والتركيز في هذا المقام على خصائصه الروحية . فهي التي تنتكس إلى أسفل سافلين حين ينحرف عن الفطرة ويحيد عن الإيمان المستقيم معها . إذ أنه من الواضح أن خلقته البدنية لا تنتكس إلى أسفل سافلين .
وفي هذه الخصائص الروحية يتجلى تفوق التكوين الإنساني . فهو مهيأ لأن يبلغ من الرفعة مدى يفوق مقام الملائكة المقربين . كما تشهد بذلك قصة المعراج . . حيث وقف جبريل - عليه السلام - عند مقام ، وارتفع محمد بن عبد الله - الإنسان - إلى المقام الأسنى .
بينما هذا الإنسان مهيأ - حين ينتكس - لأن يهوي إلى الدرك الذي لا يبلغ إليه مخلوق قط : ( ثم رددناه أسفل سافلين ) . . حيث تصبح البهائم أرفع منه وأقوم ، لاستقامتها على فطرتها ، وإلهامها تسبيح ربها ، وأداء وظيفتها في الأرض على هدى . بينما هو المخلوق في أحسن تقويم ، يجحد ربه ، ويرتكس مع هواه ، إلى درك لا تملك البهيمة أن ترتكس إليه .
( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) . . فطرة واستعدادا . . ( ثم رددناه أسفل سافلين ) . . حين ينحرف بهذه الفطرة عن الخط الذي هداه الله إليه ، وبينه له ، وتركه ليختار أحد النجدين .
واختلف الناس في معنى قوله تعالى : { ثم رددناه أسفل سافلين } ، فقال عكرمة وقتادة والضحاك والنخعي : معناه بالهرم وذهول العقل وتفلت الفكر حتى يصير لا يعلم شيئاً ، إلا أن المؤمن مرفوع عنه القلم ، والاستثناء على هذا منقطع ، وهذا قول حسن ، وليس المعنى أن كل إنسان يعتريه هذا بل في الجنس من يعتريه ذلك وهذه عبرة منصوبة ، وقرأ ابن مسعود : «السافلين » بالألف واللام .
وجملة : { ثم رددناه أسفل سافلين } معطوفة على جملة : { خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } فهي في حيّز القَسَم .
وضمير الغائب في قوله : { رددناه } عائد إلى الإِنسان فيجري فيه الوجهان المتقدمان من التعريف .
و { ثم } لإفادة التراخي الرُّتْبي كما هو شأنها في عطف الجمل ، لأن الرد أسفل سافلين بعد خلقه محوطاً بأحسن تقويم عجيب لما فيه من انقلاب ما جُبل عليه ، وتغييرُ الحالة الموجودة أعجب من إيجاد حالة لم تكن ، ولأنّ هذه الجملة هي المقصود من الكلام لتحقيق أن الذين حادوا عن الفطرة صاروا أسفل سافلين .
والمعنى : ولقد صيرناه أسفل سافلين ، أو جعلناه في أسفل سافلين .
والرد حقيقته إرجاع ما أخذ من شخص أو نُقل من موضع إلى ما كان عنده ، ويطلق الرد مجازاً على تصيير الشيء بحالة غير الحالة التي كانت له مجازاً مرسلاً بعلاقة الإطلاق عن التقييد كما هنا .
و { أسفل } : اسم تفضيل ، أي أشدَّ سفالة ، وأضيف إلى { سافلين } ، أي الموصوفين بالسفالة .
فالمراد : أسفل سافلين في الاعتقاد بخالقه بقرينة قوله : { إلا الذين آمنوا } [ التين : 6 ] .
وحقيقة السفالة : انخفاض المكان ، وتطلق مجازاً شائعاً على الخسة والحقارة في النفس ، فالأسفل الأشد سفالة من غيره في نوعه .
والسافلون : هم سفلة الاعتقاد ، والإِشراكُ أسفل الاعتقاد فيكون { أسفل سافلين } مفعولاً ثانياً ل { رددناه } لأنه أجري مجرى أخوات صار .
والمعنى : أن الإِنسان أخذ يغير ما فطر عليه من التقويم وهو الإِيمان بإله واحد وما يقتضيه ذلك من تقواه ومراقبته فصار أسفل سافلين ، وهل أسفلُ ممن يعتقد إلهية الحجارة والحيوانِ الأبكم مِن بقر أو تماسيح أو ثعابين أو من شجر السَّمُر ، أو مَن يحسب الزمان إلها ويسميه الدهر ، أو من يجحد وجود الصانع وهو يشاهد مصنوعاته ويحس بوجود نفسه قال تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [ الذاريات : 21 ] .
فإن ملت إلى جانب الأخلاق رأيت الإِنسان يبلغ به انحطاطه إلى حضيض التسفل ، فمِن مَلَق إذا طمِع ، ومن شُحّ إذا شجع ، ومن جزع إذا خاف ، ومن هلع ، فكم من نفوس جُعلت قرابين للآلهة ، ومن أطفال موءودة ، ومن أزواج مقذوفة في النار مع الأموات من أزواجهن ، فهل بعد مثل هذا من تسفل في الأخلاق وأفن الرأي .
وإسناد الرد إلى الله تعالى إسناد مجازي لأنه يكوّن الأسبابَ العالية ونظامَ تفاعلها وتقابلها في الأسباب الفرعية ، حتى تصل إلى الأسباب المباشرة على نحو إسناد مدّ وقبض الظل إليه تعالى في قوله : { ألم تر إلى ربك كيف مد الظل } إلى قوله : { ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً } [ الفرقان : 45 ، 46 ] وعلى نحو الإِسناد في قول الناس : بنَى الأمير مدينةَ كذا .
ويجوز أن يكون { أسفل سافلين } ظرفاً ، أي مكاناً أسفلَ مَا يسكنه السافلون ، فإضافة { أسفل } إلى { سافلين } من إضافة الظرف إلى الحالِّ فيه ، وينتصب { أسفل } ب { رددناه } انتصاب الظرف أو على نزع الخافض ، أي إلى أسفل سافلين ، وذلك هو دار العذاب كقوله : { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } [ النساء : 145 ] فالرد مستعار لمعنى الجعل في مكان يستحقه ، وإسناد الرد إلى الله تعالى على هذا الوجه حقيقي .
وأحسب أن قوله تعالى : { ثم رددناه أسفل سافلين } انتزَع منه مالك رحمه الله ما ذكره عياض في « المدارك » قال : قال ابن أبي أويس : قال مالك : أقبلَ عليَّ يوماً ربيعة فقال لي : مَن السَّفلة يا مالك ؟ قلت : الذي يأكل بدينه ، قال لي : فمن سفلة السفلة ؟ قلت : الذي يأكل غيرُه بدينه . فقال : ( زِهْ ) {[459]} وصدَرني ( أي ضرب على صدرِي يعني استحساناً ) . وأنَّ المشركين كانوا أسفل سافلين لأنهم ضلّلهم كبراؤهم وأيمتهم فسوّلوا لهم عبادة الأصنام لينالوا قيادتهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.