{ 89 } { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ }{[277]}
أي : في أيمانكم التي صدرت على وجه اللغو ، وهي الأيمان التي حلف بها المقسم من غير نية ولا قصد ، أو عقدها يظن صدق نفسه ، فبان بخلاف ذلك . { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ } أي : بما عزمتم عليه ، وعقدت عليه قلوبكم . كما قال في الآية الأخرى : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } { فَكَفَّارَتُهُ } أي : كفارة اليمين الذي عقدتموها بقصدكم { إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ }
وذلك الإطعام { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ } أي : كسوة عشرة مساكين ، والكسوة هي التي تجزئ في الصلاة . { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أي : عتق رقبة مؤمنة كما قيدت في غير هذا الموضع ، فمتى فعل واحدا من هذه الثلاثة فقد انحلت يمينه .
{ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } واحدا من هذه الثلاثة { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ } المذكور { كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } تكفرها وتمحوها وتمنع من الإثم .
{ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } عن الحلف بالله كاذبا ، وعن كثرة الأيمان ، واحفظوها إذا حلفتم عن الحنث فيها ، إلا إذا كان الحنث خيرا ، فتمام الحفظ : أن يفعل الخير ، ولا يكون يمينه عرضة لذلك الخير .
{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ } المبينة للحلال من الحرام ، الموضحة للأحكام . { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } اللهَ حيث علمكم ما لم تكونوا تعلمون . فعلى العباد شكر الله تعالى على ما منَّ به عليهم ، من معرفة الأحكام الشرعية وتبيينها .
فأما الآية الخاصة بالحلف والأيمان والتي جاءت تالية في السياق :
( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام . ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم . واحفظوا أيمانكم . كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ) . .
فالظاهر أنها نزلت لمواجهة هذه الحالة - وأمثالها - من الحلف على الامتناع عن المباح الذي آلى أولئك النفر على أنفسهم أن يمتنعوا عنه ، فردهم رسول الله [ ص ] عن الامتناع عنه ، وردهم القرآن الكريم عن مزاولة التحريم والتحليل بأنفسهم ، فهذا ليس لهم إنما هو لله الذي آمنوا به . كما أنها تواجه كل حلف على الامتناع عن خير أو الإقدام على شر . فكل يمين يرى صاحبها أن هناك ما هو أبر ، فعليه أن يفعل ما هو أبر ، ويكفر عن يمينه بالكفارات المحددة في هذه الآية .
قال ابن عباس : سبب نزولها : القوم الذين حرموا طيبات المطاعم والملابس والمناكح على أنفسهم . حلفوا على ذلك . فلما نزلت ( لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) قالوا : كيف نصنع بأيماننا ( فنزلت هذه الآية ) .
وقد تضمن الحكم أن الله - سبحانه - لا يؤاخذ المسلمين بأيمان اللغو ، التي ينطق بها اللسان دون أن يعقد لها القلب بالنية والقصد مع الحض على عدم ابتذال الأيمان بالإكثار من اللغو بها إذ أنه ينبغي أن تكون لليمين بالله حرمتها ووقارها ، فلا تنطق هكذا لغوا . .
فأما اليمين المعقودة ، التي وراءها قصد ونية ، فإن الحنث بها يقتضي كفارة تبينها هذه الآية :
( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام . ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ) .
وطعام المساكين العشرة من( أوسط )الطعام الذي يقوم به الحالف لأهله . . و( أوسط )تحتمل أن تكون من " أحسن " أو من " متوسط " فكلاهما من معاني اللفظ . وإن كان الجمع بينهما لا يخرج عن القصد لأن " المتوسط " هو " الأحسن " فالوسط هو الأحسن في ميزان الإسلام . . أو( كسوتهم )الأقرب أن تكون كذلك من ( أوسط ) الكسوة . . أو ( تحرير رقبة ) لا ينص هنا على أنها مؤمنة . . ومن ثم يرد بشأنها خلاف فقهي ليس هذا مكانه . . ( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ) . . وهي الكفارة التي يعاد إليها في اليمين المعقودة عند عدم استطاعة الكفارات الأخرى . . وكون هذه الأيام الثلاثة متتابعة أو غير متتابعة فيه كذلك خلاف فقهي بسبب عدم النص هنا على تتابعها . والخلافات الفقهية في هذه الفرعيات ليست من منهجنا في هذه الظلال . فمن أرادها فليطلبها في مواضعها في كتب الفقه . إذ أنها كلها تتفق على الأصل الذي يعنينا وهو أن الكفارة رد لاعتبار العقد المنقوض ، وحفظ للإيمان من الإستهانة بها ؛ وهي " عقود " وقد أمر الله - سبحانه - بالوفاء بالعقود . فإذا عقد الإنسان يمينه وكان هناك ما هو أبر فعل الأبر وكفر عن اليمين . وإذا عقدها على غير ما هومن حقه كالتحريم والتحليل ، نقضها وعليه التكفير .
ونعود بعد ذلك إلى الموضوع الأصيل الذي نزلت الآيات بسببه . . فأما من ناحية " خصوص السبب " فإن الله يبين أن ما أحله الله فهو الطيب ، وما حرمه فهو الخبيث . وأن ليس للإنسان أن يختار لنفسه غير ما اختاره الله له . من وجهين : الوجه الأول أن التحريم والتحليل من خصائص الله الرازق بما يجري فيه التحليل والتحريم من الرزق ، وإلا فهو الاعتداء الذي لا يحبه الله ، ولايستقيم معه إيمان . . والوجه الثاني أن الله يحل الطيبات ، فلا يحرم أحد على نفسه تلك الطيبات ، التي بها صلاحه وصلاح الحياة ؛ فإن بصره بنفسه وبالحياة لن يبلغ بصر الحكيم الخبير الذي أحل هذه الطيبات . ولو كان الله يعلم فيها شرا أو أذى لوقاه عباده . ولو كان يعلم في الحرمان منها خيرا ما جعلها حلالا . . ولقد جاء هذا الدين ليحقق الخير والصلاح ، والتوازن المطلق ، والتناسق الكامل ، بين طاقات الحياة البشرية جميعا ، فهو لا يغفل حاجة من حاجات الفطرة البشرية ؛ ولا يكبت كذلك طاقة بناءة من طاقات الإنسان ، تعمل عملا سويا ، ولا تخرج عن الجادة . ومن ثم حارب الرهبانية ، لأنها كبت للفطرة ، وتعطيل للطاقة وتعويق عن إنماء الحياة التي أراد الله لها النماء ، كما نهى عن تحريم الطيبات كلها لأنها من عوامل بناء الحياة ونموها وتجددها . . لقد خلق الله هذه الحياة لتنمو وتتجدد ، وترتقي عن طريق النمو والتجدد المحكومين بمنهج الله . والرهبانية وتحريم الطيبات الأخرى تصطدم مع منهج الله للحياة . لأنها تقف بها عند نقطة معينة بحجة التسامي والارتفاع . والتسامي والارتفاع داخلان في منهج الله للحياة ، وفق المنهج الميسر المطابق للفطرة كما يعلمها الله .
وخصوص السبب - بعد هذا - لا يقيد عموم النص . وهذا العموم يتعلق بقضية الألوهية والتشريع - كما أسلفنا - وهي قضية لا تقتصر على الحلال والحرام في المآكل والمشارب والمناكح . إنما هو أمر حق التشريع لأي شأن من شئون الحياة . .
ونحن نكرر هذا المعنى ونؤكده ؛ لأن طول عزلة الإسلام عن أن يحكم الحياة - كما هو شأنه وحقيقته - قد جعل معاني العبارة تتقلص ظلالها عن مدى الحقيقة التي تعنيها في القرآن الكريم وفي هذا الدين . ولقد جعلت كلمة " الحلال " وكلمة " الحرام " يتقلص ظلهما في حس الناس ، حتى عاد لا يتجاوز ذبيحة تذبح ، أو طعاما يؤكل ، أو شرابا يشرب ، أو لباسا يلبس ، أو نكاحا يعقد . . فهذه هي الشئون التي عاد الناس يستفتون فيها الإسلام ليروا : حلال هي أم حرام ! فأما الأمور العامة والشئون الكبيرة فهم يستفتون في شأنها النظريات
والدساتير والقوانين التي استبدلت بشريعة الله ! فالنظام الاجتماعي بجملته ، والنظام السياسي بجملته ، والنظام الدولي بجملته ؛ وكافة اختصاصات الله في الأرض وفي حياة الناس ، لم تعد مما يستفتى فيه الإسلام !
والإسلام منهج للحياة كلها . من اتبعه كله فهو مؤمن وفي دين الله . ومن اتبع غيره ولو في حكم واحد فقد رفض الإيمان واعتدى على ألوهية الله ، وخرج من دين الله . مهما أعلن أنه يحترم العقيدة وأنه مسلم . فاتباعه شريعة غير شريعة الله ، يكذب زعمه ويدمغه بالخروج من دين الله .
وهذه هي القضية الكلية التي تعنيها هذه النصوص القرآنية ، وتجعلها قضية الإيمان بالله ، أو الاعتداء على الله . . وهذا هو مدى النصوص القرآنية . وهو المدى اللائق بجدية هذا الدين وجدية هذا القرآن ، وجدية معنى الألوهية ومعنى الإيمان
{ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } هو ما يبدو من المرء بلا قصد كقول الرجل : لا والله وبلى والله ، وإليه ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه ، وقيل الحلف على ما يظن أنه كذلك ولم يكن ، وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى وفي أيمانكم صلة يؤاخذكم أو اللغو لأنه مصدر أو حال منه . { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } بما وثقتم الأيمان عليه بالقصد والنية ، والمعنى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم أو بنكث ما عقدتم فحذف للعلم به وقرأ حمزة والكسائي وابن عياش عن عاصم { عقدتم } بالتخفيف ، وابن عامر برواية ابن ذكوان " عاقدتم " وهو من فاعل بمعنى فعل . { فكفارته } فكفارة نكثه أي الفعلة التي تذهب اثمه وتستره ، واستدل بظاهره على جواز التكفير بالمال قبل الحنث وهو عندنا خلافا للحنفية لقوله عليه الصلاة والسلام " من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير " . { إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم } من أقصده في النوع أو القدر ، وهو مد لكل مسكين عندنا ونصف صاع عند الحنفية ، وما محله النصب لأنه صفة مفعول محذوف تقديره : أن تطعموا عشرة مساكين طعاما من أوسط ما تطعمون ، أو الرفع على البدل من إطعام ، وأهلون كأرضون . وقرئ " أهاليكم " بسكون الياء على لغة من يسكنها في الأحوال الثلاث كالألف ، وهو جمع أهل كالليالي في جمع ليل والأراضي في جمع أرض . وقيل هو جمع اهلاة . { أو كسوتهم } عطف على إطعام أو من أوسط إن جعل بدلا وهو ثوب يغطي العورة . وقيل ثوب جامع قميص أو رداء أو إزار . وقرئ بضم الكاف وهو لغة كقدوة في قدوة وكأسوتهم بمعنى أو كمثل ما تطعمون أهليكم إسرافا كان أو تقتيرا تواسون بينهم وبينهم إن لم تطعموهم الأوسط ، والكاف في محل الرفع وتقديره : أو إطعامهم كأسوتهم . { أو تحرير رقبة } أو إعتاق إنسان ، وشرط الشافعي رضي الله تعالى عنه في الأيمان قياسا على كفارة القتل ، ومعنى أو إيجاب إحدى الخصال الثلاث مطلقا وتخيير المكفر في التعيين { فمن لم يجد } أي واحدا منها . { فصيام ثلاثة أيام } فكفارته صيام ثلاثة أيام ، وشرط فيه أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه التتابع لأنه قرئ " ثلاثة أيام متتابعات " ، والشواذ ليست بحجة عندنا إذا لم تثبت كتابا ولم ترو سنة . { ذلك } أي المذكور . { كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وحنثتم . { واحفظوا أيمانكم } بأن تضنوا بها ولا تبذلوها لكل أمر ، أو بأن تبروا فيها ما استطعتم ولم يفت بها خير ، أو بأن تكفروها إذا حنثتم . { كذلك } أي مثل ذلك البيان . { يبين الله لكم آياته } أعلام شرائعه . { لعلكم تشكرون } نعمة التعليم أو نعمة الواجب شكرها فإن مثل هذا التبيين يسهل لكم المخرج منه .
وقد تقدم القول في سورة البقرة في نظير قوله تعالى { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } وقوله تعالى : { بما عقدتم } معناه شددتم ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «عقّدتم » مشددة القاف ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي «عقَدتم » خفيفة القاف ، وقرأ ابن عامر «عاقدتم » بألف على وزن فاعلتم ، قال أبو علي من شدد القاف احتمل أمرين أحدهما أن يكون لتكثير الفعل لأنه خاطب جماعة والآخر يكون عقد مثل ضعف لا يراد به التكثير كما أن ضاعف لا يراد به فعل من اثنين . ومن قرأ «عقَدتم » فخفف القاف جاز أن يراد به الكثير من الفعل والقليل ، وعقد اليمين كعقد الحبل والعهد ، وقال الحطيئة :
قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم شدوا العناج وشدوا فوقه الَكَربا{[4674]}
ومن قرأ «عاقدتم » فيحتمل ضربين : أحدهما أن يكون كطارقت النعل وعاقبت اللص ، والآخر أن يراد به فاعلت الذي يقتضي فاعلين كأن المعنى يؤاخذكم بما عاقدتم عليه الإيمان ، ويعدى ( عاقد ) ب «على » لما هو في معنى عاهد ، قال الله تعالى : { ومن أوفى بما عاهد عليه الله }{[4675]} وهذا كما عديت { ناديتم إلى الصلاة }{[4676]} ب «إلى » وبابها أن تقول ناديت زيداً و { ناديناه من جانب الطور الأيمن }{[4677]} لكن لما كانت بمعنى دعوت إلى كذا كقوله تعالى { ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله }{[4678]} عديت نادى ب «إلى » ، ثم يتسع في قوله تعالى «عاقدتم » عليه الإيمان فيحذف الجار ، ويصل الفعل إلى المفعول ، ثم يحذف من الصلة الضمير الذي يعود على الموصول ، وتقديره يؤاخذكم بما عقدتموه الأيمان . كما حذف من قوله تعالى { فاصدع بما تؤمر }{[4679]} .
و{ الأيمان } جمع يمين وهي الَأِلَّية{[4680]} ، سميت يميناً لما كان عرفهم أن يصفقوا بأيمان بعضهم على بعض عند الألية . وقوله تعالى : { فكفارته } معناه فالشيء الساتر على إثم الحنث في اليمين إطعام ، والضمير على الصناعة النحوية عائد على [ ما ]{[4681]} ، ويحتمل { ما } في هذا الموضع أن تكون بمعنى الذي ، وتحتمل أن تكون مصدرية وهو عائد مع المعنى الذي ذكرناه على إثم الحنث ، ولم يجر له ذكر صحيح لكن المعنى يقتضيه و { إطعام عشرة مساكين } معناه إشباعهم مرة ، قال الحسن بن أبي الحسن إن جمعهم أشبعهم إشباعة واحدة ، وإن أعطاهم أعطاهم مكوكاً مكوكاً{[4682]} ، وحكم هؤلاء أن لا يتكرر واحد منهم في كفارة يمين واحدة ، وسواء أطعموا أفراداً أو جماعة في حين واحد ، ولا يجزىء في شيء من ذلك ذمي وإن أطعم صبي فيعطى حظ كبير ، ولا يجوز أن يطعم عبد ولا ذو رحم تلزم نفقته ، فإن كان ممن لا تلزم المكفر نفقته فقد قال مالك : لا يعجبني أن يطعمه ، ولكن إن فعل وكان فقيراً اجزأه ، ولا يجوز أن يطعم منها غني ، وإن أطعم جهلاً بغناه ففي المدونة وغير كتاب أنه لا يجزىء وفي الأسدية أنه يجزىء واختلف الناس في معنى قوله { من أوسط } فرأى مالك رحمه الله وجماعة معه هذا التوسط في القدر ، ورأى ذلك جماعة في الصنف ، والوجه أن يعم بلفظ الوسط القدر والصنف . فرأى مالك أن يطعم المسكين بالمدينة مداً بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك رطل وثلث من دقيق ، وهذا لضيق المعيشة بالمدينة ، ورأى في غيرها أن يتوسع ولذلك استحسن الغداء والعشاء ، وأفتى ابن وهب{[4683]} بمصر بمد ونصف وأشهب بمد وثلث ، قال ابن المواز : ومد وثلث وسط من عيش أهل الأمصار في الغداء والعشاء ، قال ابن حبيب{[4684]} : ولا يجزىء الخبز َقفاراً{[4685]} ولكن بِإدام{[4686]} زيت أو لبن أو لحم أو نحوه ، وفي شرح ابن مزين أن الخبز القفار يجزىء ، ورأى من يقول إن التوسط إنما هو في الصنف أن يكون الرجل المكفر يتجنب أدنى ما يأكل الناس في البلد وينحط عن الأعلى ويكفر بالوسط من ذلك ، ومذهب المدونة أن يراعي المكِّفر عيَش البلد ، وفي كتاب ابن المواز أن المراعى عيشه في أهله الخاص به{[4687]} .
وكأن الآية على التأويل الأول معناها من أوسط ما تطعمون أيها الناس أهليكم في الجملة من مدينة أو صقع ، وعلى التأويل الثاني معناها من أوسط ما يطعم شخص أهله . وقرأ الجمهور «أهليكم » وهو جمع أهل على السلامة وقرأ جعفر بن محمد «من أوسط ما تطعمون أهاليكم » ، وهذا جمع مكسر قال أبو الفتح «أهال » بمنزلة ليال ، كأن واحدها أهلاة وليلاة ، والعرب تقول أهل وأهلة ومنه قول الشاعر :
وأهلة ود قد تبريت ودهم *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[4688]}
ويقال ليلة وليلاة وأنشد ابن الأعرابي :
في كل ما يوم وكل ليلاه *** حتى يقول من رآه إذ رآه
يا ويحه من َجَمل ما أشقاه{[4689]}
وقرأ الجمهور «أو كِسوتهم » بكسر الكاف يراد به كسوة الثياب وقرأ سعيد بن المسيب وأبو عبد الرحمن وإبراهيم النخعي «أو كُسوتهم » بضم الكاف ، وقرأ سعيد بن جبير ومحمد بن السميفع اليماني «أو كأسوتهم » من الأسوة قال أبو الفتح كأنه قال أو بما يكفي مثلهم فهو على حذف المضاف بتقدير أو ككفاية أسوتهم ، قال وإن شئت جعلت الأسوة هي الكفاية فلم تحتج إلى حذف مضاف .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، والقراءة مخالفة لخط المصحف ، ومعناها على خلاف ما تأول أهل العلم من أن الحانث في اليمين بالله مخير في الإطعام أو الكسوة أو العتق ، والعلماء على أن العتق أفضل ذلك ثم الكسوة الإطعام ، وبدأ الله تعالى عباده بالأيسر فالأيسر ، ورب ُمَّدة ومسغبة يكون فيها الإطعام أفضل من العتق ، لكن ذلك شاذ وغير معهود والحكم للأغلب ، واختلف العلماء في حد الكسوة فراعى على قوم نفس اللفظ ، فإذا كان الحانث المكفر كاسياً والمسكين مكسواً حصل الإجزاء ، وهذه رتبة تنحصل بثوب واحد أي ثوب كان بعد إجماع الناس أن القلنسوة بانفرادها لا تجزىء في كفارة اليمين ، قال مجاهد : يجزىء في كفارة اليمين ثوب واحد فما زاد ، وقال الحسن : الكسوة ثوب لكل مسكين وقاله طاوس ، وقال منصور : الكسوة ثوب قميص أو رداء أو إزار قاله أبو جعفر وعطاء وابن عباس ، وقال قد تجزىء العباءة في الكفارة وكذلك الشملة ، وقال الحسن بن أبي الحسن : تجزىء العمامة في كفارة اليمين ، وقال مجاهد : يجزىء كل شيء إلا التبان ، وروي عن سلمان رضي الله عنه أنه قال : نعم الثوب التبان{[4690]} ، أسنده الطبري وقال الحكم بن عتبة : تجزىء عمامة يلف بها رأسه ، وراعى قوم معهود الزي والكسوة المتعارفة ، فقال بعضهم لا يجزىء الثوب الواحد إلا إذا كان جامعاً مما قد يتزيى به كالكساء والملحفة ، قال إبراهيم النخعي : يجزىء الثوب الجامع وليس القميص والدرع والخمار ثوباً جامعاً .
قال القاضي أبو محمد : قد يكون القميص الكامل جامعاً وزياً ، وقال بعضهم : الكسوة في الكفارة إزار وقميص ورداء قاله ابن عمر رضي الله عنه ، وروي عن الحسن وابن سيرين وأبي موسى الأشعري أن الكسوة في الكفارة ثوبان لكل مسكين ، وعلق مالك رحمه الله الحكم بما يجزىء في الصلاة ، وهذا أحسن نظر ، فقال : يجزىء في الرجل ثوب واحد ، وقال ابن حبيب يكسى قميصاً أو إزاراً يبلغ أن يلتف به مشتملاً ، وكلام ابن حبيب تفسير ، قال مالك : تكسى المراة درعاً وخماراً ، وقال ابن القاسم في العتبية : وإن كسا صغير الإناث فدرع وخمار كالكبيرة ، والكفارة واحدة لا ينقص منها لصغير ، قال عنه ابن المواز ولا تعجبني كسوة المراضع بحال ، فأما من أمر بالصلاة فيكسوه قيمصاً ويجزئه ، قال ابن المواز من رأيه : بل كسوة رجل كبير وإلا لم يجزىء ، قال أشهب ، تعطى الأنثى إذا لم تبلغ الصلاة ثوب رجل ويجزىء ، وقاله ابن الماجشون ، وقوله { أو تحرير رقبة } التحرير الإخراج من الرق ، ويستعمل في الأسر والمشقات وتعب الدنيا ونحوها ، فمنه قوله تعالى عن أم مريم :{ إني نذرت لك ما في بطني محرراً }{[4691]} أي من شغوب{[4692]} الدنيا ، ومن ذلك قول الفرزدق :
ابني غدانة إنني حررتكم *** فوهبتكم لعطية بن جعال{[4693]}
أي حررتكم من الهجاء ، وخص الرقبة من الإنسان إذ هو العضو الذي فيه يكون الغل والتوثق غالباً من الحيوان ، فهو موضع الملك فأضيف التحرير إليها ، واختلف الناس في صفة المعتق في الكفارة كيف ينبغي أن يكون ، فقالت جماعة من العلماء : هذه رقبة مطلقة لم تقيد بأيمان فيجوز في كفارة اليمين عتق الكافر ، وهذا مذهب الطبري وجماعة من العلماء ، وقالت فرقة كل مطلق في القرآن من هذا فهو راجع إلى المقيد في عتق الرقبة في القتل الخطأ فلا يجزي في شيء من الكفارات كافر ، وهذا قول مالك رحمه الله وجماعة معه{[4694]} ، وقال مالك رحمه الله : لا يجزي أعمى ولا أبرص ولا مجنون ، وقال ابن شهاب وجماعة ، وفي الأعور قولان في المذهب ، وكذلك في الأصم وفي الخصي ، وفي العلماء من رأى أن جميع هذا يجزىء وفرق النخعي فجوز عتق من يعمل أشغاله وخدمته ومنع عتق من لا يعمل كالأعمى والمقعد والأشل اليدين ، قال مالك رحمه الله : والأعجمي عندي يجزىء من قصر النفقة وغيره أحب إليّ ، قال سحنون يريد بعد أن يجيب إلى الإسلام ، فإن كان الأعجمي لم يجب إلا أنه ممن يجبر على الإسلام كالكبير من المجوس والصغير من الحربيين الكتابيين فقال ابن القاسم يجزىء عتقه وإن لم يسلم وقال أشهب لا يجزىء حتى يسلم ، ولا يجزىء عند مالك من فيه شعبة حرية كالمدبر وأم الولد ونحوه .
وقوله تعالى { فمن لم يجد } معناه لم يجد في ملكه أحد هذه الثلاثة من الإطعام او الكسوة أو عتق الرقبة واختلف العلماء في حد هذا العادم الَوْجد حتى يصح له الصيام ، فقال الشافعي رحمه الله وجماعة من العلماء إذا كان المكفر لا يملك إلا قوته وقوت عياله يومه وليلته فله أن يصوم ، فإن كان عنده زائداً على ذلك ما يطعم عشرة مساكين لزمه الإطعام ، وهذا أيضاً هو مذهب مالك وأصحابه قال مالك في المدونة : لا يجزئه صيام وهو يقدر على أحد الوجوه الثلاثة ، وروي عن ابن القاسم أن من تفضل له نفقة يوم فإنه لا يصوم ، وقال ابن المواز : ولا يصوم الحانث حتى لا يجد إلا قوته أو يكون في البلد لا يعطف عليه فيه ، وقال ابن القاسم في كتاب ابن مزين : إن كان لحانث فضل عن قوت يومه أطعم إلا أن يخاف الجوع أو يكون في بلد لا يعطف عليه فيه ، وقال سعيد بن جبير : إن لم يكن له إلا ثلاثة دراهم أطعم وقال قتادة : إذا لم يكن له إلا قدر ما يكفر به صام ، وقال الحسن بن أبي الحسن : إذا كان له درهمان أطعم ، قال الطبري : وقال آخرون : جائز لمن لم تكن عنده مائتا درهم أن يصوم وهو ممن لا يجد وقال آخرون : جائز لمن لم يكن عنده فضل على رأس ماله الذي يتصرف به في معاشه أن يصوم ، وقرأ أبي بن كعب فصيام ثلاثة أيام متتابعات ، وكذلك عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي ، وقال بذلك جماعة من العلماء منهم مجاهد وغيره ، وقال مالك رحمه الله وغيره : إن تابع فحسن وإن فرق أجزأ ، وقوله تعالى : { ذلك كفارة أيمانكم } إشارة إلى ما ذكر من الأشياء الثلاثة وقوله { إذا حلفتم } معناه ثم أردتم الحنث أو وقعتم فيه وباقي الآية وصاة وتوقيف على النعمة والإيمان .