{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } : يذكر تعالى أولي الألباب ، ما أنزله من السماء من الماء ، وأنه سلكه ينابيع في الأرض ، أي : أودعه فيها ينبوعا ، يستخرج بسهولة ويسر ، { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ } من بر وذرة ، وشعير وأرز ، وغير ذلك . { ثُمَّ يَهِيجُ } عند استكماله ، أو عند حدوث آفة فيه { فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا } متكسرا { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } يذكرون بها عناية ربهم ورحمته بعباده ، حيث يسر لهم هذا الماء ، وخزنه بخزائن الأرض تبعا لمصالحهم .
ويذكرون به كمال قدرته ، وأنه يحيي الموتى ، كما أحيا الأرض بعد موتها ، ويذكرون به أن الفاعل لذلك هو المستحق للعبادة .
اللّهم اجعلنا من أولي الألباب ، الذين نوهت بذكرهم ، وهديتهم بما أعطيتهم من العقول ، وأريتهم من أسرار كتابك وبديع آياتك ما لم يصل إليه غيرهم ، إنك أنت الوهاب .
( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء ، فسلكه ينابيع في الأرض ، ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه ، ثم يهيج فتراه مصفراً ، ثم يجعله حطاماً ? إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ) .
إن هذه الظاهرة التي يوجه القرآن إليها الأنظار للتأمل والتدبر ، ظاهرة تتكرر في أنحاء الأرض ، حتى لتذهب الألفة بجدتها وما فيها من عجائب في كل خطوة من خطواتها . والقرآن يوجه النظر إلى رؤية يد الله وتتبع آثارها في كل خطوة من خطوات الحياة .
فهذا الماء النازل من السماء . . ما هو وكيف نزل ? إننا نمر بهذه الخارقة سراعاً لطول الألفة وطول التكرار . إن خلق الماء في ذاته خارقة . ومهما عرفنا أنه ينشأ من اتحاد ذرتي أيدروجين بذرة أكسوجين تحت ظروف معينة ، فإن هذه المعرفة خليقة بأن توقظ قلوبنا إلى رؤية يد الله التي صاغت هذا الكون بحيث يوجد الأيدروجين ويوجد الأكسوجين وتوجد الظروف التي تسمح باتحادهما ، وبوجود الماء من هذا الاتحاد . ومن ثم وجود الحياة في هذه الأرض . ولولا الماء ما وجدت حياة . إنها سلسلة من التدبير حتى نصل إلى وجود الماء ووجود الحياة . والله من وراء هذا التدبير ، وكله مما صنعت يداه . . ثم نزول هذا الماء بعد وجوده وهو الآخر خارقة جديدة ، ناشئة من قيام الأرض والكون على هذا النظام الذي يسمح بتكون الماء ونزوله وفق تدبير الله .
ثم تجيء الخطوة التالية لإنزال الماء :
سواء في ذلك الأنهار الجارية على سطح الأرض ؛ أو الأنهار الجارية تحت طباقها مما يتسرب من المياه السطحية ، ثم يتفجر بعد ذلك ينابيع وعيوناً ، أو يتكشف آباراً . ويد الله تمسكه فلا يذهب في الأغوار البعيدة التي لا يظهر منها أبداً !
( ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه ) . .
والحياة النباتية التي تعقب نزول الماء وتنشأ عنه ؛ خارقة يقف أمامها جهد الإنسان حسيراً . ورؤية النبتة الصغيرة وهي تشق حجاب الأرض عنها ؛ وتزيح أثقال الركام من فوقها ؛ وتتطلع إلى الفضاء والنور والحرية ؛ وهي تصعد إلى الفضاء رويداً رويداً . . هذه الرؤية كفيلة بأن تملأ القلب المفتوح ذكرى ؛ وأن تثير فيه الإحساس بالله الخالق المبدع الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . والزرع المختلف الألوان في البقعة الواحدة . بل في النبتة الواحدة . بل في الزهرة الواحدة إن هو إلا معرض لإبداع القدرة ؛ يُشعر الإنسان بالعجز المطلق عن الإتيان بشيء منه أصلاً !
هذا الزرع النامي اللدن الرخص الطري بالحياة ، يبلغ تمامه ، ويستوفي أيامه :
وقد بلغ غايته المقدرة له في ناموس الوجود ، وفي نظام الكون ، وفي مراحل الحياة ، فينضج للحصاد :
وقد استوفى أجله ، وأدى دوره ، وأنهى دورته كما قدر له واهب الحياة . .
( إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ) . .
الذين يتدبرون فيذكرون ، وينتفعون بما وهبهم الله من عقل وإدراك .
{ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء } هو المطر . { فسلكه } فأدخله . { ينابيع في الأرض } هي عيون ومجاري كائنة فيها ، أو مياه نابعات فيها إذ الينبوع جاء للمنبع وللنابع فنصبها على الظرف أو الحال . { ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه } أصنافه من بر وشعير وغيرهما ، أو كيفياته من خضرة وحمرة وغيرهما . { ثم يهيج } يتم جفافه لأنه إذا تم جفافه حان له أن يثور عن منبته . { فتراه مصفرا } من يبسه . { ثم يجعله حطاما } فتاتا . { إن في ذلك لذكرى } لتذكيرا بأنه لا بد من صانع حكيم دبره وسواه ، أو بأنه مثل الحياة الدنيا فلا تغتر بها . { لأولى الألباب } إذ لا يتذكر به غيرهم .
ثم وقف نبيه صلى الله عليه وسلم على معتبر من مخلوقاته ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وكل بشر داخل معه في معناه . وقال الطبري وغيره : أشار إلى ماء المطر ، وقالوا : العيون منه ، ودليل ذلك أنها تنماع عن وجوده وتيبس عند فقده . وقال الحسن بن مسلم بن يناق ، والإشارة إلى العيون وليست العيون من المطر ، ولكن ماؤها نازل من السماء . قال الشعبي : وكل ماء عذب في الأرض فمن السماء نزل .
قال القاضي أبو محمد : والقولان متقاربان : و : { سلكه } معناه : أجراه وأدخله ، ومنه قول الشاعر [ البسيط ]
حتى سلكن الشوى منهن في مسك*** من نسل جوابه الآفاق مهداج
ومنه قول امرىء القيس : [ السريع ]
نطعنهم سلكى ومخلوجة *** كرّك لأمين على نابل
وواحد الينابيع وهو العين بني لها بناء مبالغة من النبع . والزرع هنا واقع على كل ما يزرع . وقالت فرقة : { ألوانه } أعراضه من الحمرة والصفرة وغير ذلك . وقالت فرقة : { ألوانه } أنواعه من القمح والأرز . والذرة وغير ذلك . و : { يهيج } ييبس ، هاج النبات والزرع إذا يبس ، ومنه قول علي رضي الله عنه في الحديث الذي في غريب ابن قتيبة : ذمتي رهينة وأنا به زعيم . أي لا يهيج عن التقوى زرع قوم ، ولا ييبس على التقوى سنخ أصل والحديث " . والحطام : اليابس المتفتت . ومعنى قوله : { لذكرى } أي للبعث من القبور وإحياء الموتى على ما يوجبه هذا المثال المذكور .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.