال ، ويجمع بينها وبين النساء وكذلك عمة الخالة ينظر ، فإن كانت الخالة أخت أم لأب ، فعمتها حرام ، لأنها أخت جد ، وإن كانت الخالة أخت أم لأم فقط فعمتها أجنبية من بني أختها وكذلك في بنات الأخ وبنات الأخت العموم والإبهام ، سواء كانت الأخوة شقيقة . أو لأب أو لأم . وقرأ أو حيوة «من الرِّضاعة » بكسر الراء ، والرضاع يحرم ما يحرم النسب ، والمرضعة أم ، وما تقدم من أولادها وتأخر إخوة ، وفحل اللبن أب ، وما تقدم من أولاده وتأخر إخوة ، وقرأ ابن مسعود «اللاي » بكسر الياء ، وقرأ ابن هرمز «وأمهاتكم التي » بالإفراد ، كأنه من جهة الإبهام يقع مع الواحد والجماعة ، واختلف الناس في تأويل قوله تعالى : { وأمهات نسائكم } فقال جمهور أهل العلم : هي تامة العموم فيمن دخل بها أو لم يدخل ، فبالعقد على الابنة حرمت الأم ، وهذا مذهب جملة الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ، وروي عن علي بن أبي طالب أنه قيل له في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها أيتزوج أمها ؟ قال : نعم ، هي بمنزلة الربيبة .
قال القاضي أبو محمد : يريد أن قوله تعالى : { من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } شرط في هذه ، وفي الربيبة وروي نحوه عن ابن عباس ، وروي عنه كقول الجمهور ، وروي عن زيد بن ثابت ، أنه كان يقول : إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها ، وإن طلقها قبل أن يدخل بها ، فإن شاء فعل ، وقال مجاهد : الدخول مراد في النازلتين ، وقول جمهور الناس مخالف لهذا القول ، وروي في ذلك عن زيد بن ثابت أنه قال : { أمهات نسائكم } مبهمة ، وإنما الشرط في الربائب ، وقال ابن جريج : قلت لعطاء : أكان ابن عباس يقرأ «وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن » ؟ فقال لا تترأ ، قال حجاج : قلت لابن جريج : ما تترأ ؟ قال كأنه قال : لا لا ، يرد هذا القول من جهة الإعراب أن المجرورين إذا اختلفا لم يكن نعتهما واحداً ، ومعناه : إذا اختلفا في العامل ، وهذه الآية قد اختلف فيها جنس العامل .
الربيبة : بنت امرأة الرجل من غيره ، سميت بذلك لأنه يربيها في حجره فهي مربوبته ، وربيبة : فعيلة بمعنى مفعولة ، وقوله تعالى : { اللائي في حجوركم } ذكر الأغلب في هذه الأمور ، إذ هي حالة الربيبة في الأكثر ، وهي محرمة وإن كانت في غير الحجر ، لأنها في حكم أنها في الحجر ، إلا ما روي عن علي أنه قال : تحل إذا لم تكن في الحجر وإن دخل بالأم ، إذا كانت بعيدة عنه ، ويقال : حِجَرْ بكسر الحاء وفتحها ، وهو مقدم ثوب الإنسان وما بين يديه منه في حالة اللبس ، ثم استعملت اللفظة في الحفظ والستر ، لأن اللابس إنما يحفظ طفلاً وما أشبهه بذلك الموضع من الثوب ، واختلف العلماء في معنى قوله : { دخلتم بهن } فقال ابن عباس وطاوس وابن دينار : الدخول في هذا الموضع الجماع ، فإن طلق الرجل بعد البناء وقبل الوطء ، فإن ابنتها له حلال وقال جمهور من العلماء منهم مالك بن أنس وعطاء بن أبي رباح وغيرهم : إن التجريد والتقبيل والمضاجعة وجميع أنواع التلذذ يحرم الابنة كما يحرمها الوطء ، والحلائل : جمع حليلة ، وهي الزوجة ، لأنها تحل مع الرجل حيث حل ، فهي فعيلة بمعنى فاعلة ، وذهب الزجاج وقوم : إلى أنها من لفظة الحلال ، فهي حليلة بمعنى محللة ، وقوله : { الذين من أصلابكم } تخصيص ليخرج عنه كل من كانت العرب تتبناه ممن ليس للصلب ، وكان عندهم أمراً كثيراً قوى الحكم ، قال عطاء ابن أبي رباح : يتحدث - والله أعلم - أنها نزلت في محمد عليه السلام حين تزوج امرأة زيد بن حارثة ، فقال المشركون : قد تزوج امرأة ابنه ، فنزلت الآية ، وحرمت حليلة الابن من الرضاع وإن لم يكن للصلب بالإجماع المستند إلى قوله صلى الله عليه وسلم ، ( يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ){[3923]} ، وقوله تعالى : { وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف } لفظ يعم الجمع بنكاح وبملك يمين ، وأجمعت الأمة على منع جمعهما بنكاح ، وأما بملك يمين ، فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه : أحلتهما آية ، وحرمتهما آية ، فأما أنا في خاصة نفسي فلا أرى الجمع بينهم حسناً ، وروي نحو هذا عن ابن عباس ، ذكره ابن المنذر ، وذكر أن إسحاق بن راهويه حرم الجمع بينهما بالوطء ، وأن جمهور أهل العلم كرهوا ذلك ، وجعل مالكاً فيمن كرهه .
قال القاضي أبو محمد : ولا خلاف في جواز جمعهما في الملك ، وكذلك الأم وبنتها ، ويجيء من قول إسحاق أن يرجم الجامع بينهما بالوطء ، وتستقرأ الكراهية من قول مالك : إنه إذا وطىء واحدة ثم وطىء أخرى وقف عنهما حتى يحرم إحداهما فلم يلزمه حدا . واختلف العلماء بعد القول بالمنع من الجمع بينهما بالوطء ، إذا كان يطأ واحدة ثم أراد أن يطأ الأخرى ، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عمرو والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق : لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ، ببيع أو عتق أو بأن يزوجها ، قال ابن المنذر : وفيها قول ثان لقتادة ، وهو أنه إن كان يطأ واحدة وأراد وطء الأخرى فإنه ينوي تحريم الأولى على نفسه وأن لا يقربها ، ثم يمسك عنها حتى يستبرىء الأولى المحرمة ، ثم يغشى الثانية .
قال القاضي أبو محمد : ومذهب مالك رحمه الله ، إذا كان أختان عند رجل بملك ، فله أن يطأ أيتهما شاء ، والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته ، فإن أراد وطء الأخرى فيلزمه أن يحرم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله ، من إخراج عن الملك ، أو تزويج ، أو عتق إلى أجل ، أو إخدام طويل ، فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرم الأولى وقف عنهما ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرم الأخرى ، ولم يبق ذلك إلى أمانته ، لأنه متهم فيمن قد وطىء ، ولم يكن قبل متهماً إذا كان لم يطأ إلا الواحدة ، وإن كانت عند رجل أمة يطؤها ثم تزوج أختها ، ففيها في المذهب ثلاثة أقوال ، في النكاح الثالث من المدونة أنه يوقف عنهما إذا وقع عقد النكاح حتى يحرم إحداهما مع كراهيته لهذا النكاح ، إذ هو عقد في موضع لا يجوز فيه الوطء ، وذلك مكروه إلا في الحيض ، لأنه أمر غالب كثير ، وفي الباب بعينه قول آخر : إن النكاح لا ينعقد ، وقال أشهب في كتاب الاستبراء : عقد النكاح في الواحدة تحريم لفرج المملوكة ، وثبت عن النبي صلى الله عليه أنه نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها ، وبين المرأة وخالتها ، وأجمعت الأمة على ذلك وقد رأى بعض العلماء أن هذا الحديث ناسخ لعموم قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } [ النساء : 24 ] وذلك لأن الحديث من المتواتر ، وكذلك قوله عليه السلام ، يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ، قيل أيضاً إنه ناسخ ، وقوله تعالى : { إلا ما قد سلف } استثناء منقطع ، معناه لكن ما قد سلف من ذلك ووقع وأزاله الإسلام فإن الله يغفره ، والإسلام يجبّه .
تخلّص إلى ذكر المحرّمات بمناسبة ذكر تحريم نكاح ما نكح الآباء وغُيِّر أسلوب النهي فيه لأنّ ( لا تفعل ) نهي عن المضارع الدالّ على زمن الحال فيؤذن بالتلبّس بالمنهي ، أو إمكان التلبّس به ، بخلاف { حرمت } فيدلّ على أنّ تحريمه أمر مقرّر ، ولذلك قال ابن عباس : « كان أهل الجاهلية يحرّمون ما يحرّم الإسلام إلا امرأة الأب والجمعَ بين الأختين » فمن أجل هذا أيضاً نجد حكم الجمع بين الأختين عُبّر فيه بلفظ الفعل المضارع فقيل : { وأن تجمعوا بين الأختين } .
وتعلُّقُ التحريم بأسماء الذوات يُحمل على تحريم ما يُقصد من تلك الذات غالباً فنحو { حرمت عليكم الميتة } إلخ معناه حُرّم أكلها ، ونحو : حرّم الله الخمر ، أي شربها ، وفي { حرمت عليكم أمهاتكم } معناه تزوجهنّ .
والأمّهات جمع أُمَّةٍ أو أُمَّهةٍ ، والعرب أماتوا أمَّهة وأمَّه وأبقوا جمعه ، كما أبْقوا أُمّ وأماتوا جمعه ، فلم يسم منهم الأمَّا ، وورد أُمَّة نادراً في قول قول شاعر أنشده ابن كيسان :
تقبلتَها عن أمَّةٍ لكَ طَالما *** تُنوزعَ في الأسواق منها خمارُها
وورد أمهة نادراً في بيت يُعزى إلى قصي بن كلاب :
عند تناديهم بهَاللٍ وهَبي *** أمَّهَتي خِندفُ وإليَاسُ أبي
وجاء في الجمع أمَّهات بكثرة ، وجاء أمَّات قليلاً في قول جرير :
لقد ولدَ الأخيطلَ أمُّ سوء *** مقلَّدة من الأمَّات عارا
وقيل : إنّ أمَّات خاصّ بما لا يعقل ، قال الراعي :
كانت نَجَائبُ مُنْذِر ومُحَرّق *** أمَّاتهنّ وطرقُهُنّ فَحيلا
فيحتمل أنّ أصل أم أمَّا أو أمَّها فوقع فيه الحذف ثمّ أرجعوها في الجمع .
ومن غريب الاتّفاق أنّ أسماء أعضاء العائلة لم تجر على قياس مثل أب ، إذ كان على حرفين ، وأخ ، وابن ، وابنة ، وأحسب أنّ ذلك من أثر أنّها من اللُّغة القديمة التي نطق بها البشر قبل تهذيب اللغة ، ثمّ تطوّرت اللُّغةُ عليها وهي هي . والمراد من الأمهات وما عطف عليها الدنيا وما فوقها ، وهؤلاء المحرّمات من النسب ، وقد أثبت الله تعالى تحريم مَنْ ذكَرَهنّ ، وقد كنّ محرّمات عند العرب في جاهليتها ، تأكيداً لذلك التحريم وتغليظاً له ، إذ قد استقرّ ذلك في الناس من قبل ، فقد قالوا ما كانت الأمّ حلالا لابنها قطّ من عهد آدم عليه السلام ، وكانت الأخت التوأمة حراماً وغيرُ التوامة حلالا ، ثمّ حرّم الله الأخوات مطلقاً من عهد نوح عليه السلام ، ثم حرّمت بنات الأخ ، ويوجد تحريمهنّ في شريعة موسى عليه السلام ، وبقي بنات الأخت حلالا في شريعة موسى ، وثبت تحريمهنّ عند العرب في جاهليتها فيما روى ابن عطية في تفسيره ، عن ابن عباس : أنّ المحرّمات المذكورات هنا كانت مُحرّمة في الجاهلية ، إلاّ امرأة الأب ، والجمعَ بين الأختين . ومثله نقله القرطبي عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة مع زيادة توجيه ذكر الاستثناء بقوله : { إلا ما قد سلف } في هذبن خاصة ، وأحسب أن هذا كلّه توطئة لتأويل الاستثناء في قول { إلا ما قد سلف } بأنّ معناه : إلاّ ما سلف منكم في الجاهلية فلا إثم عليكم فيه ، كما سيأتي ، وكيف يستقيم ذلك فقد ذكر فيهنّ تحريم الربائب والأخوات من الرضاعة ، ولا أحسبهنّ كنّ محرّمات في الجاهلية .
واعلم أنّ شريعة الإسلام قد نوّهت ببيان القرابة القريبة ، فغرست لها في النفوس وقارا ينزّه عن شوائب الاستعمال في اللَّهو والرفث ، إذ الزواج ، وإن كانّ غرضاً صالحاً باعتبار غايته ، إلاّ أنّه لا يفارق الخاطرَ الأوّل الباعث عليه ، وهو خاطر اللهو والتلذّذ .
فوقار الولادة ، أصلا وفرعا ، مانع من محاولة اللهو بالوالدة أو المولودة ، ولذلك اتّفقت الشرائع على تحريمه ، ثم تلاحق ذلك في بنات الإخوة وبنات الأخوات ، وكيف يسري الوقار إلى فرع الأخوات ولا يثبت للأصل ، وكذلك سرى وَقار الآباء إلى أخوات الآباء ، وهنّ العمّات ، ووقار الأمّهات إلى أخواتهنّ وهنّ الخالات ، فمرجع تحريم هؤلاء المحرّمات إلى قاعدة المروءة التابعة لكليّة حفظ العِرض ، من قسم المناسب الضروري ، وذلك من أوائل مظاهر الرقي البشري . و ( ال ) في قوله : { وبنات الأخ وبنات الأخت } عوض عن المضاف إليه أي بنات أخيكم وبنات أختكم .
وقوله : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } سمّى المراضع أمهّات جريا على لغة العرب ، وما هنّ بأمّهات حقيقة . ولكنهنّ تنزّلن منزلة الأمّهات لأنّ بلبانهنّ تغذّت الأطفال ، ولما في فطرة الأطفال من محبّة لمرضعاتهم محبّة أمّهاتهم الوالدات ، ولزيادة تقرير هذا الإطلاق الذي اعتبره العرب ثم ألحق ذلك بقوله : { اللاتي أرضعنكم } دفعاً لتوهّم أنّ المراد الأمّهات إذ لو لا قصد إرادة المرضعات لما كان لهذا الوصف جدوى .
وقد أجملت هنا صفةُ الإرضاع ومدّتُه وعدَده إيكالا للناس إلى متعارفهم . وملاك القول في ذلك : أنّ الرضاع إنّما اعتبرت له هذه الحرمة لمعنى فيه وهو أنّه الغذاء الذي لا غذاء غيره للطفل يعيش به ، فكان له من الأثر في دوام حياة الطفل ما يماثل أثَر الأمّ في أصل حياة طفلها . فلا يعتبر الرضاع سبباً في حرمة المرضع على رضيعها إلاّ ما استوفى هذا المعنى من حصول تغذية الطفل وهو ما كان في مدّة عدم استغناء الطفل عنه ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم « إنّما الرضاعة من المجاعة » . وقد حدّدت مدّة الحاجة إلى الرضاع بالحولين لقوله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } وقد تقدّم في سورة البقرة ( 233 ) . ولا اعتداد بالرضاع الحاصل بعد مضي تجاوز الطفل حولين من عمره ، بذلك قال عمر بن الخطاب ، وابن مسعود ، وابن عباس ، والزهري ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، والأوزاعي ، والثوري ، وأبو يوسف ، وقال أبو حنيفة : المدّة حولان وستّة أشهر . وروى ابن عبد الحكم عن مالك : حولان وأيّام يسيرة . وروى ابن القاسم عنه : حولان وشهران . وروى عنه الوليدُ بن مسلم : والشهران والثلاثة .
والأصحّ هو القول الأوّل ؛ ولا اعتداد برضاع فيما فوق ذلك ، وما روي أنّ النبي أمر سَهْلَة بنتَ سُهيل زوجةَ أبي حُذيفة أن ترضع سالماً مولى أبي حذيفة لمّا نزلت آية { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } [ الأحزاب : 4 ] إذ كان يدخل عليها كما يدخل الأبناء على أمّهاتهم ، فتلك خصوصيّة لها ، وكانت عائشة أمّ المؤمنين إذا أرادت أن يدخل عليها أحد الحجابَ أرضعتْه ، تأوّلت ذلك من إذن النبي صلى الله عليه وسلم لِسَهْلة زوج أبي حذيفة ، وهو رأي لم يوافقها عليه أمّهات المؤمنين ، وأبَيْن أن يدخل أحد عليهنّ بذلك ، وقال به الليث بن سعد ، بإعمال رضاع الكبير . وقد رجع عنه أبو موسى الأشعري بعد أن أفتى به .
وأمَّا مقدار الرضاع الذي يحصل به التحريم ، فهو ما يصدق عليه اسم الرضاع وهو ما وصل إلى جوف الرضيع في الحولين ولو مصَّة واحدة عند أغلب الفقهاء ، وقد كان الحكم في أوّل أمر التحريم أن لا تقع الحرمة إلاّ بعشر رضعات ثمّ نسخن بخمس ، لحديث عائشة « كان فيما أنزل الله عشرُ رضعات معلومات يحرّمْن ثمّ نسخن بخمس معلومات فتوفيّ رسول الله وهي فيما يقرأ من القرآن » وبه أخذ الشافعي . وقال الجمهور : هو منسوخ ، وردّوا قولها ( فتوفّي رسول الله وهي فيما يُقرأ ) بنسبة الراوي إلى قلّة الضبط لأنّ هذه الجملة مسترابة إذ أجمع المسلمون على أنها لا تقرأ ولا نسخ بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا فطم الرضيع قبل الحولين فظاما استغنى بعده عن لبن المرضع بالطعام والشراب لم تحرم عليه من أرضعته بعد ذلك .
وقوله تعالى : { وأخواتكم من الرضاعة } إطلاق اسم الأخت على التي رضعت من ثدي مرضعة من أضيفت أخت إليه جرى على لغة العرب ، كما تقدّم في إطلاق الأمّ على المرضع . والرضاعة بفتح الراء اسم مصدر رضع ، ويجوز كسر الراء ولم يقرأ به . ومحلّ { من الرضاعة } حال من { أخواتكم } و ( من ) فيه للتعليل والسببية ، فلا تعتبر أخوَّة الرضاعة إلاّ برضاعة البنت من المرأة التي أرضعت الولد .
وقوله : { وأمهات نسائكم } هؤلاء المذكورات إلى قوله : { وأن تجمعوا بين الأختين } هنّ المحرّمات بسبب الصِّهر ، ولا أحسب أنّ أهل الجاهلية كانوا يحرّمون شيئاً منها ، كيف وقد أباحوا أزواج الآباء وهنّ أعظم حرمة من جميع نساء الصهر ، فكيف يظنّ أنهم يحرّمون أمّهات النساء والربائب وقد أشيع أنّ النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يتزوّج دُرّةَ بنتَ أبي سَلَمة وهي ربيبته إذ هي بنت أمّ سلمة ، فسألته إحدى أمّهات المؤمنين فقال : " لو لم تكن ربيبتي لما حلّت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبَا سَلَمة ثويبة " وكذلك حلائل الأبناء إذ هنّ أبعدُ من حلائل الآباء ، فأرى أنّ هذا من تحريم الإسلام وأنّ ما حكى ابن عطية عن ابن عباس ليس على إطلاقه .
وتحريم هؤلاء حكمته تسهيل الخلطة ، وقطع الغيرة ، بين قريب القرابة حتّى لا تفضي إلى حزازات وعداوات ، قال الفخر : « لو لم يدخل على المرأة أبو الرجل وابنه ، ولم تدخل على الرجل امرأتُه وابنتها ، لبقيت المرأة كالمحبوسة . ولتعطّل على الزوج والزوجة أكثر المصالح ، ولو كان الإذن في دخول هؤلاء دون حكم المحرمية فقد تمتدّ عين البعض إلى البعض وتشتدّ الرغبة فتحصل النفرة الشديدة بينهنّ ، والإيذاء من الأقارب أشدّ إيلاماً ، ويترتّب عليه التطليق ، أمّا إذا حصلت المحرمية انقطعت الأطماع ، وانحبست الشهوة ، فلا يحصل ذلك الضرر ، فيبقى النكاح بين الزوجين سليماً عن هذه المفسدة » قلت : وعليه فَتحريم هؤلاء من قسم الحاجيّ من المناسب .
والربائب جمع ربيبة ، وهي فعلية بمعنى مفعولة ، من ربَّه إذا كفله ودبّر شؤونه ، فزوج الأمّ رابٌّ وابنتها مربوبة له ، لذلك قيل لها ربيبة .
والحُجور جمع حِجْر بفتح الحاء وكسرها مع سكون الجيم وهو ما يحويه مجتمع الرّجلين للجالس المتربّع . والمراد به هنا معنى مجازي وهو الحضانة والكفالة ، لأنّ أوّل كفالة الطفل تكون بوضعه في الحَجر ، كما سمّيت حضانة ، لأنّ أوّلها وضع الطفل في الحضن .
وظاهر الآية أنّ الربيبة لا تحرم على زوج أمّها إلاّ إذا كانت في كفالته ، لأن قوله { اللاتي في حجوركم } وصف والأصل فيه إرادة التقييد كما أريد من قوله : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } فظاهر هذا أنّها لو كانت بعيدة عن حضانته لم تحرم . ونسب الأخذ بهذا الظاهر إلى علي بن أبي طالب ، رواه ابن عطية ، وأنكر ابن المنذر والطحاوي صحّة سند النقل عن علي ، وقال ابن العربي : إنّه نَقْل باطل . وجزم ابن حزم في المحلَّى بصحّة نسبة ذلك إلى علي بن أبي طالب وعمرَ بن الخطاب . وقال بذلك الظاهرية ، وكأنّهم نظروا إلى أنّ علّة تحريمها مركّبة من كونها ربيبة وما حدث من الوقار بينها وبين حاجرها إذا كانت في حجره وأمّا جمهور أهل العلم فجعلوا هذا الوصف بيانا للواقع خارجاً مخرج الغالب ، وجعلوا الربيبة حراماً على زوج أمّها ، ولو لم تكن هي في حجره . وكأنّ الذي دعاهم إلى ذلك هو النظر إلى علّة تحريم المحرّمات بالصهر ، وهي التي أشار إليها كلام الفخر المتقدّم . وعندي أنّ الأظهر أنّ يكون الوصف هنا خرج مخرج التعليل : أي لأنهنّ في حجوركم ، وهو تعليل بالمظنّة فلا يقتضي اطّراد العلّة في جميع مواقع الحكم .
وقوله : { من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } ذكر قوله : { من نسائكم } ليُبنى عليه { اللاتي دخلتم بهن } وهو قيد في تحريم الربائب بحيث لا تحرم الربيبة إلاّ إذا وقع البناء بأمّها ، ولا يحرّمها مجرّد العقد على أمّها ، وهذا القيد جرى هنا ولم يجر على قوله : { وأمهات نسائكم } بل أطلق الحكم هناك ، فقال الجمهور هناك : أمّهات نسائكم معناه أمّهات أزواجكم ، فأمّ الزوجة تحرم بمجرد عقد الرجل على ابنتها لأنّ العقد يصيرّها امرأته ، ولا يلزم الدخول ولم يحْمِلوا المطلق منه على المقيَّد بعده ، ولا جعلوا الصفة راجعة للمتعاطفات لأنّها جرت على موصوف مُتعيِّنٍ تعلّقه بأحد المتعاطفات ، وهو قوله : { من نسائكم } المتعلق بقوله : وربائبكم ولا يصلح تعلّقه ب { أمّهات نسائكم } .
وقال علي بن أبي طالب ، وزيدُ بن ثابت ، وابنُ عمر ، وعبد الله بن عبّاس ، ومجاهد ، وجابر ، وابن الزبير : لا تحرم أمّ المرأة على زوج ابنتها حتّى يدخل بابنتها حملا للمطلق على المقيّد ، وهو الأصحّ مَحملاً . ولم يستطع الجمهور أن يوجّهوا مذهبهم بعلّة بيّنة ، ولا أن يستظهروا عليه بأثر . وعلّة تحريم المرأة على زوج ابنتها تساوي علّة تحريم ربيبة الرجل عليه ، ويظهر أنّ الله ذكر أمّهات النساء قبل أن يذكر الربائب ، فلو أراد اشتراط الدخول بالأمّهات في تحريمهنّ على أزواج بناتهنّ لذكره في أوّل الكلام قبل أن يذكره مع الربائب .
وهنالك رواية عن زيد بن ثابت أنّه قال : إذا طلّق الأمّ قبل البناء فله التزوّج بابنتها ، وإذا ماتت حَرُمت عليه ابنتُها . وكأنّه نظر إلى أنّ الطلاق عدول عن العقد ، والموت أمر قاهر ، فكأنّه كان ناوياً الدخول بها ، ولا حظّ لهذا القول .
وقوله : { وحلائل أبنائكم } الحلائل جمع الحليلة فعيلة بمعنى فاعلة ، وهي الزوجة ، لأنّها تحِلّ معه ، وقال الزجّاج : هي فعيلة بمعنى مفعولة ، أي محلّلة إذ أباحها أهلها له ، فيكون من مجيء فعيل للمفعول من الرباعي في قولهم حكيم ، والعدول عن أن يقال : ومَا نكح أبناؤكم أو ونساء أبنائكم إلى قوله : { وحلائل أبنائكم } تفنّن لتجنّب تكرير أحد اللفظين السابقين وإلاّ فلا فرق في الإطلاق بين الألفاظ الثلاثة .
وقد سُمي الزوج أيضاً بالحليل وهو يحتمل الوجهين كذلك . وتحريم حليلة الابن واضح العلّة ، كتحريم حليلة الأب .
وقوله : { الذين من أصلابكم } تأكيد لمعنى الأبناء لدفع احتمال المجاز ، إذ كانت العرب تسمّي المتبنَّى ابناً ، وتجعل له ما للابن ، حتّى أبطل الإسلام ذلك وقوله تعالى : { ادعوهم لآبائهم } [ الأحزاب : 5 ] فما دُعي أحد لمتبنّيه بعدُ ، إلاّ المقداد بن الأسود وعُدّت خصوصيّة . وأكّد الله ذلك بالتشريع الفعلي بالإذن لرسوله صلى الله عليه وسلم بتزوّج زينب ابنة جحش ، بعد أن طلّقها زيد بن حارثة الذي كان تبنّاه ، وكان يُدعى زيد بن محمد . وابن الابن وابن البنت ، وإن سفلا ، أبناء من الأصلاب لأنّ للجدّ عليهم ولادة لا محالة .
وقوله : { وأن تجمعوا بين الأختين } هذا تحريم للجمع بين الأختين فحكمته دفع الغيرة عمّن يريد الشرع بقاء تمام المودّة بينهما ، وقد علم أنّ المراد الجمع بينهما فيما فيه غيرة ، وهو النكاح أصالة ، ويلحق به الجمع بينهما في التسرّي بملك اليمين ، إذ العلّة واحدة فقوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم } وقوله :
{ إلا ما ملكت أيمانكم } [ النساء : 24 ] يخصّ بغير المذكورات . وروي عن عثمان بن عفّان : أنّه سئل عن الجمع بين الأختين في التسري فقال : « أحلتهما » آية يعني قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } وحرّمتهما آية يعني هذه الآية ، أي فهو متوقّف . وروي مثله عن علي ، وعن جمع من الصحابة ، أنّ الجمع بينهما في التسرّي حرام ، وهو قول مالك . قال مالك « فإن تسرّى بإحدى الأختين ثمّ أراد التسرّي بالأخرى وقف حتى يحرّم الأولى بما تحرم به من بيع أو كتابة أو عتق ولا يحدّ إذا جمع بينهما » . وقال الظاهرية : يجوز الجمع بين الأختين في التسرّي لأنّ الآية واردة في أحكام النكاح ، أمّا الجمع بين الأختين في مجرَّد الملك فلا حظر فيه .
وقوله : { إلا ما قد سلف } هو كنظيره السابق ، والبيان فيه كالبيان هناك ، بيد أنّ القرطبي قال هنا : ويحتمل معنى زائداً وهو جواز ما سلف وأنّه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحاً وإذا جرى الجمع في الإسلام خيّر بين الأختين من غير إجراء عقود الكفّار على مقتضى الإسلام ، ولم يعزُ القول بذلك لأحد من الفقهاء .
وقوله : { إن الله كان غفوراً رحيماً } يناسب أن يكون معنى { إلا ما قد سلف } تقرير ما عقدوه من ذلك في عهد الجاهلية ، فالمغفرة للتجاوز عن الاستمرار عليه ، والرحمة لبيان سبب ذلك التجاوز .