172 -174 وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ .
يقول تعالى : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ أي : أخرج من أصلابهم ذريتهم ، وجعلهم يتناسلون ويتوالدون قرنا بعد قرن .
و حين أخرجهم من بطون أمهاتهم وأصلاب آبائهم أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ أي : قررهم بإثبات ربوبيته ، بما أودعه في فطرهم من الإقرار ، بأنه ربهم وخالقهم ومليكهم .
قالوا : بلى قد أقررنا بذلك ، فإن اللّه تعالى فطر عباده على الدين الحنيف القيم .
فكل أحد فهو مفطور على ذلك ، ولكن الفطرة قد تغير وتبدل بما يطرأ عليها من العقائد الفاسدة ، ولهذا قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أي : إنما امتحناكم حتى أقررتم بما تقرر عندكم ، من أن اللّه تعالى ربكم ، خشية أن تنكروا يوم القيامة ، فلا تقروا بشيء من ذلك ، وتزعمون أن حجة اللّه ما قامت عليكم ، ولا عندكم بها علم ، بل أنتم غافلون عنها لاهون .
( وإذ أخذ ربك من بني آدم - من ظهورهم - ذريتهم ، وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا ! أن تقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا غافلين . أو تقولوا : إنما أشرك آباؤنا من قبل . وكنا ذرية من بعدهم . أفتهلكنا بما فعل المبطلون ؟ . . وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون ) . .
إنها قضية الفطرة والعقيدة يعرضها السياق القرآني في صورة مشهد - على طريقة القرآن الغالبة - وإنه لمشهد فريد . . مشهد الذرية المكنونة في عالم الغيب السحيق ، المستكنة في ظهور بني آدم قبل أن تظهر إلى العالم المشهود ، تؤخذ في قبضة الخالق المربي ، فيسألها : ( ألست بربكم ؟ ) . . فتعترف له - سبحانه - بالربوبية ؛ وتقر له - سبحانه - بالعبودية ؛ وتشهد له - سبحانه - بالوحدانية ؛ وهي منثورة كالذر ؛ مجموعة في قبضة الخالق العظيم !
إنه مشهد كوني رائع باهر ، لا تعرف اللغة له نظيراً في تصوراتها المأثورة ! وإنه لمشهد عجيب فريد حين يتملاه الخيال البشري جهد طاقته ! وحينما يتصور تلك الخلايا التي لا تحصى ، وهي تجمع وتقبض . وهي تخاطب خطاب العقلاء - بما ركب فيها من الخصائص المستكنة التي أودعها إياها الخالق المبدع - وهي تستجيب استجابة العقلاء ، فتعترف وتقر وتشهد ؛ ويؤخذ عليها الميثاق في الأصلاب !
وإن الكيان البشري ليرتعش من أعماقه وهو يتملى هذا المشهد الرائع الباهر الفريد . وهو يتمثل الذر السابح . وفي كل خلية حياة . وفي كل خلية استعداد كامن . وفي كل خلية كائن إنساني مكتمل الصفات ينتظر الإذن له بالنماء والظهور في الصورة المكنونة له في ضمير الوجود المجهول ، ويقطع على نفسه العهد والميثاق ، قبل أن يبرز إلى حيز الوجود المعلوم !
لقد عرض القرآن الكريم هذا المشهد الرائع الباهر العجيب الفريد ، لتلك الحقيقة الهائلة العميقة المستكنة في أعماق الفطرة الإنسانية وفي أعماق الوجود . . عرض القرآن هذا المشهد قبل قرابة أربعة عشر قرناً من الزمان ، حيث لم يكن إنسان يعلم عن طبيعة النشأة الإنسانية وحقائقها إلا الأوهام ! ثم يهتدي البشر بعد هذه القرون إلى طرف من هذه الحقائق وتلك الطبيعة . فإذا " العلم " يقرر أن الناسلات ، وهي خلايا الوراثة التي تحفظ سجل " الإنسان " وتكمن فيها خصائص الأفراد وهم بعد خلايا في الأصلاب . . أن هذه الناسلات التي تحفظ سجل ثلاثة آلاف مليون من البشر ، وتكمن فيها خصائصهم كلها ، لا يزيد حجمها على سنتيمتر مكعب ، أو ما يساوي ملء قمع من أقماع الخياطة ! . . كلمة لو قيلت للناس يومذاك لاتهموا قائلها بالجنون والخبال ! وصدق الله العظيم : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) . .
أخرج ابن جرير وغيره - بإسناده - عن ابن عباس قال : " مسح ربك ظهر آدم ، فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة . . . فأخذ مواثيقهم ، وأشهدهم على أنفسهم : ( ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ) " . . وروي مرفوعاً وموقوفاً على ابن عباس . وقال ابن كثير : إن الموقوف أكثر وأثبت . .
فأما كيف كان هذا المشهد ؟ وكيف أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ؟ وكيف خاطبهم : ( ألست بربكم )وكيف أجابوا : ( بلى شهدنا )? . . فالجواب عليه : أن كيفيات فعل الله - سبحانه - غيب كذاته . ولا يملك الإدراك البشري أن يدرك كيفيات أفعال الله ما دام أنه لا يملك أن يدرك ذات الله . إذ أن تصور الكيفية فرع عن تصور الماهية . وكل فعل ينسب لله سبحانه مثل الذي يحكيه قوله هذا كقوله تعالى : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان . . . ) . . ( ثم استوى على العرش ) . . ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) . . ( والسماوات مطويات بيمينه ) . . ( وجاء ربك والملك صفاً صفاً ) . . ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) . . . إلى آخر ما تحكيه النصوص الصحيحة عن فعل الله سبحانه ، لا مناص من التسليم بوقوعه ، دون محاولة إدراك كيفيته . . إذ أن تصور الكيفية فرع عن تصور الماهية كما قلنا . . والله ليس كمثله شيء . فلا سبيل إلى إدراك ذاته ولا إلى إدراك كيفيات أفعاله . إذ أنه . لا سبيل إلى تشبيه فعله بفعل أي شيء ، ما دام أن ليس كمثله شيء . . وكل محاولة لتصور كيفيات أفعاله على مثال كيفيات أفعال خلقه ، هي محاولة مضللة ، لاختلاف ماهيته - سبحانه - عن ماهيات خلقه . وما يترتب على هذا من اختلاف كيفيات أفعاله عن كيفيات أفعال خلقه . . وكذلك جهل وضل كل من حاولوا - من الفلاسفة والمتكلمين - وصف كيفيات أفعال الله ، وخلطوا خلطاً شديداً !
على أن هناك تفسيرا لهذا النص بأن هذا العهد الذي أخذه الله على ذرية بني آدم هو عهد الفطرة . . فقد أنشأهم مفطورين على الاعتراف له بالربوبية وحده . أودع هذا فطرتهم فهي تنشأ عليه ، حتى تنحرف عنه بفعل فاعل يفسد سواءها ، ويميل بها عن فطرتها .
قال ابن كثير في التفسير : قال قائلون من السلف والخلف : إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد - كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي ومن رواية الحسن البصري عن الأسود ابن سريع - وقد فسر الحسن الآية بذلك . قالوا : ولهذا قال : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم )ولم يقل : من آدم . . ( من ظهورهم ) . . ولم يقل من ظهره . . ( ذرياتهم )أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل ، وقرناً بعد قرن ، كقوله تعالى : وهو الذي جعلكم خلفاء الأرض . . وقال : ( ويجعلكم خلفاء الأرض ) . . وقال : ( كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ) . . ثم قال : ( وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ! ) أي أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له . . حالاً . . وقالوا : والشهادة تارة تكون بالقول كقوله : ( قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) . . وتارة تكون حالاً كقوله تعالى : ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ) . . أي حالهم شاهد عليهم بذلك ، لا أنهم قائلون ذلك . . وكذلك قوله تعالى : ( وإنه على ذلك لشهيد ) . . كما أن السؤال تارة يكون بالمقالوتارة يكون بالحال . كقوله : ( وآتاكم من كل ما سألتموه ) . . قالوا : ومما يدل على أن المراد بهذا هذا أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك . فلو كان قد وقع هذا ، كما قال من قال ، لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه . فإن قيل : إخبار الرسول [ ص ] به كاف في وجوده ، فالجواب : أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره . وهذا جعل حجة عليهم ، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد . ولهذا قال : ( أن تقولوا ) . . أي لئلا تقولوا ( يوم القيامة إنا كنا عن هذا ) . أي التوحيد . . ( غافلين ) ،
{ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } أي أخرج من أصلابهم نسلهم على ما يتوالدون قرنا بعد قرن ، و{ من ظهورهم } بدل { من بني آدم } بدل البعض . وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب " ذرياتهم " . { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } أي ونصب لهم دلائل ربوبيته وركب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بها حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم : { قالوا بلى } فنزل تمكينهم من العلم بها وتمكنوا منه بمنزلة الاشهاد والاعتراف على طريقة التمثيل ويدل عليه قوله : { أن تقولوا يوم القيامة } أي كراهة أن تقولوا . { إنا كنا عن هذا غافلين } لم ننبه عليه بدليل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم}، يقول: وقد أخذ ربك من بني آدم... من ظهورهم، {ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم} بإقرارهم، {ألست بربكم قالوا بلى} أنت ربنا،... {شهدنا} إنك ربنا... يقول الله في الدنيا لكفار العرب من هذه الأمة: {أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا} الميثاق الذي أخذ علينا {غافلين}، وأشهدهم على أنفسهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد ربك إذ استخرج ولد آدم من أصلاب آبائهم، فقرّرهم بتوحيده، وأشهد بعضهم على بعض شهادتهم بذلك، وإقرارهم به. كما: حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: حدثنا الحسين بن محمد، قال: حدثنا جرير بن حازم، عن كلثوم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «أخَذَ اللّهُ المِيثاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنَعْمانَ» يعني عرفة «فَأخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلّ ذُرّيّةٍ ذَرأها، فَنَثرَهُمْ بَينَ يَدَيْهِ كالذّرّ، ثُمّ كَلّمَهُمْ فَتَلا فَقالَ: ألَسْتُ بِرَبّكُمْ؟ قالُوا بَلى شَهِدْنا أنْ تَقُولُوا..." إلى "ما فَعَلَ المبْطِلونَ"...
"شَهِدْنا أنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ إنّا كُنّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ" فقال السديّ: هو خبر من الله عن نفسه وملائكته أنه جلّ ثناؤه قال هو وملائكته إذ أقرّ بنو آدم بربوبيته حين قال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى.
فتأويل الكلام على هذا التأويل: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرّياتهم، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى. فقال الله وملائكته: شهدنا عليكم بإقراركم بأن الله ربكم كيلا تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين...
وقال آخرون: ذلك خبر من الله عن قيل بعض بني آدم لبعض، حين أشهد الله بعضهم على بعض. وقالوا: معنى قوله: "وأشْهَدَهُمْ على أنْفُسِهِمْ" وأشهد بعضهم على بعض بإقرارهم بذلك...
فالظاهر يدلّ على أنه خبر من الله عن قيل بني آدم بعضهم لبعض، لأنه جلّ ثناؤه قال: "وأشْهَدَهُمْ على أنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا" فكأنه قيل: فقال الذين شهدوا على المقرّين حين أقرّوا، فقالوا: بلى شهدنا عليكم بما أقررتم به على أنفسكم كيلا تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين.
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُوِرِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}. قيل إنه أخرج الذرية قرناً بعد قرن وأشهدهم على أنفسهم بما جعل في عقولهم وفطرهم من المنازعة لكي تقتضي الإقرار بالربوبية، حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} أخرج الله تعالى ذريه آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء وجميع ذلك أخرجه من صلب آدم مثل الذر وأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم وأنهم مصنوعون فاعترفوا بذلك وقبلوا ذلك بعد أن ركب فيهم عقولا وذلك قوله {وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم} أي قال ألست بربكم {قالوا بلى} فأقروا له بالربوبية فقالت الملائكة عند ذلك {شهدنا} أي على إقراركم {إن} لا {تقولوا} لئلا تقولوا أي لئلا يقول الكفار {يوم القيامة إنا كنا عن هذا} الميثاق {غافلين} لم نحفظه ولم نذكره ويذكرون الميثاق ذلك اليوم فلا يمكنهم الانكار مع شهادة الملائكة وهذه الآية تذكير لجميع المكلفين ذلك الميثاق لأنها وردت على لسان صاحب المعجزة فقامت في النفوس مقام ما هو على ذكر منها...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مِن ظُهُورِهِمْ}... ومعنى أخذ ذرّياتهم من ظهورهم: إخراجهم من أصلابهم نسلاً وإشهادهم على أنفسهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {وإذ أخذ ربك} الآية، التقدير: واذكر إذ أخذ وقوله: {من ظهورهم}... {من بني آدم}، وألفاظ هذه الآية تقتضي أن الأخذ إنما كان من بني آدم من ظهورهم وليس لآدم في الآية ذكر بحسب اللفظة، وتواترت الأحاديث في تفسير هذه الآية عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن عباس وغيرهما أن الله عز وجل لما خلق آدم، وفي بعض الروايات لما أهبط آدم إلى الأرض... مسح على ظهره، وفي بعض الروايات بيمينه، وفي بعض الروايات ضرب منكبه فاستخرج منها أي من المسحة أو الضربة نسم بنيه، ففي بعض الروايات كالَّذر، وفي بعضها كالخردل، وقال محمد بن كعب: إنها الأرواح جعلت لها مثالات، وروى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس وجعل الله لهم عقولاً كنملة سليمان وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره» فأقروا بذلك والتزموه وأعلمهم أنه سيبعث الرسل إليهم مذكرة وداعية، فشهد بعضهم على بعض، قال أبيّ بن كعب وأشهد عليهم السماوات السبع فليس من أحد يولد إلى يوم القيامة إلا وقد أخذ عيله العهد في ذلك اليوم والمقام، وقال السدي: أعطى الكفار العهد يومئذ كارهين على وجه التقية...
هذه نخيلة مجموع الروايات المطولة، وكأن ألفاظ هذه الأحاديث لا تلتئم مع ألفاظ الآية، وقد أكثر الناس في روم الجمع بينهما فقال قوم: إن الآية مشيرة إلى هذا التناسل الذي في الدنيا، و {أخذ} بمعنى أوجد على المعهود وأن الإشهاد هو عند بلوغ المكلف وهو قد أعطي الفهم ونصبت له هذه الصنعة الدالة على الصانع، ونحا إلى هذا المعنى الزجّاج، وهو معنى تحتمله الألفاظ، لكن يرد عليه تفسير عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهما الآية بالحديث المذكور، وروايتهما ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وطوّل الجرجاني في هذه المسألة، ومدار كلامه على أن المسح وإخراج الذرية من أظهر آدم حسب الحديث، وقيل في الآية أخذ من ظهورهم إذ الإخراج من ظهر آدم الذي هو الأصل إخراج من ظهور بنيه الذين هم الفرع إذ الفرع والأصل شيء واحد، إلى كلام كثير لا يثبت للنقد، وقال غيره: إن جميع ما في الحديث من مسح بيمينه وضرب منكبه ونحو هذا إنما هي عبارة عن إيجاد ذلك النسم منه، و «اليمين» عبارة عن القدرة أو يكون الماسح ملكاً بأمر الله عز وجل فتضمن الحديث صدر القصة وإيجاد النسم من آدم، وهذه زيادة على ما في الآية، ثم تضمنت الآية ما جرى بعد هذا من أخذ العهد والنسم حضور موجودون. وهي تحتمل معنيين: أحدهما أن يكون [أخذ] عاملاً في عهد أو ميثاق تقدره بعد قوله: {ذرياتهم} ويكون قوله {من ظهورهم} لبيان جنس البنوة، إذ المراد من الجميع التناسل، ويشركه في لفظة بني آدم بنوه لصلبه وبنوه بالشفقة والحنان، ويكون قوله: {من ذرياتهم} بدلاً من {بني آدم}، والمعنى الآخر أنه لما كانت كل نسمة هنالك لها نسبة إلى التي هي من ظهرها كأن تعيين تلك النسبة أخذ من الظهر إذ ستخرج منه فهي المستأنف، فالمعنى: وإذ عينوا بهذه النسبة وعرفوا بها فذلك أخذ ما و {أخذ} على هذا عامل في {ذرياتهم} وليس بمعنى مسح وأوجد بل قد تقدم إيجادهم كما تقدم الحديث المذكور، فالحديث يزيد معنى على الآية وهو ذكر آدم وأول إيجاد النسم كيف كان...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
. واستعار أن يكون أخذ الميثاق من الظهر كأن الميثاق لصعوبته وللارتباط به والوقوف عنده شيء ثقيل يحمل على الظهر...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو. كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] وفي الصحيحين عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كل مولود يولد على الفطرة -وفي رواية: على هذه الملة- فأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء" وفي صحيح مسلم، عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله [تعالى] 959 إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم 960 الشياطين فاجتالتهم، عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم"...إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فَطْرهم على التوحيد،...
وقد فسر الحسن البصري الآية بذلك، قالوا: ولهذا قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} ولم يقل:"من آدم"، {مِنْ ظُهُورِهِمْ} ولم يقل: "من ظهره "{ذُرِّيَّاتِهِمْ} أي: جعل نسلهم جيلا بعد جيل، وقرنًا بعد قرن، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ} [الأنعام: 165] وقال: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ} [النمل: 62] وقال: {كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام: 133] ثم قال: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} أي: أوجدهم شاهدين بذلك، قائلين له حالا وقالا. والشهادة تارة تكون بالقول، كما قال [تعالى] {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} [الأنعام: 130] الآية، وتارة تكون حالا كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17] أي: حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك، وكذلك قوله تعالى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات: 7] كما أن السؤال تارة يكون بالقال، وتارة يكون بالحال، كما في قوله: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 34] قالوا: ومما يدل على أن المراد بهذا هذا، أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك، فلو كان قد وقع هذا كما قاله من قال لكان كل أحد يذكره، ليكون حجة عليه. فإن قيل: إخبار الرسول به كاف في وجوده، فالجواب: أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره. وهذا جعل حجة مستقلة عليهم، فدل على أنه الفطرة التي فُطِروا عليها من الإقرار بالتوحيد؛ ولهذا قال: {أَنْ يَقُولُوا} أي: لئلا يقولوا يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا} أي: [عن] التوحيد {غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا} الآية.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
: {وإذ} أي واذكر لهم إذ {أخذ} أي خلق بقوله وقدرته {ربك} أي المحسن إليك بالتمهيد لرسالتك...
ولما كان السياق لأخذ المواثيق والأخذ بقوة، ذكر أخذ الذرية من أقوى نوعي الآدمي، وهم الذكور فقال: {من بني آدم} وذكر أنه جعلها من أمتن الأعضاء فقال: {من ظهورهم} كل واحد من ظهر أبيه {ذريتهم} إشارة إلى أنه لما أكد عليهم المواثيق وشددها لهم وأمرهم -بالقوة في أمرها، أعطاهم من القوة في التركيب والمزاج ما يكونون به مطيعين لذلك، فهو تكليف بما في الوسع...
{وأشهدهم على أنفسهم} أي أوضح لهم من البراهين من الإنعام بالعقول مع خلق السماوات والأرض وما فيهما على هذا المنوال الشاهد له بالوحدانية وتمام العلم والقدرة، ومن إرسال الرسل المؤيدين بالمعجزات ما كانوا كالشهود بأنه لا رب غيره؛ والمراد إقرار نفوسهم، لا إقرار الألسنة،؛ ثم ذكر أن النفوس فطرت على معرفة الأشياء على ما هي عليه لقرب الاستعداد للإدراك...
ولما تبين أنه فرد لا شريك له فلا راد لأمره، وأنه رب فلا أرأف منه ولا أرحم، كان ذلك أدعى إلى طاعته خوفاً من سطوته ورجاء لرحمته، فكانوا بذلك بمنزلة من سئل عن الحق فأقر به، فلذلك قال: {ألست بربكم} أي المحسن إليكم بالخلق والتربية بالرزق وغيره {قالوا بلى شهدنا} أي كان علمنا بذلك علماً شهودياً، وذلك لأنهم وصلوا بعد البيان إلى حد لا يكون فيه الجواب إلا ذلك فكأنهم قالوه؛ فهو- والله أعلم -من باب قوله تعالى {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً 980} [الرعد: 15]- الآية و {لله يسجد ما في السماوات والأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون} [النحل: 49]. ولما كان كأنه قيل: لم فعل ذلك؟ قيل: دلالة على أن المتقدم إنما هو على طريق التمثيل يجعل تمكينهم من الاستدلال كالإشهاد، فعله كراهة {أن يقولوا يوم القيامة} أي إن لم ينصب لهم الأدلة {إنا كنا عن هذا} أي وحدانيتك وربوبيتك {غافلين} أي لعدم الأدلة فلذلك أشركنا...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه الآيات بدء سياق جديد في شؤون البشر العامة المتعلقة بهداية الله لهم بما أودع في فطرتهم وركب في عقولهم من الاستعداد للإيمان به وتوحيده وشكره، في إثر بيان هدايته لهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب في قصة بني إسرائيل، فالمناسبة بين هذا وما قبله ظاهرة ولذلك عطف عليه جملة على جملة، أو سياق على سياق.
قال تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} الظهور جمع ظهر وهو العمود الفقري لهيكل الإنسان الذي هو قوام بنيته، ومركز النخاع الشوكي الذي عليه مدار حياته، فيصح أن يعبر به عن جملة وجوده الجسدي الحيواني، والذرية سلالة الإنسان من الذكور والإناث. قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب (ذرياتهم) بالجمع والباقون ومعناهما واحد فإن المفرد المضاف يفيد العموم، ورسمها في المصحف الإمام واحد، وقوله (من ظهورهم) بدل من بني آدم بمعناه والجمهور على أنه بدل البعض من الكل، وهو الظاهر إذا لم يرد بهذا البعض ذلك الكل، وقال أبو البقاء هو بدل اشتمال.
والمعنى واذكر أيها الرسول في إثر ذكر أخذ ميثاق الوحي على بني إسرائيل خاصة، ما أخذه الله من ميثاق الفطرة والعقل على البشر عامة، إذ استخرج من بني آدم ذريتهم بطنا بعد بطن، فخلقهم على فطرة الإسلام، وأودع في أنفسهم غريزة الإيمان، وجعل من مدارك عقولهم الضرورية إن كل فعل لابد له من فاعل، وكل حادث لابد له من محدث، وإن فوق كل العوالم الممكنة القائمة على سنة الأسباب والمسببات، والعلل والمعلولات، سلطانا أعلى على جميع الكائنات، وهو الأول والآخر، وهو المستحق للعبادة وحده، -وقد بسطنا هذه المسألة- وهذا معنى قوله تعالى: {وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا} [الأعراف: 172] أي أشهد كل واحد من هذه الذرية المتسلسلة على نفسه بما أودعه في غريزته واستعداد عقله قائلا قول إرادة وتكوين، لا قول وحي وتلقين، ألست بربكم؟ فقالوا كذلك بلغة الاستعداد ولسان الحال، لا بلسان المقال: بل أنت ربنا والمستحق وحده لعبادتنا.
فهو من قبيل قوله تعالى بعد ذكر خلق السماء {فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} [فصلت: 11] وهذا النوع من التعبير والبيان يسمى في عرف علماء البلاغة بالتمثيل، وهو أعلى أساليب البلاغة وشواهده في القرآن الكريم وكلام البلغاء كثيرة.
بين سبحانه سبب هذا الإشهاد وعلته فقال:
{أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} أي فعلنا هذا منعا لاعتذاركم أو احتجاجكم يوم القيامة بأن تقولوا إذا أنتم أشركتم به: إنا كنا غافلين عن هذا التوحيد للربوبية وما يستلزمه من توحيد الإلهية بعبادة الرب وحده والمراد أنه تعالى لا يقبل منهم الاعتذار بالجهل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا الدرس كله يدور حول قضية التوحيد والشرك.. بعدما دار قصص السورة كله حول هذه القضية، متخذاً صورة التذكير من الرسل جميعاً بحقيقة التوحيد، والتحذير من عاقبة الشرك؛ ثم تحقق النذر بعد التذكير والتحذير. فالآن في هذا الدرس تعرض قضية التوحيد من زاوية جديدة، وزاوية عميقة.. تعرض من زاوية الفطرة التي فطر الله عليها البشر؛ وأخذ بها عليهم الميثاق في ذات أنفسهم، وذات تكوينهم؛ وهم بعد في عالم الذر!.. إن الإعتراف بربوبية الله وحده فطرة في الكيان البشري. فطرة أودعها الخالق في هذه الكينونة وشهدت بها على نفسها بحكم وجودها ذاته، وحكم ما تستشعره في أعماقها من هذه الحقيقة. أما الرسالات فتذكير وتحذير لمن ينحرفون عن فطرتهم الأولى؛ فيحتاجون إلى التذكير والتحذير.. إن التوحيد ميثاق معقود بين فطرة البشر وخالق البشر منذ كينونتهم الأولى، فلا حجة لهم في نقض الميثاق -حتى لو لم يبعث إليهم بالرسل يذكرونهم ويحذرونهم- ولكن رحمته وحدها اقتضت ألا يكلهم إلى فطرتهم هذه فقد تنحرف؛ وألا يكلهم كذلك إلى عقولهم التي أعطاها لهم فقد تضل؛ وأن يبعث إليهم رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل! ومن هذه الزاوية، التي تعرض منها قضية التوحيد في هذا الدرس، يتخذ السياق خطوطا شتى حول هذه القضية الكبرى. منها خط قصصي عن حالة ترد بعض الروايات بأنها وقعت في تاريخ بني إسرائيل.. ولكن الأرجح أنها نموذج غير مقيد بزمان ولا مكان، إنما هو تصوير لحالة مكرورة في النفوس والتاريخ. كلما أوتي بعض الناس نصيباً من العلم كان خليقاً أن يقوده إلى الحق والهدى، فإذا هو ينسلخ مما أوتي من العلم، فلا ينتفع به شيئاً، ويسير في طريق الضلالة كمن لم يؤتوا من العلم شيئاً. بل يصير أنكد وأضل وأشقى بهذا العلم الذي لم تخالطه بشاشة الإيمان، الذي يحول هذا العلم إلى مشكاة هادية في ظلام الطريق! ومنها خط قصصي آخر عن حالة تصويرية لخطوات انحراف الفطرة من التوحيد إلى الشرك.. ممثلة في زوجين من البشر، يرجوان الخير في الجنين القادم لهما؟ وتتجه فطرتهما إلى الله ربهما، ويقطعان للّه العهود لئن آتاهما خلفا صالحا ليكونن من الشاكرين.. ثم تزيغ قلوبهما بعد أن يستجيب الله لهما، فإذا هما يجعلان للّه شركاء فيما آتاهما! ومنها خط تصويري لتعطل أجهزة الاستقبال الفطرية في الكينونة البشرية، حتى تنتهي إلى الضلال الذي يهبط بالبشر عن مرتبة الأنعام، ويجعلهم وقوداً لجهنم عن جدارة واستحقاق.. فتكون لهم قلوب لا يفقهون بها، وتكون لهم أعين لا يبصرون بها، وتكون لهم آذان لا يسمعون بها.. ويكون وراء ذلك الضلال الذي لا رجعة منه ولا مآب! ومنها خط إيحائي لاستجاشة هذه الأجهزة المعطلة، وإيقاظها للتدبر والتفكر، وتوجيهها إلى ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء، ولمسها بالأجل المغيب الذي يكمن وراءه الموت، ودعوتها إلى النظر في حال هذا الرسول الكريم الذي يدعو إلى الهدى، فيرميه الضالون بالجنون! ومنها خط جدلي حول آلهتهم المدعاة، وهي مجردة من خصائص الألوهية، بل من خصائص الحياة! وينتهي هذا كله بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تحديهم وتحدي آلهتهم، وإعلان مفاصلته ومفارقته لهم ولمعبوداتهم وعبادتهم، والالتجاء إلى الولي الذي لا ولي غيره: (الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين).. ولقد كانت نهاية الدرس السابق في قصة بني إسرائيل هي مشهد الميثاق الذي أخذه الله عليهم في ظل الجبل المرفوع. فهذا الدرس الجديد يتابعه فيبدأ بقضية الميثاق الأكبر الذي أخذه الله على فطرة البشر. في مشهد لا يدانيه في الجلال والروعة مشهد الجبل المرفوع!
إنها قضية الفطرة والعقيدة يعرضها السياق القرآني في صورة مشهد -على طريقة القرآن الغالبة- وإنه لمشهد فريد.. مشهد الذرية المكنونة في عالم الغيب السحيق، المستكنة في ظهور بني آدم قبل أن تظهر إلى العالم المشهود، تؤخذ في قبضة الخالق المربي، فيسألها: (ألست بربكم؟).. فتعترف له -سبحانه- بالربوبية؛ وتقر له -سبحانه- بالعبودية؛ وتشهد له -سبحانه- بالوحدانية؛ وهي منثورة كالذر؛ مجموعة في قبضة الخالق العظيم!.. وهي تخاطب خطاب العقلاء -بما ركب فيها من الخصائص المستكنة التي أودعها إياها الخالق المبدع- وهي تستجيب استجابة العقلاء، فتعترف وتقر وتشهد؛ ويؤخذ عليها الميثاق في الأصلاب!... لقد عرض القرآن الكريم هذا المشهد الرائع الباهر العجيب الفريد، لتلك الحقيقة الهائلة العميقة المستكنة في أعماق الفطرة الإنسانية وفي أعماق الوجود...
فأما كيف كان هذا المشهد؟ وكيف أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم؟ وكيف خاطبهم: (ألست بربكم) وكيف أجابوا: (بلى شهدنا)؟.. فالجواب عليه: أن كيفيات فعل الله -سبحانه- غيب كذاته. ولا يملك الإدراك البشري أن يدرك كيفيات أفعال الله ما دام أنه لا يملك أن يدرك ذات الله. إذ أن تصور الكيفية فرع عن تصور الماهية...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وحاصل المعنى: أن الله خلق في الإنسان من وقت تكوينه إدراك أدلة الوحدانية، وجعل في فطرة حركة تفكير الإنسان التطلع إلى إدراك ذلك، وتحصيل إدراكه إذا جرد نفسه من العوارض التي تدخل على فطرته فتفسدها ...
... ووقع {أن تقولوا} في موقع التعليل لفعل الأخذ والإشهاد، فهو على تقرير لام التعليل الجارة، وحذفُها مع أنْ جار على المطرد الشائع. والمقصود التعليل بنفي أن يقولوا {إنا كنا عن هذا غافلين} لا بإيقاع القول، فحذف حرف النفي جريا على شيوخ حذفه مع القول، أو هو تعليل بأنهم يقولون ذلك، إن لم يقع إشهادهم على أنفسهم كما تقدم عند قوله تعالى: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب} في سورة الأنعام (156).
وقرأ الجمهور: أن تقولوا بتاء الخطاب وقد حول الأسلوب من الغيبة إلى الخطاب، ثم من خطاب الرسول إلى خطاب قومه، تصريحاً بأن المقصود من قصة أخذ العهد تذكير المشركين بما أودع الله في الفطرة من التوحيد، وهذا الأسلوب هو من تحويل الخطاب عن مخاطب إلى غيره، وليس من الالتفاف لاختلاف المخاطبين. وقرأه أبو عمرو، وحده: بياء الغيبة، والضمير عائد إلى ذريات بني آدم.
والإشارة {بهذا} إلى مضمون الاستفهام وجوابه وهو الاعتراف بالربوبية لله تعالى على تقديره بالمذكور.
والمعنى: أن ذلك لمَّا جُعل في الفطرة عند التكوين كانت عقول البشر منساقة إليه، فلا يغفل عنه أحد منهم فيعتذرَ يوم القيامة، إذا سئل عن الإشراك، بعذر الغفلة، فهذا إبطال للاعتذار بالغفلة، ولذلك وقع تقدير حرف نفي أي أنْ لا تقولوا إلخ.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وإنه مع هذا الدليل المادي الحسي القارع نجدهم غيروا وبدلوا وانحرفوا عما أمرهم به الله – سبحانه وتعالى – وقد أردف – سبحانه وتعالى – ذلك ببيان ميثاق الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}.
(إذ) ظرف للزمن الماضي، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو تذكير بأن الفطرة الإنسانية توجب الإيمان بأن الله رب هذا الوجود وحده، وأنه هو الذي خلقه، وهو واحد بذاته وبصفاته، وقد حتم تعالى ذلك بالفطرة الإنسانية.
قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك} عبر عن ذي الجلالة بربك بالإشارة إلى معنى الربوبية التي تملأ نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد أدركها قبل النبوة بالفطرة الإنسانية الكاملة، فنفر من عبادة الأوثان، وعبد الله تعالى وحده، وقال إنه الديان وحده.
{وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم} ومن بني آدم: عطف بيان على قوله تعالى: {من بني آدم} وهذا بيان لنوع من أخذ من ذريتهم، وهم بنوا آدم، وهذا مبين عموم الذين ينتسبون إلى آدم أبي الخليقة، وقوله تعالى: {من ظهورهم}، أي وهم في أصلاب آبائهم، قبل أن يصلوا إلى أرحام أمهاتهم، وهذا يدل على أن ذلك من وقت الإنشاء، فوقت الآدمي من وقت أن يكون في صلب أبيه.
وقوله تعالى: {ذريتهم} منصوبة على أنها مفعول أخذ، ومؤدى القول أن لربك أخذ الذرية من التي هي من الأصلاب وهي في الأصلاب ذلك العهد، أو ذلك الإقرار الذي كان بحكم الفطرة. قال لهم ربهم: {ألست بربكم} وهو تفسير لمعنى الأخذ.
الهمزة للاستفهام، والاستفهام هنا إنكاري بمعنى النفي، و (لست) للنفي، وقالوا: إن نفي النفي إثبات، والمعنى أنا ربكم الحق، وجيء بذلك النحو من القول لتأكيد الإيجاب كأنه سألهم، وأجابوا بالإثبات، أي بإثبات الربوبية. وقد أجابوا على هذا السؤال مثبتين موجب نفي النفي، قالوا: بلى، وهي تثبت ما بعد النفيين، أي أنت ربنا، وقالوا: {شهدنا}، أي أقررنا.
وقوله تعالى: {وأشهدهم على أنفسهم}، أي حملهم على الإقرار على أنفسهم، أو اتخذ منهم شهداء على أنفسهم فاستجابوا وشهدوا على أنفسهم فهي شهادة الفطرة الإنسانية السليمة بالربوبية لله تعالى.
وقد بين – سبحانه – حكمة هذا الميثاق فقال تعالى: {أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} أن تقولوا: مضاف إليه لمضاف محذوف تقديره: كراهية أن تقولوا إنا كنا عن هذا غافلين، فإنه في فطرتكم التي خلقكم الله تعالى عليها، ولن تغفلوا عما فطركم الله تعالى عليه، إلا أن تطمسوا فطرتكم بالأهواء والأوهام التي تطمسون عليها، فلا تدرك، وتحولون بينكم وبين نورها الهادي المرشد.
وإن هذا الذي ذكره الله تعالى من أخذ ذرية بني آدم من الأصلاب فيه تصوير محكم دقيق لتكوين الفطرة الإنسانية على الإقرار بمعنى الربوبية والتوحيد، لسلامة التكوين وأنه سوى خلقه فأحسن تسويته، وأنه صوره فأحسن صورته وقد قال بعض المفسرين: إن هذه المجاوبة مجاز؛ إذ شبهت حال خلق الإنسان مفطورا على الإيمان بهذه المجاوبة، ونحن نقول تبعا لهذا التخريج: فهذا الأخذ فيه تصوير لتكوين الفطرة، ولقد قال تعالى في الإسلام ودعوة الله: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (30)} (الروم).
وإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم آمن بفطرته، وهجر الأوثان بعقله، وإبراهيم أبو الأنبياء فكر بفطرته، حتى اهتدى إلى ربه، وقال بعد اهتدائه: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا.} (الأنعام 79).
ولقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه مسلم: (يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم).
وروى الطبري بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواها يهودانها، أو ينصرانها).
أوضح النبي صلى الله عليه وسلم: أن ربنا سبحانه وتعالى مسح بيده على ظهر آدم وأخرج منه الذرية، وقال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. وبهذا عَلِمنا أنّ كل ذرّة من الذرات قد أُخذت مما قبلها، وأخذ منها ما بعدها؛ وكلها مأخوذ ومأخوذ منه، اللهم إلا القوسين؛ القوس الأول: آدم لأنه مأخوذ منه وليس مأخوذا من شيء، والقوس الثاني: آخر ولد من أولاده مأخوذ وليس مأخوذا منه؛ لأن الإنسان منا وُجد من حيوان أبيه المنويّ. ولو أن الحيوان المنوي أصابه موت لما أنجب الأب. ومن ولد من حيوان منوي لأب، هذا الأب مأخوذ من حيوان منوي حي من الجد أيضا، وسلسلها إلى آدم؛ ستجد أن كل واحد منا فيه جزء حي من لدن آدم لن يدركه موت أبدا. لذلك يقول ربنا: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} (من الآية 172 سورة الأعراف).
وخاطب الذرية بقوله تعالى: {ألست بربكم}؟. وهنا قد يقول قائل: أكان لهذه الذرية القدرة على النطق؛ إنها ذرية تنتظر التكوين الآخر؛ لتتحد مثلا ب "البويضة "في رحم الأم؟ فنرد عليه ونقول: لماذا تظن أن مخاطبة ربنا لهم أمر صعب؟ إن الواحد من البشر يستطيع أن يتعلم عشر لغات، ويتزوج من أربع سيدات، وكل سيدة ينجب منها ذرية، ويقعد يوما عند سيدة وذريتها ويعلمها اللغة الإنجليزية مثلا، ويجلس مع الأخرى ويعلمها اللغة الألمانية، ويعلم الثالثة وأولادها اللغة العربية وهكذا، بل يستطيع أن يتفاهم حتى بالإشارة مع من لا يعرف لغته. وإذا كان الإنسان يستطيع أن يعدد وسائل الأداء، ألا يقدر أن يعدد وسائل الأداء لمخلوقاته؟ إنه قادر على أن يعدد ويخاطب، ألم يقل الحق تبارك وتعالى للجبال: {يا جبال أوبي معه} (من الآية 10 من سورة سبأ). كيف إذن لا يتسع أفق الإنسان لأن يدرك أن الله قادر على أن يخاطب أيا من مخلوقاته؟. إنه قادر على أن يخاطب كل مخلوق له بلغة لا يفهمها الآخر. وهو القائل سبحانه: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} (من الآية 79 من سورة الأنبياء). ونعلم من القرآن الكريم كذلك أن الجبال تسبح أيضا من غير داود، شأنها شأن المخلوقات جميعها مصداقا لقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (من الآية 44 من سورة الإسراء). وحتى ذرات يد الكافر تسبح، وإن كان تسبيحها لا يوافق إرادته. وقول الحق سبحانه: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ}: يبين لنا أن الجبال كانت تردد تسبيح داود وتلاوته للزبور، ولا يقتصر أمر الحق إلى الجبال بل إلى كل مخلوق، فنحن على سبيل المثال نقرأ في القرآن الكريم أن ربنا أوحى إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون. إذن فلله مع خلقه أدوات خطاب؛ لأنه هو الذي خلق الكون والمخلوقات، وله سبحانه خطاب بألفاظ، وخطاب إشارات، وخطاب بإلهام، وخطاب بوحي، فإذا قرأنا أن الحق تبارك وتعالى قال لذرية آدم: ألست بربكم؟ فهذا يعني أنه قالها لهم باللغة التي يفهمونها، لأنه سبحانه الذي قال للسماء والأرض: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (من الآية 11 من سورة فصلت). ولقد تكلمت النملة وفهم سليمان كلامها، ولو لَمْ يعلم الله سليمان كيف يفهم كلامها لما عرفنا أنها تكلمت: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} (من الآية 18 من سورة النمل). إنها تفهم ما يفعله البشر حين يدوسون على كائنات صغيرة دون أن يروها، ولكن سليمان نبي من أنبياء الله، ولن يعتدي على خلق الله، والنملة التي تكلمت كانت تحرس بقية النمل. وكذلك تكلم الهدهد ليخبر سيدنا سليمان عن مملكة سبأ وحالة بلقيس وقومها. إذن فالله عز وجل يخاطب جميع خلقه، ويجيبه جميع خلقه، فلا نقل: كيف خاطب المولى سبحانه الذر، والذر لم يكن مكلفا بعد؟ ولم يحاول العلماء أن يدخلوا في هذه المسألة؛ لأنها في ظاهرها بعيدة عن العقل، ويكفي أن ربنا الخالق القادر قد أبلغنا أنه قد خاطب الذرات قائلا: ألست بربكم؟. قالوا: بلى. ويبدوا من هذا القول أن المسألة تمثيل للفطرة المودعة في النفس البشرية. وكأنه سبحانه قد أودع في النفس البشرية والذات الإنسانية فطرة تؤكد له أن وراء هذا الكون إلها خالقا قادرا مدبرا.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
فطرة الإنسان تشهد لله تعالى بالربوبية إن الله يؤكد في آياته على إقامة الحجّة على الناس، في ما منحهم من وسائل الهداية ودلّهم عليه من سُبُلها، فلا حجّة لهم في كُفرٍ أو في معصيةٍ، بالرغم من محاولتهم التعلق ببعض الأوهام التي يعتبرونها أساساً لما يسيرون فيه من طرق الضلال، أو ينحرفون به من سبيل... وفي هذه الآيات بعض الحديث عن ذلك...
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} فقد أودع في أصلاب الرجال النطف التي يخلق منها الذرية بالوسائل الطبيعية، على أساس ما جعله من قوانين الخلق والإيجاد {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ}؟ ولكن هل كان هذا الإشهاد جماعياً دفعةً واحدةً، أو كان تدريجياً على أساس السنّة الطبيعية للخلق في إخراج الأبناء من أصلاب الآباء؟... ليس هناك في الآية ما يؤكد الاحتمال الأول، لأنّ مجرّد الحديث عن الموضوع بطريقة الجمع لا يدلّ على ذلك، لأن الطريقة القرآنية جرت على الحديث عن القضايا الإنسانية التي تخضع لعنوانٍ واحدٍ أو موقفٍ مشتركٍ بأسلوبٍ يوحي باعتبارها ظاهرةً واحدة، في الوقت الذي لا تكون مثل هذه القضايا مجموعةً في زمانٍ واحدٍ، لأنّ الهدف هو الحديث عن الفكرة المشتركة التي تجمع الكلَّ، بعيداً عن طبيعة الخصوصيات الفرديّة المتمثّلة فيها على صعيد وجودها الخاص، بل ربما نجد ما يؤكد الاحتمال الثاني، لأن الظاهر أن إخراج الذرية من الظهور واردٌ على سبيل الكناية عن عملية الخلق والإيجاد الفعلي، كما في الآيات التي تتحدث عن خلق الناس جميعاً من دون تفصيلٍ للطريقة التدريجية في ذلك. وإذا كان الأمر كذلك، كانت المسألة ظاهرةً في تدريجية الوجود، لأن الخلق الفعلي كان على هذا الأساس. وعلى هذا، فإنّ المراد بالإشهاد، هو الإشهاد المنطلق من عملية الخلق، في ما أودعه الله في كل واحدٍ من الدلائل والبراهين على وجوده وتوحيده، من خلال الفطرة التي أودعها في تكوين الإنسان، مما تعتبر شاهداً على قضية الإيمان في ما توحي به من أفكار، وما تثيره من مشاعر، إذا لم ينحرف بها الإنسان عن مسارها الطبيعي بسوء اختياره. وبهذا يكون كل فردٍ من بني آدم شاهداً على نفسه بفطرته التي تنطق بذلك، بنفس حركة الوجود في كيانه من دون كلام، لأن الفطرة تحس بالحاجة إلى الله في كل شيء، فالإنسان لا يملك أيّة إمكانيةٍ للوجود، أو إمكانية لاستمراره بعيداً عن الله، ممّا يجعل من وجوده وجوداً مرتبطاً بالله في كل شيء. ففي كل نبضة من نبضاته هاتف يهتف بالوحدانية. {قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ} بأنك أنت الله ربّنا لا إله إلا أنت، منك الحياة، وبإرادتك تستمر بنا. {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} أي لئلاّ تقولوا في حالة اختياركم للخط المنحرف في الإيمان والعمل، أو تحتجّوا بالغفلة الفكرية والروحية عن مسألة الوحدانية، لأنكم لا تملكون الأساس الذي يبعث فيكم اليقظة الوجدانية التي توحي بالحقيقة، فإنّ الفطرة الإنسانية تعتبر أساساً لحركة الوعي الإيمانيّ في كيان الإنسان...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
التّفسير العهدِ الأوّل وعالم الذّر: الآيات المذكورة أعلاه، تشير إلى «التوحيد الفطري» ووجود الإِيمان في أعماق روح الإنسان... ولذلك فإنّ هذه الآيات تُكمل الأبحاث الواردة في الآيات المتقدمة من هذه السورة في شأن «التوحيد الاستدلالي»!...