{ 73 - 74 } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }
هذا مثل ضربه الله لقبح عبادة الأوثان ، وبيان نقصان عقول من عبدها ، وضعف الجميع ، فقال : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } هذا خطاب للمؤمنين والكفار ، المؤمنون يزدادون علما وبصيرة ، والكافرون تقوم عليهم الحجة ، { ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ } أي : ألقوا إليه أسماعكم ، وتفهموا ما احتوى عليه ، ولا يصادف منكم قلوبا لاهية ، وأسماعا معرضة ، بل ألقوا إليه القلوب والأسماع ، وهو هذا : { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } شمل كل ما يدعى من دون الله ، { لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا } الذي هو من أحقر المخلوقات وأخسها ، فليس في قدرتهم خلق هذا المخلوق الضعيف ، فما فوقه من باب أولى ، { وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ } بل أبلغ من ذلك لو { يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ } وهذا غاية ما يصير من العجز . { ضَعُفَ الطَّالِبُ } الذي هو المعبود من دون الله { وَالْمَطْلُوبُ } الذي هو الذباب ، فكل منهما ضعيف ، وأضعف منهما ، من يتعلق بهذا الضعيف ، وينزله منزلة رب العالمين .
ثم يعلن في الآفاق ، على الناس جميعا ، إعلانا مدويا عاما . . يعلن عن ضعف الآلهة المدعاة ؛ الآلهة كلها التي يتخذها الناس من دون الله . ومن بينها تلك الآلهة التي يستنصر بها أولئك الظالمون ، ويركن إليها أولئك الغاشمون . يعلن عن هذا الضعف في صورة مثل معروض للأسماع والأبصار ، مصور في مشهد شاخص متحرك ، تتملاه العيون والقلوب . . مشهد يرسم الضعف المزري ويمثله أبرع تمثيل :
( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له : إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ) . .
إنه النداء العام ، والنفير البعيد الصدى : ( يا أيها الناس ) . . فإذا تجمع الناس على النداء أعلنوا أنهم أمام مثل عام يضرب ، لا حالة خاصة ولا مناسبة حاضرة : ( ضرب مثل فاستمعوا له ) . . هذا المثل يضع قاعدة ، ويقرر حقيقة . ( إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ) . . كل من تدعون من دون الله من آلهة مدعاة . من أصنام وأوثان ، ومن أشخاص وقيم وأوضاع ، تستنصرون بها من دون الله ، وتستعينون بقوتها وتطلبون منها النصر والجاه . . كلهم ( لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ) . . والذباب صغير حقير ؛ ولكن هؤلاء الذين يدعونهم آلهة لا يقدرون - ولو اجتمعوا وتساندوا - على خلق هذا الذباب الصغير الحقير !
وخلق الذباب مستحيل كخلق الجمل والفيل . لأن الذباب يحتوي على ذلك السر المعجز سر الحياة . فيستوي في استحالة خلقه مع الجمل والفيل . . ولكن الأسلوب القرآني المعجز يختار الذباب الصغير الحقير لأن العجز عن خلقه يلقي في الحس ظل الضعف أكثر مما يلقيه العجز عن خلق الجمل والفيل ! دون أن يخل هذا بالحقيقة في التعبير . وهذا من بدائع الأسلوب القرآني العجيب !
ثم يخطو خطوة أوسع في إبراز الضعف المزري : ( وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ) . . والآلهة المدعاة لا تملك استنقاذ شيء من الذباب حين يسلبها إياه ، سواء كانت أصناما أو أوثانا أو أشخاصا ! وكم من عزيز يسلبه الذباب من الناس فلا يملكون رده . وقد اختير الذباب بالذات وهو ضعيف حقير . وهوفي الوقت ذاته يحمل أخطر الأمراض ويسلب أغلى النفائس : يسلب العيون والجوارح ، وقد يسلب الحياة والأرواح . . إنه يحمل ميكروب السل والتيفود والدوسنتاريا والرمد . . ويسلب ما لا سبيل إلى استنقاذه وهو الضعيف الحقير !
وهذه حقيقة أخرى كذلك يستخدمها الأسلوب القرآني المعجز . . ولو قال : وإن تسلبهم السباع شيئا لا يستنقذوه منها . . لأوحى ذلك بالقوة بدل الضعف . والسباع لا تسلب شيئا أعظم مما يسلبه الذباب ! ولكنه الأسلوب القرآني العجيب !
ويختم ذلك المثل المصور الموحي بهذا التعقيب : ( ضعف الطالب والمطلوب ) . ليقرر ما ألقاه المثل من ظلال ، وما أوحى به إلى المشاعر والقلوب !
يقول تعالى منبها على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ } أي : لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به ، { فَاسْتَمِعُوا لَهُ } أي : أنصتوا وتفهموا ، { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ } أي : لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن يقدروا على خلق ذباب واحد ما قدروا على ذلك . كما قال الإمام أحمد .
حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا شَرِيك ، عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زُرْعة ، عن أبي هريرة - رفع الحديث - قال : " ومن أظلم ممن خلق [ خلقا ]{[20415]} كخلقي ؟ فليخلقوا مثل خلقي ذَرّة ، أو ذبابة ، أو حَبَّة " {[20416]} .
وأخرجه صاحبا الصحيح ، من طريق عُمَارة ، عن أبي زُرْعةَ ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله عز وجل : " ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ؟ فليخلقوا ذرة ، فليخلقوا شعيرة " {[20417]} .
ثم قال تعالى أيضا : { وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ } أي : هم عاجزون عن خلق ذباب واحد ، بل أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومته والانتصار منه ، لو سلبها شيئًا من الذي عليها من الطيب ، ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك . هذا والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها ولهذا [ قال : { ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } ] {[20418]} .
قال ابن عباس : الطالب : الصنم ، والمطلوب : الذباب . واختاره ابن جرير ، وهو ظاهر السياق . وقال السدي وغيره : الطالب : العابد ، والمطلوب : الصنم .
أعقبت تضاعيف الحجج والمواعظ والإنذارات التي اشتملت عليها السورة مما فيه مقنع للعلم بأن إله الناس واحد وأن ما يُعبد من دونه باطل ، أعقبت تلك كلها بمثَل جامع لوصف حال تلك المعبودات وعابديها .
والخطاب ب { يا أيها الناس } للمشركين لأنهم المقصود بالردّ والزجر وبقرينة قوله : { إن الذين تدعون } على قراءة الجمهور { تدعون } بتاء الخطاب .
فالمراد ب { الناس } هنا المشركون على ما هو المصطلح الغالب في القرآن . ويجوز أن يكون المراد ب { الناس } جميعَ الناس من مسلمين ومشركين .
وفي افتتاح السورة ب { يا أيها الناس } وتنهيتها بمثل ذلك شبه بردّ العجز على الصدر . ومما يزيده حسناً أن يكون العجز جامعاً لما في الصدر وما بَعده ، حتى يكون كالنتيجة للاستدلال والخلاصةِ للخطبة والحَوصلة للدرس .
وضرب المثل : ذِكرهُ وبيانُه ؛ استعير الضرب للقول والذكر تشبيهاً بوضع الشيء بشدّة ، أي ألقي إليكم مثَل . وتقدم بيانه عند قوله تعالى : { أن يضرب مثلاً ما } في [ سورة البقرة : 26 ] .
وبني فعل { ضُرب } بصيغة النائب فلم يذكر له فاعل بعكس ما في المواضع الأخرى التي صُرّح فيها بفاعل ضَرْب المثل نحو قوله تعالى : { إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما } في [ سورة البقرة : 26 ] و { ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً } في [ سورة النحل : 75 ] و { ضرب الله مثلاً رجلاً } في [ سورة الزمر : 29 ] و { ضرب الله مثلاً رجلين } في [ سورة النحل : 76 ] . إذ أسند في تلك المواضع وغيرها ضَرب المثل إلى الله ، ونحو قوله : { فلا تضربوا لله الأمثال } في [ سورة النحل : 74 ] . و { ضرب لنا مثلاً ونسي خلقه } في [ سورة يس : 78 ] ، إذ أسند الضرب إلى المشركين ، لأنّ المقصود هنا نسج التركيب على إيجاز صالح لإفادة احتمالين :
أحدهما : أن يقدّر الفاعل الله تعالى وأن يكون المثَل تشبيهاً تمثيلياً ، أي أوضح الله تمثيلاً يوضح حال الأصنام في فرط العجز عن إيجاد أضعف المخلوقات كما هو مشاهد لكلّ أحد .
والثاني : أن يقدّر الفاعل المشركين ويكون المثَل بمعنى المُماثل ، أي جعلوا أصنامهم مُماثلة لله تعالى في الإلهية .
وصيغة الماضي في قوله { ضُرب } مستعملة في تقريب زَمن الماضي من الحال على الاحتمال الأول ، نحو قوله تعالى : { لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً } [ النساء : 9 ] ، أي لو شارفوا أن يَتركوا ، أي بعد الموت .
وجملة { إن الذين تدعون من دون الله } إلى آخرها يجوز أن تكون بياناً لفعل { ضُرب } على الاحتمال الأول في التقدير ، أي بين تمثيل عجيب .
ويجوز أن تكون بياناً للفظ { مثَل } لما فيها من قوله : { تدعون من دون الله } على الاحتمال الثاني .
وفرع على ذلك المعنى من الإيجاز قوله : { فاستمعوا له } لاسترعاء الأسماع إلى مُفاد هذا المثَل مما يبطل دعوى الشركة لله في الإلهية ، أي استمعوا استماع تَدبّر .
فصيغة الأمر في { استمعوا له } مستعملة في التحريض على الاحتمال الأول ، وفي التعجيب على الاحتمال الثاني . وضمير { له } عائد على المثَل على الاحتمال الأول لأنّ المثل على ذلك الوجه من قبيل الألفاظ المسموعة ، وعائدٌ على الضّرب المأخوذ من فعل { ضُرب } على الاحتمال الثاني على طريقة
{ اعدلوا هو أقرب للتقوى } [ المائدة : 8 ] ، أي استمعوا للضرب ، أي لما يدلّ على الضرب من الألفاظ ، فيقدر مُضاف بقرينة { استمعوا } لأن المسموع لا يكون إلاّ ألفاظاً ، أي استمعوا لما يدلّ على ضرب المثل المتعجّب منه في حماقة ضاربيه .
واستعملت صيغة الماضي في { ضُرب } مع أنه لمَّا يُقَلْ لتقريب زمن الماضي من الحال كقوله : { لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً } [ النساء : 9 ] ، أي لو قاربوا أن يتركوا ، وذلك تنبيه للسامعين بأن يتهيأوا لتلقي هذا المثل ، لما هو معروف لدى البلغاء من استشرافهم للأمثال ومواقعها .
والمَثل : شاع في تشبيه حالة بحالة ، كما تقدّم في قوله { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } في [ سورة البقرة : 17 ] ، فالتشبيه في هذه الآية ضمني خفيّ ينبىء عنه قوله : { ولو اجتمعوا له } وقوله { لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب } . فشُبهت الأصنام المتعددة المتفرقة في قبائل العرب وفي مكّة بالخصوص بعظماء ، أي عند عابديها . وشبهت هيئتها في العجز بهيئة ناس تعذّر عليهم خلق أضعف المخلوقات ، وهو الذباب ، بلْهَ المخلوقات العظيمة كالسماوات والأرض . وقد دلّ إسناد نفي الخلق إليهم على تشبيههم بذوي الإرادة لأنّ نفي الخلق يقتضي محاولة إيجاده ، وذلك كقوله تعالى : { أموات غير أحياء } كما تقدم في [ سورة النحل : 21 ] . ولو فرض أن الذباب سلبهم شيئاً لم يستطيعوا أخذه منه ، ودليل ذلك مشاهدة عدم تحركهم ، فكما عجزت عن إيجاد أضعف الخلق وعن دفع أضعف المخلوقات عنها فكيف تُوسم بالإلهية ، ورمز إلى الهيئة المشبه بها بذكر لوازم أركان التشبيه من قوله { لن يخلقوا } وقوله { وإن يسلبهم الذباب شيئاً } إلى آخره ، لا جرم حصل تشبيه هيئة الأصنام في عجزها بما دون هيئة أضعف المخلوقات فكانت تمثيلية مكنية .
وفسر صاحب « الكشاف » المثل هنا بالصفة الغريبة تشبيهاً لما ببعض الأمثال السائرة . وهو تفسير بما لا نظير له ولا استعمال يعضده اقتصاداً منه في الغوص عن المعنى لا ضُعفاً عن استخراج حقيقة المثل فيها وهو جُذَيعُها المحكّك وعُذيقها المرجب ولكن أحسبه صادف منه وقت سرعة في التفسير أو شغلاً بأمر خطير ، وكم ترك الأول للأخير .
وفرع على التهيئة لتلقي هذا المثل الأمر بالاستماع له وإلقاء الشراشر لوعيه وترقب بيان إجماله توخيّاً للتفطّن لما يتلى بعد .
وجملة { إن الذين تدعون } الخ بيان ل { مثل } على كلا الاحتمالين السابقين في معنى { ضرِب مَثل } ، فإن المثَل في معنى القول فصحّ بيانه بهذا الكلام .
وأكد إثبات الخبر بحرف توكيد الإثبات وهو ( إن ) ، وأكد ما فيه من النفي بحرف توكيد النفي ( لَن ) لتنزيل المخاطبين منزلة المنكرين لمضمون الخبر ، لأنّ جعلهم الأصنام آلهة يقتضي إثباتهم الخلق إليها وقد نفي عنها الخلق في المستقبل لأنه أظهر في إقحام الذين ادعوا لها الإلهية لأنّ نفي أن تخلق في المستقبل يقتضي نفي ذلك في الماضي بالأحرى لأن الذي يفعل شيئاً يكون فعله من بعد أيسر عليه .
وقرأ الجمهور { تَدْعُون } بتاء الخطاب على أن المراد بالنّاس في قوله : { يا أيها الناس } خصوصَ المشركين . وقرأه يعقوب بياء الغيبة على أن يقصد ب { يا أيها الناس } جميع الناس وأنّهم عُلِموا بحال فريق منهم وهم أهل الشرك . والتقدير : إن الذين يدعون هم فريق منكم .
والذّباب : اسم جمععِ ذبابة ، وهي حشرة طائرة معروفة ، وتجمع على ذِبّان بكسر الذال وتشديد النون ولا يُقال في العربية للواحدة ذِبّانة .
وذكر الذّباب لأنه من أحقر المخلوقات التي فيها الحياة المشاهدة . وأما ما في الحديث في المصورين قال الله تعالى : « فليخلقوا حبة وليخلقوا ذرة » فهو في سياق التعجيز لأنّ الحبّة لا حياة فيها والذرة فيها حياة ضعيفة .
وموقع { لو اجتمعوا له } موقع الحال ، والواو واو الحال ، و ( لو ) فيه وصلية . وقد تقدّم بيان حقيقتها عند قوله : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به } في [ سورة آل عمران : 91 ] . أي لن يستطيعوا ذلك الخلق وهم مفترقون ، بل ولو اجتمعوا من مفترق القبائل وتعاونوا على خلق الذباب لن يخلقوه .
والاستنقاذ : مبالغة في الإنقاذ مثل الاستحياء والاستجابة .
وجملة { ضعف الطالب والمطلوب } تذييل وفذلكة للغرض من التمثيل ، أي ضعف الداعي والمدعو ، إشارة إلى قوله : { إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً } الخ ، أي ضعفتم أنتم في دعوتهم آلهة وضعفت الأصنام عن صفات الإله .