تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ} (103)

{ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } لعظمته ، وجلاله وكماله ، أي : لا تحيط به الأبصار ، وإن كانت تراه ، وتفرح بالنظر إلى وجهه الكريم ، فنفي الإدراك لا ينفي الرؤية ، بل يثبتها بالمفهوم . فإنه إذا نفى الإدراك ، الذي هو أخص أوصاف الرؤية ، دل على أن الرؤية ثابتة .

فإنه لو أراد نفي الرؤية ، لقال " لا تراه الأبصار " ونحو ذلك ، فعلم أنه ليس في الآية حجة لمذهب المعطلة ، الذين ينفون رؤية ربهم في الآخرة ، بل فيها ما يدل على نقيض قولهم .

{ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } أي : هو الذي أحاط علمه ، بالظواهر والبواطن ، وسمعه بجميع الأصوات الظاهرة ، والخفية ، وبصره بجميع المبصرات ، صغارها ، وكبارها ، ولهذا قال : { وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } الذي لطف علمه وخبرته ، ودق حتى أدرك السرائر والخفايا ، والخبايا والبواطن .

ومن لطفه ، أنه يسوق عبده إلى مصالح دينه ، ويوصلها إليه بالطرق التي لا يشعر بها العبد ، ولا يسعى فيها ، ويوصله إلى السعادة الأبدية ، والفلاح السرمدي ، من حيث لا يحتسب ، حتى أنه يقدر عليه الأمور ، التي يكرهها العبد ، ويتألم منها ، ويدعو الله أن يزيلها ، لعلمه أن دينه أصلح ، وأن كماله متوقف عليها ، فسبحان اللطيف لما يشاء ، الرحيم بالمؤمنين .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ} (103)

95

ثم تعبير عن صفة الله سبحانه ، يغشى الجوانح والحنايا بظلال ما أحسب أن لغة البشر تملك لها وصفا ، فلندعها تلقي ظلالها في شفافية ولين ؛ وترسم المشهد الذي يغلف فيه ما يهول ويروع من صفة الله ، بما يطمئن ويروح ، ويشف شفافية النور :

( لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير ) . .

إن الذين كانوا يطلبون في سذاجة أن يروا الله ، كالذين يطلبون في سماجة دليلا ماديا على الله ! هؤلاء وهؤلاء لا يدركون ماذا يقولون !

إن أبصار البشر وحواسهم وإدراكهم الذهني كذلك . . كلها إنما خلقت لهم ليزاولوا بها التعامل مع هذا الكون ، والقيام بالخلافة في الأرض . . وإدراك آثار الوجود الإلهي في صفحات هذا الوجود المخلوق . . فأما ذات الله - سبحانه - فهم لم يوهبوا القدرة على إدراكها . لأنه لا طاقة للحادث الفاني أن يرى الأزلي الأبدي . فضلا على أن هذه الرؤية لا تلزم لهم في خلافة الأرض . وهي الوظيفة التي هم معانون عليها وموهوبون ما يلزم لها . .

وقد يفهم الإنسان سذاجة الأولين . ولكنه لا يملك أن يفهم سماجة الآخرين ! إن هؤلاء يتحدثون عن " الذرة " وعن " الكهرب " وعن " البروتون " وعن " النيوترون " . . وواحد منهم لم ير ذرة ولا كهربا ولا بروتونا ولا نيوترونا في حياته قط . فلم يوجد بعد الجهاز المكبر الذي يضبط هذه الكائنات . . ولكنها مسلمة من هؤلاء كفرض ، ومصداق هذا الفرض أن يقدروا آثارا معينة تقع لوجود هذه الكائنات . فإذا وقعت هذه الآثار [ جزموا ] بوجود الكائنات التي أحدثتها ! بينما قصارى ما تصل إليه هذه التجربة هو " احتمال " وجود هذه الكائنات على الصفة التي افترضوها ! . . ولكنهم حين يقال لهم عن وجود الله - سبحانه - عن طريق آثار هذا الوجود التي تفرض نفسها فرضا على العقول ! يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ، ويطلبون دليلا ماديا تراه الأعين . .

كأن هذا الوجود بجملته ، وكأن هذه الحياة بأعاجيبها لا تكفي لتكون هذا الدليل !

وكذلك يعقب السياق القرآني على ما عرضه من آيات في صفحة الوجود وفي مكنونات النفوس . وعلى تقريره عن ذات الله سبحانه بأنه : ( لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير ) .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ} (103)

{ لا تدركه } أي لا تحيط به . { الأبصار } جمع بصر وهي حاسة النظر وقد يقال للعين من حيث إنها محلها واستدل به المعتزلة على امتناع الرؤية وهو ضعيف ، إذ ليس الإدراك مطلق الرؤية ولا النفي في الآية عاما في الأوقات فلعله مخصوص ببعض الحالات ولا في الأشخاص ، فإنه في قوة قولنا لا كل بصر يدركه مع أن النفي لا يوجب الامتناع . { وهو يدرك الأبصار } يحيط علمه بها . { وهو اللطيف الخبير } فيدرك ما لا تدركه الأبصار كالأبصار ، ويجوز أن يكون من باب اللف أي لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير ، فيكون اللطيف مستعارا من مقابل الكثيف لما لا يدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ} (103)

أجمع أهل السنة على أن الله تعالى يرى يوم القيامة ، يراه المؤمنون وقاله ابن وهب عن مالك بن أنس ، والوجه أن يبين جواز ذلك عقلاً ثم يستند إلى ورود السمع بوقوع ذلك الجائز ، واختصار تبيين ذلك يعتبر بعلمنا بالله عز وجل ، فمن حيث جاز أن نعلمه لا في مكان ولا متحيز ولا مقابل ولم يتعلق علمنا بأكثر من الوجود ، جاز أن نراه غير مقابل ولا محاذى ولا مكيفاً ولا محدوداً ، وكان الإمام أبو عبد الله النحوي يقول : مسألة العلم حلقت لحى المعتزلة ثم ورد الشرع بذلك وهو قوله عز وجل : { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } [ القيامة : 22 ] وتعدية النظر يأتي إنما هو في كلام العرب لمعنى الرؤية لا لمعنى الانتظار على ما ذهبت إليه المعتزلة ، وذكر هذا المذهب لمالك فقال : فأين هم عن قوله تعالى : { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } [ المطفّفين : 15 ] .

قال القاضي أبو محمد : فقال بدليل الخطاب{[5038]} ذكره النقاش ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما صح عنه وتواتر وكثر نقله : إنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر{[5039]} ، ونحوه من الأحاديث على اختلاف ترتيب ألفاظها ، وذهبت المعتزلة إلى المنع من جواز رؤية الله تعالى يوم القيامة واستحالة ذلك بآراء مجردة ، وتمسكوا بقوله تعالى : { لا تدركه الأبصار } وانفصل أهل السنة عن تمسكهم بأن الآية مخصوصة في الدنيا ، ورؤية الآخرة ثابتة بأخبارها ، وانفصال آخر ، وهو أن يفرق بين معنى الإدراك ومعنى الرؤية ، ونقول{[5040]} : إنه عز وجل تراه الأبصار ولا تدركه ، وذلك الإدراك يتضمن الإحاطة بالشيء والوصول إلى أعماقه وحوزه من جميع جهاته ، وذلك كله محال في أوصاف الله عز وجل ، والرؤية لا تفتقر إلى أن يحيط الرائي بالمرئي ويبلغ غايته ، وعلى هذا التأويل يترتب العكس في قوله { وهو يدرك الأبصار } ويحسن معناه ، ونحو هذا روي عن ابن عباس وقتادة وعطية العوفي ، فرقوا بين الرؤية والإدراك ، وأما الطبري رحمه الله ففرق بين الرؤية والإدراك واحتج بقول بني إسرائيل إنَّا لمدركون{[5041]} فقال إنهم رأوهم ولم يدركوهم .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا كله خطأ لأن هذا الإدراك ليس بإدراك البصر بل هو مستعار منه أو بإشتراك ، وقال بعضهم إن المؤمنين يرون الله تعالى بحاسة سادسة تخلق يوم القيامة ، وتبقى هذه الآية في منع الإدراك بالأبصار عامة سليمة ، قال : وقال بعضهم : إن هذه الآية مخصوصة في الكافرين ، أي إنه لا تدركه أبصارهم لأنهم محجوبون عنه .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذه الأقوال كلها ضعيفة ودعاو لا تستند إلى قرآن ولا حديث ، و { اللطيف } المتلطف في خلقه واختراعه وإتقانه ، وبخلقه وعباده و { الخبير } المختبر لباطن أمورهم وظاهرها .


[5038]:- يرى الإمام مالك رضي الله عنه أن المؤمنين يرونه سبحانه وتعالى من جهة دليل الخطاب، قال وإلا فلو حجب الكل لما أغنى هذا التخصيص، وقال الإمام الشافعي: لما حجب سبحانه قوما بالسخط دلّ على أن قوما يرونه بالرضا. (راجع الألوسي). وفي ابن كثير: "وقال تبارك وتعالى عن الكافرين: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون}، قال الإمام الشافعي: فدل هذا على أن المؤمنين لا يحجبون عنه تبارك وتعالى".
[5039]:- قال ابن كثير في تفسيره: "ثبتت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث لا يمكن دفعها ولا منعها لحديث أبي سعيد وأبي هريرة وهما في الصحيحين أن ناسا قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟ قالوا: لا. قال: إنكم ترون ربكم كذلك". وروى البخاري في صحيحه "إنكم سترون ربكم عيانا". وفي الصحيحين عن جرير قال: (نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر. فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها فافعلوا).
[5040]:- تعبير بكلمة (نقول) تدل على أنه من أهل السنة وتدحض دعوى من قال: إنه من المعتزلة أو يميل إلى آرائهم- وقد وضحنا هذه القضية في المقدمة.
[5041]:- من الآية (61) من سورة (الشعراء).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ} (103)

جملة ابتدائيّة لإفادة عظمته تعالى وسعة علمه ، فلعظمته جلّ عن أن يحيط به شيء من أبصار المخلوقين ، وذلك تعريض بانتفاء الإلهيّة عن الأصنام الّتي هي أجسام محدودة محصورة متحيّزة ، فكونُها مدركة بالأبصار من سمات المحدثات لا يليق بالإلهيّة ولو كانت آلهة لكانت محتجبة عن الأبصار ، وكذلك الكواكب الّتي عبدها بعض العرب ، وأمّا الجنّ والملائكة وقد عبدوهما فإنّهما وإن كانا غير مدركين بالأبصار في المتعارف لكلّ النّاس ولا في كلّ الأوقات إلاّ أنّ المشركين يزعمون أنّ الجنّ تَبدو لهم تارات في الفيافي وغيرها . قال شَمِر بن الحارث الضبي :

أتَوْا ناري فقلتُ مَنُونَ أنتُم *** فقالوا الجنّ قلتُ عِمُوا ظَلامَا

ويتوهّمون أنّ الملائكة يظهرون لبعض النّاس ، يتلقّون ذلك عن اليهود .

والإدراك حقيقته الوصول إلى المطلوب . ويطلق مجازاً على شعور الحاسّة بالمحسوس أو العقللِ بالمعقول يقال : أدركَ بصري وأدرك عقْلي تشبيهاً لآلة العلم بشخص أو فرس وصل إلى مطلوبه تشبيهَ المعقول بالمحسوس ، ويقال : أدرك فلان ببصره وأدرك بعقله ، ولا يقال : أدرك فلان بدون تقييد ، واصطلح المتأخّرون من المتكلّمين والحكماء على تسمية الشعور العقلي إدراكاً ، وجعلوا الإدراك جنساً في تعريف التصوّر والتّصديق ، ووصفوا صاحب الفهم المستقيم بالدّراكَة .

وأمّا قوله تعالى : { وهو يدرك الأبصار } فيجوز أن يكون إسنادُ الإدراك إلى اسم الله مشاكلة لما قبله من قوله : { لا تدركه الأبصار } . ويجوز أن يكون الإدراك فيه مستعاراً للتصرّف لأنّ الإدراك معناه النوال .

والأبصار جمع بصر ، وهو اسم للقوّة الّتي بها النّظر المنتشرة في إنسان العين الّذي في وسط الحَدقة وبه إدراك المبصرات . والمعنى : لا تحيط به أبصار المبصرين لأنّ المدرِك في الحقيقة هو المبصِر لا الجارحة ، وإنّما الجارحة وسيلة للإدراك لأنّها توصّل الصّورة إلى الحسّ المشترك في الدّماغ . والمقصود من هذا بيان مخالفة خصوصيّة الإلهِ الحقّ عن خصوصيات آلهتهم في هذا العالم ، فإنّ الله لا يُرى وأصنامهم تُرى ، وتلك الخصوصيّة مناسبة لعظمته تعالى ، فإنّ عدم إحاطة الأبصار بالشّيء يكون من عظمته فلا تطيقه الأبصار ، فعموم النّكرة في سياق النّفي يدلّ على انتفاء أن يُدركه شيء من أبصار المبصِرين في الدّنيا كما هو السّياق .

ولا دلالة في هذه الآية على انتفاء أن يكون الله يُرى في الآخرة ، كما تمسّك به نفاة الرّؤية ، وهم المعتزلة لأنّ للأمور الآخرة أحوالاً لا تجري على متعارفنا ، وأحرى أن لا دلالة فيها على جواز رؤيته تعالى في الآخرة . ومن حاول ذلك فقد تكلّف ما لا يتمّ كما صنع الفخر في « تفسيره » .

والخلاف في رؤية الله في الآخرة شائع بين طوائف المتكلّمين ؛ فأثبته جمهور أهل السنّة لكثرة ظواهر الأدلّة من الكتاب والسنّة مع اتّفاقهم على أنّها رؤية تخالف الرّؤية المتعارفة .

وعن مالك رحمه الله « لو لم يَر المؤمنون ربّهم يوم القيامة لم يُعَيَّر الكفّار بالحجاب في قوله تعالى : { كلاّ إنّهم عن ربّهم يومئذٍ لمحجوبون } [ المطففين : 15 ] . وعنه أيضاً « لم يُر الله في الدّنيا لأنّه باق ولا يرى الباقي بالفاني ، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصاراً باقية رأوا الباقيَ بالباقي » . وأمّا المعتزلة فقد أحالوا رؤية الله في الآخرة لاستلزامها الانحياز في الجهة . وقد اتّفقنا جميعاً على التّنزيه عن المقابلة والجهة ، كما اتّفقنا على جواز الانكشاف العلمي التّامّ للمؤمنين في الآخرة لحقيقة الحقّ تعالى ، وعلى امتناع ارتسام صورة المرْئي في العين أو اتّصال الشّعاع الخارج من العين بالمرئي تعالى لأنّ أحوال الأبصار في الآخرة غير الأحوال المتعارفة في الدّنيا . وقد تكلّم أصحابنا بأدلّة الجواز وبأدلّة الوقوع ، وهذا ممّا يجب الإيمان به مجملاً على التّحقيق . وأدلّة المعتزلة وأجوبتنا عليها مذكورة في كتب الكلام وليست من غرض التّفسير ومرجعها جميعاً إلى إعمال الظاهر أو تأويله .

ثمّ اختلف أيمّتنا هل حصلت رؤية الله تعالى للنّبيء صلى الله عليه وسلم فنفى ذلك جمع من الصّحابة منهم عائشة وابن مسعود وأبو هريرة رضي الله عنهم وتمسّكوا بعموم هذه الآية كما ورد في حديث البخاري عن عكرمة عن عائشة . وأثبتها الجمهور ، ونقل عن أبَيّ بن كعب وابن عبّاس رضي الله عنهما ، وعليه يكون العموم مخصوصاً . وقد تعرّض لها عياض في « الشّفاء » . وقد سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاب بجواب اختلف الرّواةُ في لفظه ، فحجب الله بذلك الاختلاف حقيقةَ الأمر إتماماً لمراده ولطفاً بعباده .

وقوله : { وهو يدرك الأبصار } معطوف على جملة : { لا تدركه الأبصار } فإسناد الإدراك إلى ضمير اسمه تعالى إمّا لأنّ فعل { يُدرك } استعير لمعنى يَنال ، أي لا تخرج عن تصرّفه كما يقال : لَحِقَه فأدركه ، فالمعنى يَقدر على الأبصار ، أي على المبصِرين ، وإمّا لاستعارة فعل { يدرك } لمعنى يعلم لمشاكلة قوله : { لا تدركه الأبصار } أي لا تعلمه الأبصار . وذلك كناية عن العلم بالخفيّات لأنّ الأبصار هي العَدَسات الدّقيقة الّتي هي واسطة إحساس الرّؤية أو هي نفس الإحساس وهو أخفى . وجَمعهُ باعتبار المدرِكين .

وفي قوله : { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } محسِّن الطِّباق .

وجملة : { وهو اللّطيف الخبير } معطوفة على جملة : { لا تدركه الأبصار } فهي صفة أخرى . أو هي تذييل للاحتراس دفعا لتوهّم أنّ من لا تدْركه الأبصار لا يعلم أحوال من لا يدركونه .

واللّطيف : وصف مشتقّ من اللّطف أو من اللّطافة . يقال : لطف بفتح الطّاء بمعنى رَفق ، وأكرَم ، واحتفَى . ويتعدّى بالباء وباللاّم باعتبار ملاحظة معنى رَفق أو معنى أحْسن . ولذلك سمّيت الطُّرفة والتُّحفَة الّتي يكرَم بها المرء لَطفَا ( بِالتّحريكِ ) ، وجمعها ألطاف . فالوصف من هذا لاَطِف ولَطِيف ؛ فيكون اللّطيف اسمَ فاعل بمعنى المبالغة يدلّ على حذف فعل من فاعله ، ومنه قوله تعالى عن يوسف { إنّ ربّي لطيف لما يشاء } [ يوسف : 100 ] . ويقال لَطُفَ بضمّ الطّاء أي دَقّ وخَفّ ضدّ ثَقُل وكَثُف .

واللّطيف : صفة مشبّهة أو اسم فاعل . فإن اعتبرت وصفاً جارياً على لطُف بضمّ الطّاء فهي صفة مشبّهة تدلّ على صفة من صفات ذات الله تعالى ، وهي صفة تنزيهه تعالى عن إحاطة العقول بماهيته أو إحاطة الحواس بذاته وصفاته ، فيكون اختيارها للتّعبير عن هذا الوصف في جانب الله تعالى هو منتهى الصّراحة والرّشاقة في الكلمة لأنّها أقرب مادّة في اللّغة العربيّة تقرّب معنى وصفه تعالى بحسب ما وُضعت له اللّغة من متعارف النّاس ، فيَقْرب أن تكون من المتشابه ، وعليه فتكون أعمّ من مدلول جملة { لا تدركه الأبصار } ، فتتنزّل من الجملة الّتي قبلها منزلة التّذييل أو منزلة الاستدلال على الجزئيّة بالكلّية فيزيد الوصفَ قبله تمكّناً . وعلى هذا المعنى حملها الزمخشري في « الكشاف » لأنّه أنسب بهذا المقام وهو من معاني الكلمة المشهورة في كلام العرب ، واستحسنه الفخر وجوّزه الرّاغب والبيضاوي ، وهو الّذي ينبغي التّفسير به في كلّ موضع اقترن فيه وصف اللّطيف بوصف الخبير كالّذي هنا والّذي في سورة المُلك .

وإن اعتبر اللّطيف اسم فاعل من لطَف بفتح الطّاء فهو من أمثلة المبالغة يدلّ على وصفه تعالى بالرّفق والإحسان إلى مخلوقاته وإتقان صنعه في ذلك وكثرة فعله ذلك ، فيدلّ على صفة من صفات الأفعال . وعلى هذا المعنى حمله سائر المفسّرين والمبيّنين لمعنى اسمه اللّطيف في عداد الأسماء الحسنى . وهذا المعنى هو المناسب في كلّ موضع جاء فيه وصفه تعالى به مفرداً معدّى باللاّم أو بالباء نحو { إنّ ربّي لطيف لما يشاء } [ يوسف : 100 ] ، وقوله : { الله لطيف بعباده } [ الشوى : 19 ] . وبه فسّر الزمخشري قوله تعالى : { الله لطيف بعباده } فللّه درّه ، فإذا حمل على هذا المحمل هنا كان وصفاً مستقلاً عمّا قبله لزيادة تقرير استحقاقه تعالى للإفراد بالعبادة دون غيره .

و« خَبير » صفة مشبّهة من خبُر بضمّ الباء في الماضي ، خُبراً بضمّ الخاء وسكون الباء بمعنى عَلِم وعرَف ، فالخبير الموصوف بالعلم بالأمور الّتي شأنها أن يُخبر عنها عِلماً موافقاً للواقع .

ووقوع الخبير بعد اللّطيف على المحمل الأوّل وقوعُ صفة أخرى هي أعمّ من مضموننِ { وهو يدرك الأبصار } ، فيكمل التّذييل بذلك ويكون التّذييل مشتملاً على محسِّن النشر بعد اللّف ؛ وعلى المحمل الثّاني موقعه موقع الاحتراس لمعنى اللّطيف ، أي هو الرّفيق المحسن الخبير بمواقع الرّفق والإحسان وبمستحقّيه .